الرئيسية / الوحدة العربية / دراسة : الانهيار الكبير اسباب قيام وسقوط وحدة مصر وسوريا

دراسة : الانهيار الكبير اسباب قيام وسقوط وحدة مصر وسوريا

94814

محمد عبد المولى

الفهرس

مقدمة عامة
كيفية دراسة تجربة الوحدة والانفصال

فصل تمهيدي
العلاقات المصرية السورية قبل الوحدة
1        مركز سوريا في قلب المشرق العربي
2        تنسيق السياستين الخارجيتين لمصر وسوريا
3        ميثاق الدفاع المشترك بين مصر وسوريا

الباب الأول
اسباب دعوة سوريا للوحدة
تقديم
الفصل الأول
الأسباب الخارجية التي أدت إلى الوحدة
المبحث الأول : حلف بغداد
أولاً : كسر احتكار السلاح
ثانيا : ضغط حلف بغداد على سوريا
المبحث الثاني : مشروع ايزنهاور
أولاً : مؤتمر انقرة
ثانياً : الأزمة السورية
الفصل الثاني
العوامل الداخلية التي ساهمت في قيام الوحدة
المبحث الأول : الأحزاب السورية
أولاً : احزاب تقليدية محافظة
ثانياً : احزاب تقدمية ثورية
المبحث الثاني : دور الجيش في السياسة الداخلية لسوريا
ختام

الباب الثاني
دولة الوحدة 1958- 1961
تقديم
الفصل الأول
قيام الجمهورية العربية المتحدة
المبحث الأول : مفاوضات الوحدة
1        الوحدة أم الاتحاد
2        قيام الدولة الجديدة قانوناً
3        الأسس التي قامت عليها ج – ع- م  ودستورها المؤقت
4        التكييف القانوني لنظام الدولة الاتحادي
المبحث الثاني : ردود الفعل التي أثارها قيام ج –ع- م
1        الاعتراف بالدولة الجديدة
2        رأي الدول الغربية – والمحيطة بسوريا – بالوحدة .
3        رأي الشيوعية الدولية والمحلية بالوحدة
4        الوحدة وقلب ميزان القوى في المنطقة
الفصل الثاني
تطور علاقات أجهزة دولة الوحدة
المبحث الأول : النظام السياسي 1- السلطات
المبحث الثاني : النظام الاقتصادي والإداري
ختام

الباب الثالث
الانفصال
تقديم
الفصل الأول
ملابسات الانفصال
المبحث الأول : ذرائع الانفصال وحججه
المبحث الثاني : صدى ونتائج  الانفصال
أولاً : صدى الانفصال في العالم
ثانياً : نتائج الانفصال
الفصل الثاني
العوامل الرئيسية التي أدت إلى الانفصال
المبحث الأول : العوامل الرئيسية التي أدت إلى الانفصال
المبحث الثاني العوامل الثانوية
ختام الباب الثالث
ختام الكتاب
الملاحق
سجل تاريخي لأهم الأحداث التي تضمنها الكتاب
المراجع
1        العربية
2        الأجنبية المترجمة
3        الأجنبية
4        الوثائق والبيانات
5        المجلات والدوريات العربية والأجنبية



مقدمة عامة
كيفية دراسة تجربة الوحدة والانفصال

هل يجب على الفكر القومي أن يلتزم، في دراسته لتجربة الوحدة، بمجرد التصوير التاريخي لهذا الحدث ويقتصر على هذه المسؤولية التاريخية الخاصة، متناولا جوانبها العلمية فقط؟ أم يجب أن يتجاوز ذلك التصوير التاريخي لتلك الظاهرة متجهاً الى فهم التجربة ، ومعبراً في نفس الوقت عن معاناة الحس القومي الذي يقوم بالدرجة الأولى على فعل تقييمي؟

أن التصوير التاريخي فعل تسجيلي وصفي بحت. أما التصوير التقييمي فهو الخط الذي يمكن اتباعه في دراسة ظاهرة وحدة 1958. وهذا الخط يحمل في ذاته فهما قياسيا تقييميا في المقام الأول. اذ أنه هو الذي يكشف عن بقية التطور الكلي بما فيه من عوامل سلبية وعوامل ايجابية، تمتزج مع بعضها البعض موجهة حركة التغيير نحو الأهداف التي تطرحها فكرة القومية العربية، والوحدة أهم هدف آني لها.

وعلى ذلك فاهمال ذكر الأحداث التاريخية بترتيبها الزمني الصارم، يقابله تسجيل لأهم الأحداث لابراز الاتجاهات التي سادت في دولة الوحدة.

ذلك أن الوحدة التي قامت عام 1958 هي جزء من الثورة العربية الشاملة، هذه الثورة التي تتجه الى إنشاء المستقبل العربى، وتطرح نفسها كأداة للتاريخ العربي، ولا بد لها اذن من أن تعرف كل ما يعيق طريقها من الأدوات التي تحارب وصولا الى نقاط الضعف والوهن التي تصيبها، ” أو من غرور وخداع للنفس “.

ومن كتبوا التاريخ العربى تجاوزوا وتجاهلوا ذكر العيوب، ودأبوا على الخوف من النقد، ولم تعلمنا عصور الانحطاط الا ذلك الكذب المنظم تحت ستار أخلاق النفاق، فنحن إما ألا نرى الا الخير كله، وإما ألا نرى الا الشر كله “.

انطلاقا من الفكرة السابقة فان بحثنا سيقتصر على ذكر الحوادث بترتيبها الزمني بالقدر الذي تخدم الفكرة الأصلية في طرحنا موضع الوحدة والانفصال على أساس تقييمي بحت. ولم نكن لنتبع هذا المنهج الجدلي لو لم يقع المؤرخون العرب والأجانب، على حد سواء بمغالطة خطيرة جدا، وهي أنهم حاولوا أن يؤرخوا بعد فشل التجربة، أي نكسة الوحدة وقيام الانفصال، لسنوات  الوحدة، وسجلوا تاريخهم محوّرين فيه ومحولين الظاهرة الى قانون عام ينطبق على المستقبل العربي كله جملة وتفصيلا . نقصد أنهم حولوا ظاهرة الانفصال- وهي بلا أدنى شك عرضية وزائلة- الى قانون عام لفشل الوحدة التي قامت عام 1958، وبالتالي لأية وحدة ستقوم مستقبلا:

ان حركة التاريخ، وفي أحيان كثيرة، لا تكون تكرارا على الاطلاق ، بل وغالباً ما تكون تجاوزاً لحدث قائم .. وهكذا كان الانفصال تجاوزاً مؤقتاً وعرضياً لواقعة الوحدة.

ولم يكن الإنفصال أكثر من لحظة توقف لمسيرة طويلة للتاريخ العربي المعاصر والحديث. فمواقف الفشل و النكسات التي ألمت بالأمة العربية، هزت واقعها ونبشت في جذورها التاريخية والفكرية والحضارية، مستطلعة عن امكانيات جديدة تهديها طريق الخلاص، فصدمة الفشل تدفع  لدى الشعوب الحية الى شئ من الدهشة الحزينة، الدهشة الممزوجة بالخوف. وعند ذلك لا بد أن تنبثق التساؤلات ثانية. ولن تنال هذه التساؤلات الأسباب المباشرة، بقدر ما تطرح الموقف الكلي لإنسان الحضارة على بساط اعادة النظر. فكما قيل أن الفلسفة نشأت من تأمل الموت، كذلك يمكن القول أن معرفة الذات تبدأ من توقف العمل ، من النكوص والارتداد، من الفشل ذاته “.

فالوحدة ، وإن كانت جزئية، قد قامت، والانفصال أصبح واقعا ملموساً في حياة الأمة العربية، واصطحب، معه موقف الدهشة الممزوج بالكثير من عوارض الخوف على مستقبل الأمة العربية، وقد طرح بالفعل الموقف الكلي لانسان الواقع العربي المعاصر. وبدأ الناس يدرسون الذات العربية، كل ذلك لتوقف العمل، بمعنى لتوقف الوحدة، وان مرحليا ، بارتدادها بفعل عوامل داخلية وخارجية الى حركة انفصالية. فهل الانفصال بحد ذاته تعبيراً عن فشل الوحدة والتجربة ؟
أم أن الوحدة شيء حي بذاته، والانفصال لحظة توقف اصطناعية لدم يسير في جسد الأمة العربية؟ وهل الخطأ في الوحدة كفكرة، أو الخطأ في الوحدة التي قامت عام 1958 كتجربة وتطبيق؟

الرد على الأسئلة السابقة يتحدد بالاجابة على أسئلة أخرى هي :

1- ما هي العوامل الخارجية والداخلية، التي أدت إلى قيام الوحدة متمثلة في الجمهورية العربية المتحدة في الثاني والعشرين من فبراير (شباط) عام 1958؟
2- كيف سارت الأمور داخل الدولة الوحدوية ومن حولها أثناء عمرها؟ وكيف واجهها العالم؟
3- ما هي العوامل التي أدت الى الانفصال قي الثامن والعشرين من سبتمبر (ايلول) عام 1961؟.

الكتاب بمضمونه الكلي يرد على الأسئلة الثلاثة السابقة.

محمد عبد المولى الزعبى




فصل تمهيدي
العلاقات المصرية السورية قبل الوحدة

ان تحديد تاريخ معين، لبداية العلاقات المصرية السورية ضرب من المستحيل لا يمكن ادعاؤه. بل ان هذه العلاقة قد قامت على مر العصور ومختلف الأزمان، وقبل أن تدخل الدولتان في رحاب الدين الإسلامي.

وما يهمنا في هذا المجال هو الالتقاء المباشر الذي قربته الظروف المتشابهة التي أحاطت بالبلدين، خاصة بعد قيام الثورة المصرية في 23 يوليو عام 1952، حيث أعلنت هذه الثورة عن اهـدافها وتبينها للدائرة العربية التي هي أهم دوائر السياسة الخارجية المصرية على الاطلاق (1).

أما متى برزت الشخصية العربية في مصر فهذا تاريخ لا ندعي بانه جديد على الإطلاق. ولكن ما يهمنا قوله هنا أن تجزئة البلاد العربية واقتسامها بين الانتدابين البريطاني والفرنسي قد أدت الى تثبيط العزائم بالتفكير في أي تعاون فعال فيما بين الدول العربية في فترة ما بين الحربين، ولذا راح زعماء مصر الوطنيون يتطلعون الى اتجاهات أخرى لضمان المساعدة لشعبهم (2). وخلال الحرب العالمية الثانية شعر الزعماء المصريون بحاجتهم الى اقتحام السياسات العربية عندما اتضح أن البلاد العربية ستحقق استقلالها، وستنظم نفسها في جامعة تكون وسيلة لاتحاد عربي، حتى ولو كانت تحت وصاية بريطانية. أن لمصر العديد من الأسباب التي تؤيدها في هذا الاتجاه أهمها أن تحول بين زعماء العرب الآخرين، ولا سيما الهاشميين، وبين انشاء دولة عربية كبيرة يتولى زعامتها الهاشميون، وبذلك لا تصبح تلك الدولة الموحدة موازنة لمصرفقط ، بل ربما فاقتها في قوتها. وهذا التفكير له ما يبرره منطقياً . كانت مصر تحصر همّها في التخلص من الاحتلال البريطاني، وكانت العائلة الهاشمية قد تعاونت مع الانكليز أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، وإذا ما قامت دولة عربية متحدة بقيادة الأسرة ستكون عوناً لانجترا، وهذا ما يضعف موقف مصر من جلاء الاحتلال عن أراضيها.

قامت الجامعة العربية، وتولت مصر فيها دوراً قيادياً، وقامت حرب فلسطين في عام 1948 فاشتركت مصر فيها. وهذان الحدثان أبرزا شخصية مصر كبلد عربي على المستوى السياسي العملي وعلى المستوى النفسي، وهذا أهم المستويين (3).

وقامت ثورة يوليو لتعلن عن شخصيتها العربية بعد أن تخلصت من قوات الاحتلال. وانفتحت الثورة ذهنياً على من حولها فإذا بها تجعل ” العناصر الثورية المتقدمة في الوطن العربي تتفاعل معها بعد أن كانت قد قاومت الانقلاب بالنسبة لاختباراتها السابقة مع الانقلابات العسكرية خاصة مع سوريا. وأدى هذا التفاعل المستمر الى تلقيح الانقلاب في مصر بالجانب الثوري التقدمي في الفكر العربي الحديث ( 4). أن تبنى سياسة الحياد الإيجابي بعد عقد صفقة الأسلحة التشيكية والاشتراك الفعال في معركة التحرر العربي ” لم يكونا الا التعبيرين عن الذهنية المنفتحة على متطلبات الثورة العربية المعاصرة (5). ” ونرى أن الحركة العسكرية المصرية وقد التزمت بتغييرات جذرية على الصعيد الداخلي، السياسي والاجتماعي ، ” وعلى أثر وضوح التزام الانقلاب المصري (6) لحركة القومية العربية التقدمية تحول الإنقلاب الى ثورة وأصبح الوضع الثوري في مصر وضعا طليعيا كوّن لذاته مركزاً قيادياً رئيسياً  في الحركة الشعبية. وهكذا أثبتت الانقلابية العسكرية في مصر ذهنية ثورية لم نعهدها، وبكل صراحة لم نكن ننتظرها ” (7).

وخلال السنوات الأربع التي مرت على مصر، ابتداء من قيام الثورة حتى العدوان الثلاثي ، كانت الأحداث المتتالية تعصف بأجزاء الوطن العربي و خاصة تلك المتعلقة بالمشرق، وعلى وجه أخص ازاحة دكتاتورية أديب الشيشكلي في فبراير عام 1954، وتسلم السلطة في سوريا تكتلا اختلفت اتجاهاته، ولكن القوى الثورية السورية كان لها الغلبة في النهاية ورجحت التفاعل الثوري بين مصر وسوريا. وتسجيل العلاقات المصرية السورية انما هو تسجيل لبداية التفاعل والاندفاع نحو الوحدة بين القطاعين الفكري والعملي ، الأول يتمثل في القوى الوحدوية الثورية الأصيلة في الشعب السوري وأهمها البعث والثاني يتمثل في الثورة المصرية وقيادتها.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية تحررت سوريا من الاحتلال ، وفي نفس الوقت أدى تعاظم حركة التحرر في بقية الأقطار العربية إلى أن تفتش عن وسيلة الاتصال ببعضها وان تحطم الحدود المصطنعة ” وتشكل حداً ثورياً يصعد من قاعدة الهرم للأمة بكاملها ( 8) ” وكان لا بد للاستعمار من أن يفتش بدوره عن وسيلة يمنع هذا الاتصال، هادفاً من ذلك الى تجزئة وحدة النضال القومي وقوفاً بوجه بروز دولة عربية كبرى ، فمهد لنكبة فلسطين وانشأ دولة اسرائيل ، ودعم الفئة الحاكمة الموالية له في كل دولة عربية، وجمد حركة الوعي الثوري الجماهيري بالطغيان والارهاب. ولكن التاريخ كات قد حسر عن الروح الأصيلة للأمة العربية على أنه يجب بعثها عن طريق عمل ذاتي من أعمال الاعتراف ‘ اذ لا يمكن الاقرار بمكانة الأمة العربية بين أمم العالم المتحضرة الا نتيجة للقيام بعمل مصمم يجسد هذه الارادة بشكل مادى.

وعلى هذا الأساس بدأت الحركة الجماهيرية العربية تبحث عن وسيلة لتجسيد ارادتها بشكل مادي، فما وجدت أفضل من سوريا ومصر. وكان اللقاء أول ما كان في السياسة الخارجية للبلدين، ثم تشعب ليصل الى الاهتمام بالسياسة الداخلية.
على أن مركز سوريا بالنسبة لدول المشرق العربي ، ومركز مصر بالنسبة للدول العربية الواقعة في الشمال الإفريقي قد جعلهما نقطتي ارتكاز وانطلاق الى بقية الاقطار العربية : من هنا جاء تنسيق السياستين الخارجيتين للدولتين، ثم ميثاق الدفاع المشترك فيما بينهما.

1مركز سوريا في قلب المشرق العربي :

كانت سوريا قبل الوحدة محط أنظار الدول العربية المحيطة بها من ناحية، ومعرضة لأفدح الأخطار من المؤامرات الخارجية من ناحية ثانية. ويكفي أن يذكر الإنسان ذلك الجو النفسي الذي عاشه الشعب السوري عشية يوم الوحدة حتى يدرك العوامل التي دفعته الى طلب الوحدة.

نظرة إلى الأنظمة السائدة في الدول المحيطة بسوريا، تعكس الإتجاهات السياسية الي كانت تأخذ مجراها، بعضها سطحي وبعضها عميق، في واقع  الحياة السورية، هذه الاتجاهات العنيفة هي التي دفعت ( باتريك سيل ) في كتابه (الصراع حول سوريا) الى أن يقول بأن من استطاع السيطرة على سوريا أمكنه أن يحكم المشرق العربي كله .. لا بل منطقة الشرق الأوسط بأسرها (9).

تقع سوريا شرق البحر الأبيض المتوسط ، يحدها من الشمال تركيا التي تتصل مباشرة بالاتحاد السوفييتي، وهي عضو في حلف الأطلسي ، وعضو مؤسس في حلف بغداد، وكانت تحكم سوريا حتى الحرب العالمية الأولى . وسوريا هي البوابة الغربية الشمالية للعراق حيث البترول، وهذه قد ارتبطت بالغرب وعضو مؤسس في حلف بغداد (10) ، ولها أطماعها الهاشمية في سوريا. ويحدها من الجنوب فلسطين المحتلة ومن الغرب الجنوبي لبنان ، وفي جنوبها الشرقي تقع المملكة الأردنية. وعلى هذا فهي في قلب المشرق العربي . فالاستعمار والقوى الأجنبية في المنطقة يهمها السيطرة على سوريا لأنها بموضع القلب والمدخل الساحلي الغربي للشرق الأوسط.

وإذا ما ترجمنا هذا الواقع الجغرافي الى واقع سياسي . في المجالين الدولي والعربي ، فان الأمر يبدو من أعقد الأمور .

تقع سوريا وسط التيارات المتعارضة التالية : انها بمثابة مرآة للمصالح الحيوية في المجال الدولي بحيث انها تستحق أهتماما خاصا. وحقا ، فان مصالحها الداخلية ليس لها أهمية في الكثير من الأحيان ، اللهم الا باتصالها بالمضمون الواسع لذلك المجال ، أولا بالنسبة لجيرانها العرب، وثانيا بالنسبة للقوى الكبرى ذات المصلحة. وليس صدفة أن تعكس سوريا في بنيانها السياسي الداخلي منافسات جيرانها حيث انه من يود أن يحكم الشرق الأوسط يجب عليه أن يسيطر على سوريا (11) . وهناك العديد من الأسباب المؤيدة لوجهة النظر هذه :

الأول : هو الموقع الاستراتيجي لها ، فهي حارسة المسالك الشمالية- الشرقية المؤدية لمصر. و  تحرس خط اليابسة الممتد من العراق للبحر الأبيض المتوسط ، وهي رأس شبه الجزيرة العربية و الحدود الشمالية للعالم العربي .

الثاني : هو أن سوريا يمكنها أن تقول بأنها كلا من رأس وقلب الحركة القومية منذ بدايتها في نهاية القرن الماضي ، فهي قد ولدت الأفكار السياسية ، وهي مركز الأحلام الكثيرة (12).

الثالث : وكما انها كانت بمثابة مركز المنافسات بين الدول العربية ، فانها كانت أيضا الرابطة التي تمت بموجبها التسويات الدبلوماسية الكبيرة التي جرت قبل كل من الغرب والاتحاد السوفييتي . هذه المنافسات وتلك التسويات التي كانت ، وإلى حد كبير ، على مخطط السياسات السورية الداخلية التي خاضت المعارك الفاصلة مع حلف بغداد و مبدأ أيزنهاور والمزايدة السوفييتية لجلب سوريا داخل تأثير الدائرة السوفييتية في عام 1957. ولقد كان أخد المسائل السابقة بعين الاعتبار هو الذي يحدد مستوى النجاح أو السقوط على صعيد السياسة الداخلية.

الرابع : وماسبق لا يدعو للقول بأن سوريا قد ظهرت كنقطة أساسية قي المزاحمات الدولية فقط ، بل لقد كانت السياسة الداخلية السورية معقدة الى أبعد الحدود ، ، ” حيث أن التقسيم الداخلي للأفكار الرئيسية فيها ثرى الغناء ، وخاصة ما يتعلق منها بالسياسة العربية . ويجب ان لا نعتقد ، من ثم ، انها الضحية لمشاجرات شعب آخر . حيث انه وفي الكثير من الأحيان العكس هو الصحيح . بمعنى لقد صدر الخلاف من داخل سوريا الى جيرانها وتعداهم ، وإذا ما فتشنا عن أسباب أزمة دولية محزنة فإن الخيط يقودنا في بعض الأحيان الى دمشق .

” ان سوريا تشبه فحص عينة محددة من سياسة معرض الأحياء المائية للشرق الأوسط .. ان العديد من المباديء والاتجاهات السياسية في العالم العربي اليوم أما أنها أنبعثت منها أو يمكن رؤيتها فيها بوضوح خاص. ” (13) .

مهما يكن فانه مع بداية الخمسينات من هذا القرن بدأنا نلاحظ ” أن كل المؤامرات الاستعمارية والأجنبية بدأت وتركزت على سوريا بالذات ” ، ولهذا أسبابه. أولا لموقعها من التيارات العالمية المتصارعة في المنطقة. وثانياً لأنها االبلد العربي الذي حمل لواء فكرة الوحدة العربية عندما كانت بقية الدول العربية لا تعرف معنى الوحدة الا على أساس من السيطرة والتسلط والحكم مثلما حدث مع الاسرة الهاشمية في بداية هذا القرن ، وفي الحرب العالمية الأولى اثناء ثورة الشريف حسين .

لقد جابهت سوريا في عام 1957من الضغوط ، لو وجهت لأي بلد عربي آخر لما تمكن من الصمود كما فعلت هي . هذا في اعتقادنا السبب المباشر الذي دفع سوريا لطلب الوحدة في عام 1958

2-  تنسيق السياستين الخارجيتين لمصر وسوريا:

يسجل تاريخ قيام جامعة الدول العربية في عام 1944 نقطة تاريخية هامة في العلاقات بين الدول العربية عامة، وبين مصر وسوريا بشكل خاص. وكذلك يمكن القول أن ما تركته حرب فلسطين من تأثير على الدول العربية وعلاقاتها بالعالم الخارجي يمثل نقطة التقاء أخرى بين السياستين الخارجيتين للدولتين . ولكن ما يهمنا في هذا البحث هي الفترة التي تبتديء مع قيام الثورة المصرية ولقائها بعد خريف عام 1954 بالحكم الوطني الذي قام في سوريا نتيجة للاطاحة بحكم العقيد أديب الشيشكلي.

ومن ناحية أخرى، يمكن القول على وجه التحديد أن بداية تنسيق السياستين الخارجيتين لمصر وسوريا، من الناحية العملية، قد بدأت مع الدعوة الى مؤتمر باندونج . هذا، ولا يخفي اتخاذ الحكومتين موقفاً بالنسبة للاتفاق العراقي التركي، الذي سمى حلف بغداد فيما بعد، كما سيأتي تفصيله في حينه.

كانت حكومة الثورة في مصر قد أجرت اتصالات مع الحكومة السورية قبل انعقاد مؤتمر باندونج، وذلك لانتهاج سياسة عربية موحدة، تهدف لابراز الشخصية العربية في المجال الدولي، وتعمل بتنسيق مدروس من أجل تقوية المواقف العربية في المحافل الدولية. ولاقت هذه الدعوة قبولا من الحكومة السورية. وعقب زيارة لسوريا قام بها وفد مصري برئاسة صلاح سالم أعلن في دمشق في الثاني من مارس سنة 1955، وبعد أسبوع من تاريخ توقيع معاهدة التضامن العراقي التركي في 24 فبراير (شباط) أعلن بيان مشترك كان أهم ماجاء فيه ما يلى :

1- عدم الانضمام الى الحلف التركي العراقي أو أية أحلاف أخرى .
2- اقامة منظمة دفاع ، وتعاون اقتصادي عربي مشترك.
3- الاتصال بالحكومات العربية لعرض أسس ومباديء البيان المشترك ودعوة الدول العربية للموافقة عليها.
4- انتهاج سياسة عربية مستقلة وموحدة (14).

وحتى تكون الدعوة أعم وأشمل، تبع هذا البيان تشكيل وفد مصري سوري مشترك قام بزيارة لكل من لبنان والأردن والسعودية والعراق. وكانت نتائج زيارة الوفد المشترك متباينة. تقبلت السعودية مباديء وأسس البيان المصري السوري ، أما الأردن فقد تظاهر بالحياد، وكذلك فعل لبنان. اما حكومة العراق فقد غيرت مجرى الحديث والهدف من الزيارة وحاولت أن تقنع الوفد ” بأن الاتفاق العراقي التركي لا يخرج عن التعاون بين الجارين “..

ولكن المفاجأة حدثت عندما انضمت بريطانيا للاتفاق بعد رجوع الوفد بقليل (15)، وبالتحديد في 30 مارس 1955، وأعلنت بريطانيا ان الاطار الدفاعي لحلف بغداد حل محل اتفاقية سنة 1930 مع العراق.

من هنا، ومما انتهت إليه الزيارة من نتائج ، ظهر في الأفق العربي أن معسكرين سيشكلان: معسكر يضم مصر وسوريا من جهة، ومعسكر تقوده بغداد.

كان مؤتمر باندونج أقوى لقاء على مستوى السياسة الخارجية الدولية بين مصر وسوريا في تلك المرحلة. ولعل من أهم نتائج مؤتمر باندونج المباشرة، وفيما يخص العرب وقضاياهم هي تحويل ذلك التوازي في الانتصارات الثورية بين مصر وسوريا، الى اتفاق رسمي من أجل تدعيم سياسة عدم الانحياز، ومحاربة حلف بغداد، وأهدافه في المنطقة العربية، والدعوة للوحدة العربية المباشرة. ولذلك فقد انتقلت مصر بثورتها الجديدة الى مرحلة التفاعل التام بالسياسة العربية، فدخلت هذه الحلبة بوجه تحرري مضئ نقل لأول مرة أيضاً الثورة العربية من مستوى العمل الجماهيري الى مستوى انبثاق دولة عربية، ذات تنهيج تحرري واضح “. (16).

ولما انتهى إليه مؤتمر باندونج من نتائج ايجابية على الصعيد الدولي، واعلان مصر الواضح لانتهاج سياسة خارجية موحدة ومتحررة ، بدأ الغرب ينظر بعين غير مرتاحة لهذه السياسة الحيادية من المعسكرين ، وبدأت بوادر أزمة تستفحل بين مصر والغرب لها العديد من الأسباب أهمها رفض الغرب تمويل العرب بالسلاح .

ولكن القيادة الثورية في مصر استطاعت أن تعلن بداية ثورتها الواضحة والصريحة ضد الاستعمار الغربي وأعلنت كسر طوق حصار السلاح . هذا الإعلان الذي كان نصراً مبدئياً عظمت نتائجه كلما تقدمنا في تسجيل الأحداث التي نجمت عنه. وهكذا أعلنت الثورة عن حاجتها للسلاح للدفاع عن مصر تجاه التهديد الإسرائيلي ، ولما رفض الغرب امداد مصر بالسلاح أعلنت الثورة انها ستشتري السلاح ممن يبيع، ما دامت صفقة البيع هذه لا تفرض أية شروط من نوع تلك الشروط التي دأبت دول الغرب في فرضها على العرب للتدخل في شؤونهما الداخلية والخارجية على حد سواء. (17)

3- ميثاق الدفاع المشترك بين مصر وسوريا

مع خريف عام 1955 اشتدت الدعوة لحلف بغداد وبدأت العراق وتركيا تمارسان ضغطاً عنيفاً على سوريا للدخول في هذا الحلف. و لكن الوعي الشعبي والجيش السوري وبعض الأحزاب التقدمية أتلفوا التأثيرات والضغوط العنيفة وان لم يزيلوا تأثيرها تماماً .

وأمام الوضع المتفاقم من تأثير حلف بغداد و ضغطه على سوريا جرت في أوائل سبتمبر عام 1955 مفاوضات بين مصر وسوريا أدت الى توقيع ميثاق دفاع عسكري مشترك بين الدولتين. ولقد وقع هذا الميثاق للدفاع العسكري المشترك تطبيقاً للبيان الصادر في دمشق في 2/3 نتيجة للزيارة التي قام بها وفد مصري برئاسة صلاح سالم كما ذكرنا سابقاً . ورفض البيان المذكور انضمام البلدين الى الحلف العراقي التركي، وحث في نفس الوقت على اقامة منظمة للدفاع المشترك وإقامة تعاون اقتصادي عربي مشترك.

تتابعت المفاوضات في شهري سبتمبر وأكتوبر ( أيلول وتشرين اول) من عام 1955، حتى انتهت في 22 من أكتوبر الى عقد اتفاق مشترك يقضي بتقوية وتوثيق التعاون العسكري حرصاً على استقلال الدولتين وسلامتهما (18) .

وذكرت في مقدمة البيان أن الحكومتين المصرية والسورية توطيداً لمبادئ ميثاق جامعة الدول العربية وتوكيداً لاخلاصهما لهذه المبادئ، ورغبة منهما في زيادة تقوية وتوثيق التعاون العسكري حرصا على استقلالهما ومحافظة على سلامتهما واستقلالهما وتحقيقاً لأمانيهما في الدفاع المشترك عن كيانهما وصيانة للأمن والسلام وفقاً لمبادئ جامعة الدول العربية وميثاق الأمم المتحدة، بناء لكل ذلك فقد أقامت الدولتان المتعاقدتان ميثاقاً عسكرياً للدفاع المشترك فيما بينهما (19).

وبعد اتفاقية الدفاع المشترك، قامت مفاوضات بين مصر وسوريا والاردن انتهت الى توقيع اتفاقية عسكرية ثلاثية بتاريخ 23 اكتوبر ( تشرين الأول ) عام 1956 . وكان الهدف من هذه الاتفاقية ” توحيد وسائل الدفاع في الجبهة العربية “.

وتلا توقيع ميثاق الدفاع المشترك اتفاقية بين مصر وسوريا لتوحيد قيادة الجيشين في البلدين. وأهم ما جاء في هذه الاتفاقية البنود التالية:

1- توحيد الجيشين المصري والسوري في التسليح والتدريب وفي مواجهة أي خطر طاريء.
2- ارسال الضباط والخبراء المصريين وعلى وجه السرعة إلى سوريا ، للاسراع في تدريب القوات السورية على الأسلحة المصرية.
3- انفاذ الامدادات العسكرية من القوات المصرية الضاربة لتعزيز المقدرة الدفاعية للجيش السوري في معركة التهديدات الموجهة الى سوريا والممثلة في الحشود التركية والصهيونية.

وتنفيذاً لهذا الاتفاق كانت القوات المصرية في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1957 قد رابطت في شمال سوريا على الحدود التركية وفي الجنوب على الحدود الإسرائيلية (20).

والجدير بالذكر أنه بالإضافة الى ميثاق الدفاع العسكري المشترك وقع اتفاق اقتصادي بين مصر وسوريا بتاريخ 29 يناير ( كانون الثاني) عام 1956 جاء في مادته الأولى ما يلي :

“يبذل كل من الطرفين المتعاقدين ما في وسعه للوصول بالعلاقات التجارية بين بلديهما الى أقصى حد مستطاع  وفقاً لأحكام هذا الاتفاق وفي حدود النظم الاقتصادية القائمة في كلا البلدين “.

وجاء بعد الاتفاق الاقتصادي المذكور، اتفاقية للوحدة الاقتصادية بين الجمهورية المصرية والجمهورية السورية ، جاء في مادتها الأولى : ” تقوم بين مصر وسوريا وحدة اقتصادية كاملة … ” وهذه الوحدة الاقتصادية تضمن للدولتين ولرعاياها المساواة الكاملة فيما بينهما، كذلك نصت على حرية انتقال الاشخاص و رؤوس الأموال وحرية تبادل المنتجات الوطنية والأجنبية وحرية العمل وإلاقامة…… الخ . (21)

هوامش الفصل التمهيدي

(1) جمال عبد الناصر: ” فلسفة الثورة ” (المطبعة العالمية ، القاهرة 1953، الطبعة التاسعة) ص62

(2) كلوفيس مقصود :أزمة اليسار العربي ” (دار العلم للملايين ، بيروت 1960 ، ص 136
 
(3) ليونارد بايندر : ” الثورة العقائدية في الشرق الأوسط  ( ترجمة خيري حماد، دار القلم ، القاهرة ، 1966) ص 143

(4) كلوفيس مقصود: مرجع سابق، ص 136.

(5) المرجع السابق، ص 137.

(6) يجب التنويه الى أن استعمالنا لمصطلح انقلاب بخصوص الحركة العسكرية المصرية التي قامت صباح يوم 23 يوليو سنة 1952 انما هو تجاوزاً فقط حيث لم يتحول الانقلاب الى ثورة فعلية الا حين الغيت الملكية وصدر قانون الاصلاح الزراعي في سبتمبر عام 1953، وفي رأينا ان الثورة تبدأ حين يبدأ التغيير الى الأفضل بالنسبة لمصالح الشعب.

(7) كلوفيس مقصود: مرجع سابق. ص 36، وما تميزت به القيادة الثورية في مصر من ذهنية منفتحة كان العثرة الأولى التي وقفت في وجه السياسيين السوريين التقتليديين وميولهم نحو الاحتراف السياسي .

(8) مطاع صفدي : ” الثورة في التجربة ” (دار الطليعة ، بيروت، يونيو 1963) ص 244.

(9) Seal Patrick : ” The Struggle for Syria ” ( Oxford University Press , Oxford, 1965 ) , p.3

(10) أنظر الفصل الأول، المبحث الأول حيث تعرضنا لكيفية انشاء حلف بغداد ودور العراق فيه ، ص 17

(11) Seale : OP.Cit.P.3

(12) ليونارد بايندر: مرجع سابق ، انظر كذلك د. جلاد يحي : ” العالم العربي الحديث ” (دار المعارف، القاهرة، 1967) ص 665 حيث يقول : كانت سوريا هي الاقليم الذي ظهرت فيه الحركة التحررية العربية منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر .

(13) Seale : op .Cit .p.1-2 .
اننا وان كنا لا نوافق المؤلف على كل أفكاره التي جاءت فى الفترات السابقة 0 الا أن ما اقتبسناه عنه يعطي صورة صادقة الى حد ما ، كما ينبعث من سوريا ، وحولها لأجلها وضدها ، من انعكاسات على السياسة الدولية و الداخلية.

(14) جريدة الأهرام ، 3 مارس سنة 1955.

(15) ناجي علوش : ” الثورة والجماهير ” (دار الطليعةبيروتمايو 1962) ص 66. هذا وسنرى المزيد من التفاصيل عن موقف العراق وعن الاتفاق العراقيالتركي، حين الحديث عن حلف بغداد.

(16) مطاع صفدي : مرجع سابقص359.

(17) أما استيراد سوريا للاسلحة الشيوعية فسيأتي الحديث عنه في الباب الأول من الرسالة. راجع بهذا الخصوص وولتر لاكور: ” الاتحاد السوفييتي والشرق الأوسط ” (ترجمة لجنة من الأساتذة، المكتب التجاري ، بيروت، الطبعة الأولى ، 1959).

(18) نشر نص ميثاق الدفاع المشترك في جريدة (الأهرام) بتاريخ 10/11/1955 أنظر :
Ghali: ” Middle Eastern Security Pacts ”
( Revue Egyptienne De Droit Internationale, v,13,957) p.31
وكذلك : Seale : OP.Cit .p . 252 -255

(19) وأهم ما جاء فيه من نصوص ما يلي :
وأعمالاً لما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة التاسعة من ميثاق جامعة الدول العربية قد اتفقتا على عقد اتفاقية لهذه الغاية هذا والجدير بالذكر أن نص الفقرة المشار اليها هو التالي :
لدول الجامعة العربية الراغبة فيما بينها في تعاون أوثق وروابط أقوى مما نص عليه هذا الميثاق اتخاذ ما تشاء لتحقيق هذه الأغراض “.
وأهم مواد ميثاق الدفاع المشترك هي :
مادة 1 : تؤكد الدولتان المتعاقدتان حرصهما على دوام الأمن والسلام واستقرارهما وعزمهما على فض جميع منازعاتهما الدولية بالطرق السلمية.
مادة 2: تعتبر الدولتان المتعاقدتان كل اعتداء مسلح يقع على أية دولة منهما أو قواتهما اعتداء عليهما، ولذلك فانهما عملا بحق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي عن كيانهما تلتزمان بأن تبادركل منهما الى معونة الدولة المعتدي عليها وبأن تتخذ على الفور جميع التدابير وتستخدم ما لديها من وسائل. بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لرد الاعتداء ولاعادة الأمن والسلام الى نصابهما. وتطبيقا لأحكام المادة السادسة من ميثاق جامعة الدول العربية والمادة الحادية والخمسين من ميثاق الأمم المتحدة يخطر على الفور مجلس الجامعة العربية ومجلس الأمن بوقوع الاعتداء وبما اتخذ بصدده من تدابير واجراءات.
وتتعهد الدولتان المتعاقدتان بأن لا تعقد أي منهما صلحاً منفرداً مع المعتدي أو أي اتفاق معه دون موافقة الدولة الأخرى “.
هذا والجدير بالذكر أن نص الفقرة الأولى من المادة السادسة من ميثاق الجامعة العربية هو التالي : ” اذا وقع اعتداء على دولة من أعضاء الجامعة أو خشي وقوعه فللدولة المعتدي عليها أو المهددة بالاعتداء، ان تطلب دعوة المجلس للانعقاد فورا “. أما المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة فتنص على ما يلي : ” ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم اذا أعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة وذلك الى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي، والتدابير التي اتخذها الأعضاء استعمالا لحق الدفاع عن النفس تبلغ الى مجلس الأمن فوراً ، ولا تؤثر تلك التدابير بأي حال فيما للمجلسبمقتضى سلطته ومسئولياته المستمدة من أحكام هذا الميثاقمن الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يرى ضرورة لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو أعادته الى نصابة “.
مادة  5 : تنفيذاً لأغراض هذه الاتفاقية قررت الدولتان المتعاقدتان على انشاءالأجهزة التالية: مجلس أعلى. مجلس حربي . قيادة مشتركة.
مادة 6: يتكون المجلس الأعلى من وزير الخارجية والحربية (الدفاع) للدولتين المتعاقدتين وهو المرجع الرسمي للقائد العام للقيادة المشتركة الذي يتلقى منه جميع التوجيهات العليا الخاصة بالسياسة العسكرية و يختص المجلس الأعلى بتعيين القائد العام وتنحيته “.

(20) د. جلال يحي : مرجع سابق، ص 674.

(21) تمت اتفاقية الوحدة الاقتصادية بين مصر وسوريا في أواخر سبتمبر (أيلول) عام 1957. وأهم ما جاء في الاتفاقية :
م 1 : تقوم بين مصر وسوريا وحدة اقتصادية كاملة.
1حرية انتقال الأشخاص ورؤوس  الأموال .
2- حرية تبادل المنتجات الوطنية والأجنبية.
3- حرية الاقامة والعمل والإستخدام وممارسة النشاط الاقتصادي.
4- حرية النقل والترانزيت واستعمال وسائل النقل والمرافيء والمطارات المدنية .
5- حقوق التملك والايصاء والارث.
م 2: للوصول الى تحقيق الوحدة المبينة في المادة السابقة. يعمل الطرفان المتعاقدان على  مايلي:
1جعل بلديهما منطقة جمركية تخضع لادارة موحدة وعلى توحيد التعريفة والتشريع
والأنظمة الجمركية المطبقة في كل منهما
2- توحيد سياسة الاستيراد والتصدير والأنظمة المتعلقة بها.
3- تنسيق سياسة النقل .
4- عقد الاتفاقات التجارية و اتفاقات المدفوعات مع البلدان الأخرى بصورة مشتركة أو التشاور فيها .
5- تنسيق السياسة المتعلقة بالزراعة والصناعة والتجارة الداخلية وتوحيد التشريع الاقتصادي بشكل يكفل لمن يعمل من رعايا البلدين المتعاقدين في الزراعة أو في الصناعة أو في التجارة والمهن شروطاً متكافئة .
6- تنسيق تشريع العمل والضمان الاجتماعي .
7- تنسيق تشريع الضرائب والرسوم الحكومية والبلدية وسائر الضرائب وسائر الرسوم الأخرى المتعلقة بالزراعة والصناعة والتجارة.
م3: تنشأ هيئة تدعى لجنة الوحدة الاقتصادية المصريةالسورية “.
م4: الهيئة تتكون من عشرة اعضاء لكل جانب
5………. الخ
راجع بهذا الخصوص (الأهرام الاقتصادي) عدد سبتمبراكتوبر 1957..






الباب الأول

أسباب دعوة سوريا للوحدة

تقسيم : ينقسم الباب الأول الى فصلين، أولهما متعلق بالأسباب الخارجية، الدولية والعربية والتي كان لها تأثيراً كبيراً على سوريا في طلبها الوحدة والتعجيل بتحقيقها. أما الفصل الثاني فيتعلق بالظروف الداخلية التي كانت تأخذ مجراها الخطير في الحياة السورية. وإذا كانت الأسباب الخارجية تعتبر بمثابة عوامل سلبية قد دفعت سوريا الى الوحدة أمام التهديدات بالغزو أو الانقلابات المؤيدة من الغرب، فإن الأسباب الداخلية لسوريا تتلخص في الوضع الحزبي والطبقي، ويضاف اليهما الدور الكبير الذي لعبه الجيش السوري في الحياة الداخلية.

الباب الأول

تقديم :

بعد حرب السويس في عام 1956 بدأت الأنظار تتجه الى سوريا لعلها تخضع للغرب بعد أن صمدت مصر سياسياً وعسكرياً واقتصادياً . وتركزت منذ ذلك التاريخ عوامل عدة في واقع الحياة الداخلية لسوريا متفاعلة ومنفعلة مع وضد الأحداث الخارجية. وجاءت تلك العوامل من المنطقة العربية أو من تفاعلات السياسة الدولية والحرب الباردة التي كانت على أشدها ما بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي.

وما يهمنا بحثه هنا هي تلك العوامل، أو الأسباب ، التي دخلت بشكل مباشر وعلني لتجعل سوريا تطلب الوحدة مع مصر كمخرج لا بديل عنه ان ارادت الأمة العربية أن لا تسقط سوريا بيد الشيوعية أو الرأسمالية.

ولقد كان من أهم الأحداث التي ظهرت في خمسينات هذا القرن في منطقة الشرق الأوسط هي التالية :

1- التصريح الثلاثي عام 1950 بضمان حدود اسرائيل من قبل الدول الغربية الكبرى (1).
2- منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط عام 1951.
3- حلف بغداد 1954- 1955.
4- العدوان الثلاثي على مصر 1956.
5- مشروع أو مبدأ الرئيس الأمريكى أيزنهاور 1957.

ويبحث الفصل لأول من هذا الباب العوامل الخارجية التي أدت الى الوحدة بين مصر وسوريا والتعجيل بقيامها. ان التصريح الثلاثي ومنظمة الدفاع عن الشرق الأوسط وحرب السويس، وان لم تكن كلها أسباب مباشرة للوحدة، الا أن حلف بغداد ومشروع أيزنهاور هما من الأسباب المباشرة التي دعت سوريا الى طلب الوحدة الفورية مع مصر. وكان لهذا الارتباط ما بين الحلف والمشروع من ناحية، وطلب الوحدة من ناحية ثانية، أسباب عديدة، أهمها ما ارتبط بضغط الحلف والمشروع على السياسة الخارجية والداخلية لسوريا وخاصة ما يتعلق بحلف بغداد ومحاولة العراق جر سوريا اليه ولو عن طريق انقلاب دموي يحدث في دمشق . كذلك ارتبط بمشروع ايزنهاور ما سمي آنذاك ” الأزمة السورية ” حيث أدعت الولايات المتحدة أن سوريا سقطت بيد الشيوعية الدولية وما على الدول الغربية والمحيطة بسوريا الا الهجوم عليها لتخليصها مما هي واقعة فيه.

لم تكن منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط وحلف بغداد ومشروع أيزنهاور سوى محاولات ذات هدف واحد، بأسماء مختلفة، تعمل لربط المنطقة العربية في المشرق بعجلة السياسة الغربية. وحتى تكتمل الصورة، كما بدت في العقد السادس من هذا القرن، لا بد من تسجيل كيفية اقتراح مشروع منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط ، وذلك كمقدمة لا غنى عنها لفهم تطورات قيام وأهداف حلف بغداد ومشروع إيزنهاور، وتأثيرهما على سوريا في طلبها الوحدة مع مصر في عام 1958.

بدأت سياسة الأحلاف الغربية بعد الحرب العالمية الثانية بانشاء حلف شمالي الأطلسي 1949. وسارت الدول الغربية على هذه السياسة فيما بعد، قاصدة أن تحيط الاتحاد السوفييتي ودول شرقي أوروبا الشيوعية بسياج عسكري من كل جانب. ومن الطبيعي أن توضع منطقة الشرق الأوسط ، بما فيها الدول العربية ، ضمن الاستراتيجية الغربية وصولا الى أحكام السياج العسكري حول الاتحاد السوفييتي والكتلة الشيوعية.

وأول بادرة صدرت من واضعي سياسة الأحلاف كانت عبارة عن اقتراح لاقامة منظمة دفاعية تشمل دول المنطقة وسميت ” منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط “. وكان الاقتراح مشتركا من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا. ويهدف الى تأسيس سياج من القوى المؤيدة للغرب ضد المعسكر الشرقي على منوال ما حدث في أوروبا الغربية (2). وهذا هو الهدف الأول من اقتراح هذه المنظمة. وكان من المقرر أيضاً أن يكون هذا العرض في البداية طعماً لمصر، لأنها متى دخلت في معاهدة جديدة مع بريطانيا فمن الممكن أن تعوض هذه المعاهدة الجلاء عن قناة السويس اذا حصل في المستقبل، خاصة وان بوادر الحرب الفدائية ضد قوات الاحتلال البريطانية في قناة السويس قد بدأت تشتد في عام 1951. على أن اقتراح اقامة هذه المنظمة لاقى معارضة شديدة من مصر ومن بعض الدول العربية، وبدأت هذه الدول ترى في مثل هذه المعاهدة خلق دول لا تعدو كونها دمي بالقياس الى الغرب (3).

وما أن بدأت الأسئلة والمناقشات تثور بخصوص الأهداف والمرامي الحقيقية لهذا المشروع المقترح، وبعد رفض كل من مصر وسوريا، جاء وزير خارجية الولايات المتحدة- جون فوستر دالاس- في صيف عام 1953 وزار بعض دول المنطقة. ولما عاد وزير الخارجية الأمريكية من رحلة التحقيق هذه كان تقريره عن فرص نجاح اقامة دفاع مشترك اقليمي في الشرق الأوسط بعيدا عن التفاؤل (4).

وانتهى الأمر بهذا الفشل للمشروع المقترح ولم تتجدد الدعوة لاقامة أحلاف في المنطقة الا في ربيع عام 1954 حيث انتهت الى عقد اتفاق دفاعي بين أنقرة وكراتشي قدر له فيما بعد أن يكون حجر الزاوية في الحزام الشمالي، وهو ما سمي عام 1955 بحلف بغداد.

وعند ذاك بدأت الجماهير، لأول مرة، تعي مضار أمثال هذه المنظمة ضد الأقطار العربية. وما لبث أن سقطت كل تلك الجهود وساعدت في تحريك المشاعر ضد الغرب داخل سوريا بشكل لم يسبق له مثيل، وكذلك فعلت في بقية الدول العربية . ولم تنته خطة انشاء هذه المنظمة الى أية نتيجة ايجابية عندما رفضتها مصر (5) ، ذلك انها اقترحت ضم بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وتركيا ومصر. وبعد انضمام مصر اليها يصبح دخول كل من العراق وسوريا تحصيلا حاصلاً (6).

على أن تلك العوامل الخارجية لم تكن وحدها هي التي دفعت سوريا الى التعجيل بطلب الوحدة الفورية، بل يمكن القول انه كان لتلك العوامل انعكاساتها على الحياة السياسية الداخلية، بالقدر الذي كانت تلك العوامل الداخلية تعكس نفسها على الخارج، وخاصة على دول المنطقة المحيطة بسوريا. فتعدد الأحزاب السورية والاقطاع والعشائرية والرأسمالية والبورجوازية والفئة العسكرية كلها كانت مجموعات متمايزة ومتناقضة ومتنافرة ومتقاتلة في بعض الأحيان. ولقد كان أي حادث داخلي يعكس نفسه على الدول الخارجية التي منها المؤيد لهذا الحدث ومنها المعارض له. وكذلك الحال بالنسبة لأي حدث خارجي إذا كان يجد انعكاساته وصداه في الداخل أن لدى الأحزاب والطبقات أو العسكرية السورية.

ولقد عاشت سوريا قبل الوحدة بعامين واقعاً مؤلماً ومحزناً . ولم يعد أمامها الا الاتجاه نحو القاهرة. وكانت الوحدة.. خلاصا من ذلك الواقع بغض النظر عن كونها مطلباً جماهيرياً أثبت صدق الشعب السوري وإخلاصه وتضحيته في سبيله (7) .

والفصل الثاني يتناول العوامل أو الأسباب الداخلية التي دعت سوريا الى طلب الوحدة. وهنا نتناول بالبحث الأحزاب السورية والطبقة البورجوازية والعسكرية.

هوامش
 
(1)     وهذه الدول هي : الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا
(2)     Campell,John. ” Defence of the Middle East ” , ( Harper &Brother ,New York , 1960 ) p.40
(3)     غاي ونت : ” أزمة الشرق الأوسط ” ( ترجمة الراصد العربي ، منشورات عويدات ، بيروت ، 1957 ) ص 37 38 .
(4)     Campell , op .Cit .p.42
(5)     Ibid p .43
(6)    
Kerr,M: The Arab Cold War , 1958-1964 , Oxford University Press , Oxford ,1965 p.5
(12)محمد حسنين هيكل : ” ماالذي جرى في سوريا ” ( الدار القومية ، القاهرة ، 1962 ) ص22

 


الفصل الأول
الأسباب الخارجية التي أدت الى الوحدة

المبحث الأول : حلف بغداد
أولاً   : كسر احتكار السلاح
ثانيا   : ضغط الحلف على سوريا

المبحث الثاني : مشروع ايزنهاور
أولاً : مؤتمر انقره عام 1957
ثانياً : ” الأزمة السورية ”

المبحث الأول
حلف بغداد

جاءت سياسة الأحلاف في المنطقة نتيجة لشعور الغرب الاستعماري بأن قيام اسرائيل في هذه المنطقة المتأججة بالروح الثورية لم يعد كافياً لتحقيق الأهداف التقليدية للاستعمار. كما أنها جاءت تحصيلا واقعياً لبروز دور الولايات المتحدة الأمريكية في توجيه سياسة المنطقة الى جانب بريطانيا ، وتصارعا معها في دولها أيضا. وكان حلف بغداد الذي تأكد وجوده عام 1954 تحت هيمنة بريطانيا ، ولكنه ما لبث أن سيطرت عليه الولايات المتحدد الأمريكية (1).

اعتمد حلف بغداد على عاملين من عوامل الواقع الموجود في العالم العربي، أولهما وجود فئات حاكمة تتمركز في بعض الدول العربية ولها مصالص ترتبط بشكل مباشر مع الاستعمار. وثانيهما وجود الأحزاب المحافظة والمستعدة للتعاون مع الغرب الاستعماري بحكم تركيبها الطبقي البورجوازي من جهة ، وارتباطاتها الاستعمارية منذ أيام الاستعمار الفرنسي- البريطاني من جهة ثانية. ولكن الحلف أكتشف عاملاً آخر في سبيل أن يوجد له قاعدة شعبية الى جانب قواعده الحكومية : وهي الجماعات الدينية الاسلامية التي كانت تحاول أن تتحول بالتدريج الى حزب سياسي يريد أن يستقل عن الأحزاب البورجوازية التقليدية دون أن يتخلى عن دعمها شعبيا وفي الأوساط الجماهيرية غير الواعية التي لم يدخل اليها مد التوعية الثورية بمضمونها العربى التقدمي (2).

تلك كانت أسباب قيام حلف بغداد، أما الخطوات التي أتخذت لابرازه الى الوجود فيمكن تلخيصها بالتالي:

في 24 فبراير عام 1954 صدر بيان تركي- باكستاني أعلن اتفاق الدولتين على دراسة وسائل التعاون السياسي والعسكري (3).

وفي 22 يناير عام 1955 صدر بلاغ عراقي- تركي جاء فيه :

” أ- دارت مباحثات بين الطرفين حول ايجاد تعاون بتأمين أستقرار منطقة الشرق الأوسط ، وقررت الدولتان عقد اتفاق يرمي الى تحقيق توسيع التعاون المذكور قريباً .
” ب- سوف يحتوي الاتفاق على التعهد بالتعاون لصد أي اعتداء قد يقع عليها من داخل أو خارج المنطقة.
” جـ ـ  و من الضروري والمفيد أن تنضم إلى هذا الاتفاق دول غيرهما تؤمن بهذه الأهداف وتعمل لها بحكم موقعها الجغرافي ” (4) .

وفي 24 فبراير عام 1955 تم توقيع حلف بغداد بين تركيا والعراق وانضمت اليه باكستان وإيران وبريطانيا ، وتكون المجلس الدائم للحلف في بغداد وانضم اليه ممثلون عن الولايات المتحدة بصفة مراقبين. وما لبثت الولايات المتحدة أن اشتركت في نشاط ثلاث لجان من الحلف وهي : اللجنة الاقتصادية واللجنة العسكرية ولجنة مكافحة التسلل الشيوعي والمباديء الهدامة.

ما يهمنا من حلف بغداد هو تأثيره المباشر على دفع مصر وسوريا الى الوحدة ، وقبلها التقارب فيما بينهما لمجابهة الحلف وأنصاره في المنطقة.

أشاع الغرب بأن الزعماء المصريين قد استاءوا من الاقتراح الذي قدم اليهم ، وهو أنهم سيلعبون دوراً ثانوياً وفق توجيهات تركيا في المنظمة الدفاعية الغربية المقترحة ، وادعى بأنهم كانوا خليقين بقبول الاشتراك في المنظمة لو أعطي لهم الدور الأول بدلاً من تركيا أو العراق ؟! ان مثل هذا الرأي يضرب عرض الحائط بالعداء المستحكم في العالم العربى نحو أي حلف مع الغرب (5).

أن الحياد الإيجابي لم يولد عام 1954 (6) ، فقد كان هذا موقف ” الانتلجنسيا ” (المثقفون) العربية وموقف الضباط وموقف الرأي العام على العموم أثناء الحرب العالمية الثانية وقبلها بكثير ، لم يكن ذلك العداء نتيجة تنظيم الغرب المنطقة، انما كان شيئاً وجد ما يعبر عنه في معارضة حلف بغداد (7).

واستمرارا لموقف مصر من منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط (8) ، وبناء لإعلان الحكومة المصرية رأيها صريحاً بالنسبة للأحلاف على أختلاف مصادرها فانها لم تقف عند حد المعارضة بالنسبة لقضية حلف بغداد  ، وإنما خطت خطوتها في تحقيق السياسة التي خطتها وأعلنتها بالنسبة للبلاد العربية، وهو أن الدفاع عن هذه المنطقة انما هو واجب الدول العربية وحدها ” (9).

أما موقف سوريا من الحلف ، وموقف الحلف من سوريا ، فهناك مذكرة من السفير الأمريكي في دمشق، كانت قد قدمت في شهر سبتمبر (أيلول) عام 1955 الى الحكومة السورية، تضمنت رأي الحكومة  الأمريكية في الحلف وما تستطيعه بعض الدول العربية، من ضمنها سوريا بالطبع.

و نص المذكرة التالي :

” أ- ان وزارة الخارجية الأمريكية رحبت علنا بالاتفاق العراقي- التركي ، كخطوة انشائية لمنظمة دفاع حقيقية، يمكن مع الوقت أن تضم الباكستان وإيران- وبعض الدول العربية.
” ب- بعد تطور هذه المنظمة على غرار الاتفاق العراقي- التركي، ترى حكومة الولايات المتحدة مقدما احتمالا لأن تستطيع الدول العربية الواقعة ” خلف المنظمة “، أي وراء الخط الشمالي ، القيام بدور مفيد في المنظمة الدفاعية ، وفي هذه الظروف اذا ارادت احدى الدول العربية الواقعة خلف المنظمة أن تنضم الى هذه المنظمة الدفاعية، فان الولايات المتحدة مستعدة للنظر في تقوية دفاع تلك الدول العربية.
” جـ –  ان نمو الترتيبات الدفاعية وكذلك تحسين العلاقات العربية- الإسرائيلية، أمر ضروري للمساهمة الفعالة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في الدفاع عن منطقة الشرق الأوسط ، وان الولايات المتحدة لا تستطيع أن تبدد مواردها على قوى غير متجانسة داخل المنطقة ولاعلى سباق في التسلح بين العرب وإسرائيل (10).

يتضح من هذه المذكرة ارتباط حلف بغداد بأمرين : أولهما أي سلاح لا يقدم للدول العربية الا اذا انضمت الى الحلف ، وثانيهما ان المساعدة الأمريكية للدول العربية لا يمكن أن تكون الا على أساس الصلح مع اسرائيل. وبمعنى آخر، ان المساعدة الإقتصادية والمالية تساوي الصلح مع إسرائيل وان بطريق غير مباشر، أو بتحسين العلاقات معها على أبسط الفروض (البند جـ).

كان من أهم أهداف الحلف غير المباشرة تطويق سوريا وعزل مصر عن الشرق العربي . وبتحقيق هذا الهدف يقضي على الحياد العربي . ” وكان حلف بغداد الذي تحقق به ادخال دولة عربية في الحلف هي العراق، وتحقق بالتالي شلها عربياً وجعلها نقطة ارتكاز لدفاع الاستعمار عن مصالحه ونفوذه، هو الأسلوب الذي أضطر الاستعمار أن يأخذ به بعد أن فشل في أن يزج في أحلافه منذ البداية دولا عربية أخرى كمصر وسوريا بصفة خاصة .

وسار الاستعمار في محاولاته لتوسيع الحلف ، عن طريق ضم دول أخرى له  كالأردن، أملا أن يتبعها لبنان، لتطويق سوريا فتعزل مصر ، وبذلك يقضي على الحياد الإيجابي كاتجاه تبناه عدد من الدول العربية . (11) .

لقد كان شعب سوريا في تلك الحقبة من الزمان مطوقاً بأحزمة الملكيات المتعاونة مع الغرب. كما كان محوقاً في بعض أجزائه من الداخل بمؤسسات البورجوازية واليمينية التي كانت تستثمر جميع مصالحه ، من تأخر وضعف اقتصادي وعصبيات طائفية وإقليمية في سبيل أن تفتت وحدة النضال الشعبي ، وتعدد جبهاته الداخلية المتعارضة ، حتى يتم الاجهاز عليه ، وهو في أوج قوته  وجبروته. وعلى ذلك فقد عملت الدول الاستعمارية جهدها أن تدخل سوريا  لحلف بغداد هادفة من ذلك ، كما قلنا ، الى عزل مصر وكان القول الذي يتردد في تلك الآونة يقول : اذا كان للحلف أن يصبح منافسا ” لناصر” فلا بد له أن يجذب أقطار عربية أخرى . وبا لفعل ما ان تم وجود هذا الحلف حتى بدأ التنافس بين الحلف ومصر على جر سوريا والأردن – مع اختلاف ومقاصد كل منهما .

ولقد كانت هذه المرحلة مريرة من النزاع بين الأقطار العربية ، ولم يدرك الغرب أهمية هذا النزاع حينذاك، وكان العراق في هذا النزاع متعرضاً لمساويء  كثيرة، فهو في اتفاقه مع بريطانيا وتركيا يكون قد اتفق مع الاستعمار الذي احتل الوطن العربي أربعة قرون . وكان هناك بعض من سعى إلى لم شمل العرب في وحدة بين العراق والأردن وسوريا. ولكن هؤلاء أنفسهم رأوا في الحلف عقبة كأداء فاضطروا أن يهاجموا الحلف. وكان مصير سوريا في هذه المناورات ذي أهمية خاصة. فهي تمتاز بروح عربية قومية شديدة ، مع أن الحكومات السورية المتعاقبة لم تكن مستقرة. وبالنتيجة خسر حلفاء بغداد معركة سوريا مع أن تركيا والعراق حاولتا مرات عديدة القيام بتهديدات عسكرية على الحدود السورية. وطالما أن بغداد هي التي خسرت معركة سوريا ، فإن القاهرة تكون الرابحة. وبالفعل ، فان مصر نجحت في أن تجتذب سوريا الى جانبها وكذلك الحال مع الاردن ولو الى فترة بسيطة  من الزمان.

وليس من نافلة القول أن حلف بغداد كان عاملاً جديداً ومربكاً للاستعمار ولأعوانه في المنطقة العربية . وكان  للحلف تاريخ متميز انبثق في أوله من فكرة دالاس عندما أدرك ان مشروع الدفاع  عن الشرق الأوسط مات وليداً . وسبب موته وعدم قبوله هو أن هذا المشروع حاول جمع أقطار الشرق الأوسط في اتحاد منفرد موجه ضد روسيا . ولما كانت بعض هذه الأقطار بعيدة عن التهديد الروسي، فانها لم تشعر بالخطر الذي تواجهه ، وكانت مصر مثلا لذلك (12).

ولم يمض وقت طويل حتى اصبحت بريطانيا تتحدث عن حلف بغداد وكأنه حجر الزاوية السياسية في سياستها الجديدة في الشرق الأوسط . وهذا ما جعل اللورد ( سترانغ ) ، رئيس الدائرة الخارجية البريطانية ، يتحدث عن الحلف بأنه تنظيم رائع ، والمعاهدة في حد ذاتها توكيد على عزم الدول الغربية الاحتفاظ بمراكزها في الشرق الأوسط (13) . وفي نفس الوقت هذا ما جعل عزم روسيا يشتد للقضاء على هذه المراكز (14) .  ولذلك يصح لنا أن نقول ان حلف بغداد قد عجل في تقدم روسيا في مجالات الشرق الأوسط ، وقد ازدادت قدرتها وتشجعت أكثر لأن الحلف أغضب الرأي العام العربي ، ولأن العرب رأوا فيه محاولة غربية لاستخدام الاقطار العربية في حربهم ضد الروس. وثاني نتيجة لظهور حلف بغداد هي التقاء  مباشر بين السياسة الخارجية السوفييتية من جهة ، والسياسة الخارجية في كل من مصر وسوريا من جهة ثانية. فالاتحاد السوفييتي يهاجم الاحلاف الغربية اينما كانت  ومصر وسوريا أعلنتا أن الدفاع عن المنطقة من اختصاص شعوب المنطقة ، ورفضتا الحلف وبدأتا بالهجوم عليه من القاهرة ودمشق بشدة متزايدة . ولم  تقتصر ردة الفعل العربية العدائية على مصر وسوريا بل تعدتهما الى معظم الشعوب  العربية.

ولقد كان حلف بغداد عبارة عن تعويض لبريطانيا حيث تهدد نفوذها في العراق بعد انتهاء معاهدة التحالف البريطانية- العراقية ، والتي كانت عملية داخلة في اطار متعدد الجوانب. وفي نفس الوقت، فالحلف، في هدف من أهدافه ، عبارة عن تعويض عن اتفاقية الجلاء التي وقعت بين مصر وبريطانيا، والتي تنسحب بموجبها القوات البريطانية من قناة السويس (15).

وبالنسبة للحكام العراقيين فلقد كانوا متشوقين لتجديد روابطهم مع بريطانيا، ولكن في نفس الوقت كانوا يواجهون صورة الانعزال داخل الجامعة العربية، ويواجهون عداوة الرأي العام العربي وعداوة مصر وسوريا بشكل خاص. هذه العداوة التي أرادوا أن يبتعدوا عنها بعد أن استطاعت مصر بثورتها أن تستقطب الرأي العام العربي.

أما ردود الفعل الفورية التي قامت في سوريا ضد حلف بغداد فهي اعطاء قوة دافعة للحياد وللمشاعر التي هي ضد الأسرة الهاشمية، هذه المشاعر العدائية التي بدأت في الحرب العالمية الأولى أثناء الثورة العربية، ووجدت جذورها في فشل الشريف حسين في قيادة الثورة وانحرافه بها. ومحاولات جر سوريا الى حلف بغداد هي محاولات متعددة المظاهر، ترتبت عليها العديد من الآثار في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم. ولقد أظهر حلف بغداد عجز بريطانيا الواضح عن مواجهة تصاعد حركة التحرر القومي، هذا العجز الذي دفع  بريطانيا أيضاً الى أن تتلقف فكرة حلف بغداد وتقيم مع الامبريالية الأمريكية حلفاً يضم دولا واقعة تحت النفوذ الأمريكي، مضافاً إليها عراق نوري السعيد. وتعليق ايدن على حلف بغداد وانشائه تعبير صادق عن هذه الحقيقة. فبعد أن كان الصوت البريطاني هو الوحيد المسموع في المنطقة، يرى ايدن ان حلف بغداد هو طوق النجاة للمصالح الاستعمارية. ” ان انضمامنا الى الحلف قد عزز نفوذنا ورفع صوتنا في منطقة الشرق الأوسط ، وأخذ نفوذ حلف بغداد يثبت قدرته على تثبيت الوضع واستقراره ” (16).

قلنا ان العراق هو الدولة العربية الوحيدة التي ارتبطت رسميا بحلف بغداد ، وأصبحت ركناً أساسياً من أركانه. وفي نفس الوقت اتخذ منها الاستعمار الانجلو- أمريكي نقطة استناد وانطلاق في أعمال الضغط الموجهة ضد الدول العربية الأخرى بشكل عام وضد سوريا بشكل خاص. وكانت مصر وسوريا مركزين أساسيين في الهجوم المعاكس الذي شنته قوى التحرر العربي ضد حلف بغداد ومشاريعه. واستطاعت حركة التحرر العربي ، في النهاية، بفضل صمود القاهرة ودمشق ، أن تمنع ارتباط الدول العربية الأخرى رسمياً بحلف بغداد ، وان لم تستطع منع بعض الحكام العرب من العطف والانحياز بشكل واضح وسافر الى جانب حلف بغداد. وانقسم جزء من الشعب السوري يمثل الرأسمالية والاقطاع وقسم كبير من البورجوازية الكبيرة والمتوسطة عن القاعدة العامة للشعب السوري ، وهي ان هذا الشعب يتوحد داخلياً كلما هدده خطر خارجي طارئ . فلأول مرة تسفر البورجوازية والرأسمالية والاقطاع في سوريا عن وجوهها وتؤيد حلف بغداد.

ولم يكن هدف الاستعمار والعراق عن طريق كل المؤامرات ضد سوريا الا أضعاف القوى الثورية داخليا، بخلق قوي، ان لم تكن متساوية بقوتها الجماهيرية ، فعلى الأقل يمكنها أن تقف بوجهها حتى ولو بالارهاب والاغتيال والمؤامرات . وفعلاً فان المؤامرات التي شهدتها سوريا في الأعوام السابقة على الوحدة كانت تهدف الى تفتيت الاتجاه الوطني ، ثم تصفيته في الداخل. ولكن النضال الوطني والتضامن الفعال بين القاهرة ودمشق استطاعا أن يحبطا المؤامرة الاستعمارية تلو الأخرى (17).

يمكن من العرض السابق تلخيص الأهداف العامة لحلف بغداد بالتالي :
أ- فرض حصار على سوريا.
ب- عزل مصر عن المشرق العربى.

وبالنسبة لعزل مصر عن المشرق العربي هناك عدة اعتبارات تستدعى ذلك العزل أهمها:

1- الثبات الذي يتمتع به الحكم في مصر والتفاف الجماهير العربية حوله بعد اعلانه الحياد ومحاربة الأحلاف
2- موقع مصر الجغرافي الذي يعكس أهميتها الاستراتيجية.
3- لا توجد لمصر حدود مشتركة مع أقطار المشرق العربي وأي اتصال بينهما سيكون على حساب اسرائيل .
4- قوة مصر البشرية والمادية.

وكل تلك الاعتبارات قد جعلت خطة الاستعمار تقوم على عزل مصر عن المشرق العربي ، لأن نتيجة هذا العزل هي أن يؤدي ، أولا وأخيراً ، الى أضعاف القوى الثورية المعادية للاستعمار في سوريا، ويخفف فعالية مقاومتها وتصديها للحلف ، ويمهد بالتالي لضرب الاتجاه المعادي للاستعمار والامبريالية في الداخل .

على انه مع بداية عام 1956 كان مشروع حلف بغداد قد سجل تقدماً خطيراً مهدداً وحدة الأمة العربية، فشنت القاهرة ودمشق حملة عنيفة على تركيا والعراق والدول الغربية. وفي هذه الأثناء وقبلها، قررت الحكومة السوفييتية أن تفعل شيئا لوقف تقدم حلف بغداد في ربيع عام 1955. فأصدرت وزارة الخارجية في 16 ابريل (نيسان) عام 1955 بياناً رسمياً جاء فيه : أن الحالة العامة في الشرق الأوسط قد ازدادت خطورة في الأشهر الأخيرة نتيجة لمحاولة الدول الغربية جر الأقطار العربية الى الأحلاف العسكرية (18). وجاء البيان، بشكل خاص، على ذكر الضغط الذي تعرضت له سوريا ومصر من أجل الانضمام الى الأحلاف؟ وأكد في نفس الوقت، أن الاتحاد السوفييتي لن يقف مكتوف الأيدي في وجه هذه المؤامرة  الغربية وأمثالها : ” أن هذا الموقف لا يحتاج الى تفسير، لأن الاتحاد السوفييتي، خلافاً للولايات المتحدة، هو دولة مجاورة لأقطار الشرق الأوسط ” (19)

وكما قلنا عن تأثير حلف بغداد على المجال الداخلي لسوريا، فاننا نلاحظ انه منذ أعلن الحلف في عام 1954 والنشاط الدبلوماسي الأنجلو- أمريكي يعمل ليل نهار لفرض سياسة الأحلاف على الأقطار العربية. ولقد استطاعت الدبلوماسية الغربية أن تكشف وجه حكام عمان عندما وافقوا على الانضمام للحلف . أما الدبلوماسية الأمريكية فلم تجد مجالا في سوريا نتيجة لقوة التيار الشعبي التحرري ، وان كانت بعض الفئات في سوريا لم تتوان أو تتأخر في اظهار عطفها على السياسة الاستعمارية الجديدة. وحين تحقق اجتماع الرؤساء في القاهرة لبحث اتجاهات السياسة الدولية في المنطقة واتخاذ موقف واحد من الأحلاف العسكرية ، ذهب فارس الخوري، رئيس وزراء سوريا آنذاك ، للمؤتمر، وبدل أن يقف ضد الأحلاف العسكرية موقفاً واضحاً وصريحاً ، وقف موقفاً مشبوهاً وعاد ليؤكد قائلاً بأن الحلف العراقي- التركي إذا لم يكن به نفع فليس به ضرر على كل حال (20). وكان أن سقطت وزارته نتيجة لهذا التصريح . وانتهت بذلك الحلقة الأولى من حلقات الضغط على السياسة العربية المتحررة في سوريا. وأخذ المد الشعبي يشتد قوة واتساعاً . واشترك حزب البعث العربي الاشتراكي في الحكم على أساس الابتعاد عن الاحلاف وإعلان الحياد واتباع سياسة عربية تحررية موحدة .

ونتج عن هذه السياسة :

أولا: البيان الثلاثي الذي وقعته مصر وسوريا والسعودية ، والذي ينص في مقدمته على زيادة الوعي زيادة ملحوظة . كما نص على انتهاج سياسة غير منحازة ، والتخطيط لمقاومة الصهيونية.

ثانيا : فشل سياسة الاحلاف في الاردن وتطهير الجيش الاردني من غلوب وأنصاره ، والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية التي تلت ذلك بين الاردن ومصر وسوريا والسعودية واليمن ، وأهم هذه الاتفاقيات اتفاقية التضامن العربي ، التي جعلت الاردن قادرا على الاستغناء عن المعونة البريطانية (21).

ثالثاً : عزل حكام بغداد عن الشعب وحصر السياسة الحلفية في العراق ، وحشد القوى الجماهيرية لمقاومتها .

رابعاً : ادى انتهاج السياسة الاستقلالية في مصر وسوريا الى تحطيم طوق التوازن الذي فرضه الغرب على العرب للحد من قوتهم العسكرية وضمان تفوق اسرائيل عليهم ، ومكنهم من شراء الاسلحة السوفييتية الحديثة (22) .

وأهم ما ارتبط بحلف بغداد من أحداث كان لها أكبر الآثار على العلاقات السورية المصرية والتقريب بينهما حدثان :

1- كسر احتكار السلاح ، واتجاه الدولتان الى الكتلة الشرقية .
2- ضغط حلف بغداد على سوريا وجعلها تمد يدها أكثر الى مصر .

أولا كسر احتكار السلاح

تجدر الإشارة عند هذه النقطة من البحث الى صفقة الاسلحة التي قامت بها مصر مع الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشيوعية ، ونشير كذلك إلى شراء سوريا للاسلحة الشيوعية . ذلك أن صفقة الاسلحة التي قامت بها مصر في سبتمبر ( ايلول) عام 1955 اعتبرت ، في حينها ، نقطة التحول العظمى في الشرق الأوسط ، واعتبرت ايضا نهاية عهد قديم وبداية عهد جديد . ولقد أكد الزعماء المصريون منذ البداية ان اتفاقية الاسلحة انما هي عملية تجارية محضة تستورد بموجبها مصر من الاتحاد السوفييتي الاسلحة والذخائر ، وليس المباديء والأفكار السياسية (23) .

هذه الحجج التي طرحها الزعماء المصريون هي بلا شك سليمة وصادقة ، ” فلم يكن الدافع الى صفقة الاسلحة خوف من الغرب أو رجاء من الشرق بقدر ما كان الدافع اليها عمل ايجابي يستند على النوايا الطيبة ويهدف الى نتائج ايجابية ” .

ثم هناك اسباب اخرى للصفقة تتعلق بالمنطقة العربية على وجه الخصوص . ان حلف بغداد وما قدمه لتركيا وايران والعراق من مساعدات عسكرية ضخمة ، وما أعطاه من ضمانات لإسرائيل ، يوجب أن تتقوى مصر عسكريا . ولكن يجب ان لا نعزي أن مصر قامت بصفقة الاسلحة بسبب وجود حلف بغداد فقط ، بل هناك اسباب أخرى عديدة لهذه العملية التجارية ، وفي مقدمتها العدوان الاسرائيلي الماثل على الأمة العربية (24) .

مهما تكن أسباب تلك الصفقة، فاننا في هذا الخصوص! لا يمكن أن نتعامى عن العوامل الحقيقية التي أدت الى تلك الصفقة ، ان العوامل التي لعبت دورها في ذلك كانت التالية :

أولاً : حلف بغداد.
ثانياً : الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في فبراير (شباط) عام 1955.
ثالثاً : روح مؤتمر باندونغ التي أقرت الحياد الإيجابى ومبدأ التعامل على قدم المساواة مع الشرق أو مع الغرب (25).
رابعاً : احجام الغرب الدائم عن تسليح العرب إلا لمن أيد أحلافه ودخل فيها.
خامساً : بهدف اقامة جيش وطني يستعمل أحدث الأسلحة.

واجمال كل الأسباب السابقة قد ذكره الرئيس عبد الناصر حين قال : ” وإذا كان كسر احتكار السلاح- لاقامة الجيش الوطني القومي- مشهدا من مشاهد المعركة الوطنية في مصر ضد تحكم الاستعمار، فلقد كان في نفس الوقت، مشهداً رائعاً من مشاهد الهزيمة الساحقة التي لقيها حلف بغداد في محاولته تطويق البلاد العربية، كذلك كان في نفس الوقت حماية لا بد منها للثورة الاجتماعية حتى لا تسقط ثمراتها ونتائجها كغنائم الحرب في يد اسرائيل التي جعلها الاستعمار ترسانة للسلاح وسط بلادنا العزلاء” (26).

وهكذا، ممكن القول أن صفقة الأسلحة تلك قد أدخلت عنصرا جديدا الى ميدان الشرق الأوسط ، وكانت مقدمة تشجيعية لسوريا لأن تطلب السلاح السوفييتي فيما بعد . ففي عام 1956 تصادفت الأزمة السورية الأولى ومؤامرة حلف بغداد والعراق عليها أثناء حرب السويس . وعندما أدلهم الأفق في سماء الشرق الأوسط ، وكانت هناك بوادر عديدة ودلائل كثيرة تشير الى أن الدول الغربية الاستعمارية ستقوم بعمل عسكري ضد مصر نتيجة لتأميم قناة السويس، في تلك الأثناء غادر الرئيس شكري القوتلي سوريا عشية العدوان على مصر متوجهاً الى الاتحاد السوفييتي في زيارة رسمية. وبعد أيام صدر في موسكو بلاغ مشترك يؤكد الصداقة السوفييتية السورية (27) . والأهم من ذلك كان قرار الاتحاد السوفييتي تزويد سوريا بمزيد من الاسلحة . ” وحملت البواخر السوفييتية طيلة شهري اكتوبر ونوفمبر شحنات عاجلة من الاسلحة الى ميناء اللاذقية ، بينما كانت الطائرات الروسية تحمل شحنات مماثلة الى المطارات السورية ” (28) . وفرضت في ذلك الوقت ، الحكومة السورية ، حظراً على نشر أي شيء عن عمليات شحن السلاح تلك مما جعل الاهتمام العام في الغرب وبعض الألسن في حكومة نوري السعيد مرددة صارخة ان سوريا قد اصبحت قاعدة عسكرية سوفييتية ، وان الجو في دمشق يشبه جو ” عشية اندلاع الثورة ” .

أما ما حدث في تلك الأثناء فعلا فهو أن السيادة الفعلية انتقلت الى قيادة الجيش السوري بالتعاون مع بعض الوزراء المدنيين (29) ، واعلنت حالة الطوارىء التي ظلت نافذة المفعول عدة اشهر . وفي تلك الاثناء صرح وزير الخارجية السورية السيد صلاح الدين البيطار في 29 نوفمبر بأن قضية شحنات الاسلحة الروسية الى سوريا ليست في متناول كل انسان (30) .

وهنا تجدر الاشارة الى ان بعض المراقبين الغربيين قد بالغوا بالأهمية السياسية المباشرة لشحنات الاسلحة السوفييتية وضخموها كثيراً عن حجمها الحقيقي .

” وضخموها نظراً لأن سوريا لا تجاور الاتحاد السوفييتي ، ونظرا لأن الضباط السوفييت لم يحتلوا المناصب الرئيسية أو الثانوية في قوى الجيش والأمن في سوريا ، فلم يكن صحيحاً ولا سيما التقول بأن سوريا ستتحول وشيكاً الى دولة تابعة للاتحاد السوفييتي . (31)

ومن هنا بدأ الغرب يشيع بأن سوريا قد أصبحت شيوعية وانها مجال تجريبي وقاعدة انطلاق للاتحاد السوفييتي نحو بقية الدول العربية . وهي نفس النغمة التي سمعناها عن سوريا عام 1954 عندما بدأت الدعايات الغربية تقول بأن سوريا قد عقدت اتفاقاً مع الاتحاد السوفييتي في ذلك العام للتزود بالسلاح (32).

ان صفقة الأسلحة السوفييتية الى مصر، و من بعدها سوريا ، كانت ذروة التمرد العربي ضد الامبريالية في تلك الفترة وتعبيراً جزئياً عن ذلك التمرد  في الوقت نفسه. ولم تأخذ صفقة الأسلحة السوفييتية لمصر ، وبعدها سوريا ، تلك  الأهمية النضالية الفائقة التي اهتزت لها الدول الاستعمارية لو لم تلبي طابع التحدي للاستعمار، ولو لم تأخذ مضمونها السياسي المعادي للاستعمار والامبريالية . ان المعنى العميق لهذه الصفقة ليس السلاح ، رغم أهميته البالغة ، بل لأن هذه الصفقة كانت، وبحق، نقطة اللاعودة ضد مخططات الاستعمار ، ولأنها كانت تعبيراً عن سياسة حازمة معادية لكل محاولة ترمي الى ربط المشرق العربي بعجلة  الامبريالية الأنجلو- أمريكية من ناحية ، وأول محاولة جادة بالنسبة للاتحاد السوفييتي لدخول المياه الدافئة منذ زمن طويل من ناحية ثانية (33) .

ولا نبالغ إذا قلنا أن صفقة الأسلحة كانت أول هجوم معاكس على القوى الاستعمارية والامبريالية. هذا الهجوم الذي كانت له أبعاده الضخمة حيث أنه خلق تحركاً شعبياً  لم تعرفه المنطقة من قبل . ولا يستطيع الانسان أن يقدر الأهمية السياسية لصفقة الأسلحة تمام التقدير الا اذا قرأ ما ورد في مذكرات ايدن بخصوص هذه العملية. ولقد نشبت انطلاقاً من تلك الصفقة وبسببها في المشرق العربي حالة حرب سياسية من أكبر حالات الحرب الباردة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية ، وأمسكت التطورات برقاب بعضها إلى أن انتهت الى حرب فعلية بعد تأميم قناة السويس 1956 ” (34) .

ثانياً : ضغط حلف بغداد على سوريا

حتى نستكمل الصورة الكاملة لحلف بغداد بأبعادها الحقيقية وأهدافها الظاهرة والخفية، نورد في خلال الصفحات القادمة محاولة المؤامرة العراقية التي دعمها حلف بغداد ضد سوريا في عام 1956.

لقد كان توقيت هذه المؤامرة هو نفس الوقت الذي يبدأ فيه العدوان الثلاثي على مصر. من هنا تأخذ هذه المؤامرة قيمتها العدوانية الحقة. ولم يكن التوقيت مجرد صدفة على الاطلاق. وان ما قام به الاستعمار من عدوان ثلاثي على مصر ومحاولة لقلب نظام الحكم في سوريا انما هي حلقات من سلسلة واحدة ربطها الاستعمار ببعضها.. لتصبح ذات فروع متعددة تمتد لكافة أنحاء الوطن العربي .

وحتى نعطي ملامح هذه المؤامرة ألوانها الحقيقية نورد باختصار هنا أطراف المنفذين لها وأعمالهم :

1- فهناك ميدان أعداد المسلحين المدربين ويقوم به القوميون السوريون .
2- وهناك ميدان المال والسلاح ويقوم به العراقيون فيسلمونه بواسطة العقيد صفا (35) والقوميين السوريين.
3- وهناك الحملة السياسية ويقوم بها منير العجلاني (36) بواسطة الكتلة النيابية.. ونواة هذه الكتلة قد تكونت منه و من فيضى الأتاسي ومن عدنان الأتاسي وميخائيل اليان وفرزت المملوك ( 37)
4- وهناك دور أمريكا، وقد برز في جلسة البرلمان السوري بتاريخ 19 نوفمبر سنة 1956 . وعندما لم يمض على العدوان الثلاثي على مصر بضعة عشر يوماً وقف منير العجلاني وقال : ” وانتقل الآن الى السياسة الخارجية ، فقد رأيت قوماً ينكرون علينا أن نحيي أمريكا … أريد أن أحييها لأسباب كثيرة ، لأن تحيتها تنفي عنا على الأقل أننا متشيعون تشيعاً كاملاً لروسيا … ” ! وهكذا فإذا لم يحييها فإنه يخشى أن ينسب إليه التشيع الى روسيا . ” وهذه هي لب سياسته وسياسة المستعمرين اذا لم يتلقف التحية ، فالبلاد متشيعة لروسيا . وإذا لم يدخلوا الحلف العراقي التركي فالبلاد شيوعية . أما ان بإمكاننا أن نكون عرباً مستقلين بدون أن نرتبط بأي حلف فهذا لا يستقيم بمنطقه ولا منطقهم ” (38) .
5- وهناك العراق بأمواله الضخمة وبسلاحه يهربه الى داخل سوريا . قال منير العجلاني في الجلسة السابق ذكرها : ” أخيراً فأنا رجل في أعماق نفسي شيء من الضعف بالنسبة للعراق . ومهما اختلفت الأمور أظل أحمل له حباً قد يحجب عني أشياء ، وبهذه المناسبة أيضاً أحب أن أقول للحكومة الكريمة يجب علينا أن نجلب العراق الى صفنا مهما كانت التضحية . ولا يكون ذلك بحملة الشتائم فهي لا تفيد … فلا ينفع الانسان أن يشتم بينما يصنع الآخرون ما يريدون ” (39) .

أما بخصوص تدخل الجيش العراقي في سوريا فيقول عدنان الأتاسي (40) : ” وقال لي السامرائي ان العراقيين لا يقدمون على العمل ما لم يكونوا ضامنين النتائج . واقصد بقولي هذا ان الحكومة العراقية لا يمكن ان توافق على عملية الانقلاب في سوريا دون أن تكون نتائجها مضمونة ونجاحها مؤكداً . ثم ذكر لي أن شخصية عراقية كبيرة موجودة في بيروت منذ قليل . وأن هذه الشخصية ترغب الاجتماع بيّ . وعرض عليّ أن نذهب معاً للاتصال بها فلا أمانع ” . وهكذا أخذ الى حيث قابل اللواء الداغستاني الذي حدثه .. عما يجب اجراؤه بعد نجاح الانقلاب ، ” وفيما اذا كان بإمكان والدي (41) أن يقبل أن يرأس الحكومة الجديدة التي يتمخض عنها الانقلاب ” .

أما دور بريطانيا فلا يجب أن يخفى في هذه المؤامرة ، وكذلك دور حلف بغداد بالتالي . فبريطانيا كانت تحكم ، عملياً ، العراق داخلياً وخارجياً . ومعروفة تلك الصلة التي تربط نوري السعيد ببريطانيا . وبريطانيا هي التي دفعت ” الحزب القومي السوري الاجتماعي ” الى قتل العقيد عدنان المالكي عام 1955 . وحتى يتضح الدور الذي قام به هذا الحزب المحظور في سوريا نورد هنا جزءاً من الرسالة التي ذكرها النائب العام السوري في مطالعته إذ قال : ” ونحن نورد هنا الرسالة الموجهة من سعيد تقي الدين (42) القومي السوري الذي يعمل في خدمة الاستعمار واسرائيل . نورد له هذه الرسالة الموجهة الى رئيس حزبه جورج عبد المسيح والمؤرخة في 25 كانون الثاني ( يناير ) 1955 لتبحث في المجلس الأعلى قال فيها : ” انه قابل سعيد القزاز وزير الداخلية في العراق ، وقد أفضى إليه وزير الداخلية بأن العراقيين حاولوا القيام بحركة في دمشق بواسطة الشخصيات والأحزاب ودفعوا مبالغ لقاء ذلك ففشلوا . والآن هم معتمدون على حركة داخل الجيش والأرجح أن الذين سيقومون بهذه الحركة هم من الضباط الصغار . لأن الضباط الصغار ليس لهم رتب يخسرونها إذا طغى العراق على الشام (43) ، وموقف الشام هو أحد اثنين ، اما ستنضم الى الحلف التركي أو لاتنضم . فإذا انضمت الى الحلف التركي فسيسيطر نفوذ العراق والترك ويكون العمل الأول ضربة دامية جذرية للحزب الشيوعي ” . وقال في هذه الرسالة : ” وقد يكون العمال الغربيون هم أنفسهم ينشرون الشيوعية في الشام تبريراً للضربة ” .

وليست هذه هي كل الأطراف في المؤامرة على سوريا .. بل هناك أديب الشيشكلي آخر دكتاتور حكم سوريا قبل وحدتها مع مصر عام 1958 ، ولنترك الكلام عنه لمطالعة النائب العام في سوريا .

” ان اديب الشيشكلي قدم من فرنسا هذا الصيف وأستدعاه لمقابلته (44) في بيروت حيث عرف منه أن سبب قدومه انما هو لتهيثة انقلاب ، وطلب رأيه في الموضوع مبيناً له أنه من الصعب عليه ايجاد مجموعة من الضباط تتعاون معه ، وانه اتصل بعد مدة بصلاح الشيشكلي (45) الذي أعلمه أن الانقلاب أضحى جاهزاً وانه سيكون هذه المرة دموياً وعنيفاً يصار فيه الى اغتيال أو اعتقال عدة أشخاص منهم المقدم عبد الحميد السراج والرئيس (46) مصطفى حمدون والرئيس عبد الغني قنوت وأكرم الحوراني وخالد بكداش.. ورؤساء الشعب في الاركان العامة . كما أنه اتفق على اغتيال فخامة الرئيس القوتلي على اعتبار انه ، كما يزعم صلاح ، يعود بعد كل حدث . ولذلك تقرر قتله للتخلص منه نهائياً ” (47) .

أما كيفية تنفيذ المؤامرة فتبدو بجلاء في دور كل من العراق وإسرائيل .. ” كان محمد صفا شرع في الحديث قائلا : ان وضع البلاد سيئ ، وانه ينبغي التخلص من الوضع الحاضر عن طريق عصيان مسلح يشترك فيه المواطنون في كافة انحاء سوريا بغية وضع حد لأعمال الجيش ، وأنه متى نشبت الثورة على هذه الصورة فإن الجيش العراقي  سيتدخل من الحدود التي لا توجد فيها قطعات ( وحدات ) للجيش ، على اعتبار أن معظم القطعات السورية منتشرة على الحدود السورية – الاسرائيلية ، كما انه من  المحتمل أن تحصل في الوقت نفسه مناوشات بين قوات الجيش الاسرائيلي وقوات الجيش السوري، بحيث لا يستطيع الأخير أن يبعث بقطعات لمقاومة العصيان أو لرد تدخل الجيش العراقي ” (48) .

لقد كان المشرف على تنفيذ المؤامرة وامدادها بالمال العقيد صالح مهدي السامرائي الملحق العسكري العراقي في بيروت . ” وكلف العقيد صالح مهدي السامرائي الملحق العسكري العراقي السابق في دمشق ، وكان ابعد عنها لاشتراكه في مؤامرة سابقة فنقلته الحكومة العراقية الى بيروت ، كلف هذا العقيد بالقيام  بالاتصالات اللازمة لانفاذ المؤامرة ووضعت بين يديه الأموال التي يتطلبها تحقيقها ” .  (49).

لقد كان لموقف سوريا ومصر من حلف بغداد ما أزعج الاستعمار وما دفع به لتلمس الوسائل التي يستطيع بها ارغامها على الدخول فيه : ” ولاحظ  أن سوريا مركز التوازن في هذه المجموعة العربية، فلو خضعت بطريقة ما لأمكن فرط هذا العقد العربي، ولخضعت بعدها الأردن ولبنان ولضعف مركز مصر وغلبت على أمرها، فاما قبلت الدخول في هذا الحلف طوعاً أو كرهاً واما أهملت وعزلت عن بقية العالم العربي. ولقد جرى عرض هذا الرأي في دعوى مقتل المرحوم العقيد المالكي في الرسائل المرسلة من قبل هشام الشرابي من أمريكا الى الرئيس الحزب القومي السوري والتي كانت موضع بحث ومناقشة في المحاكمات السابقة والخاصة بقتل العقيد المالكي .

“فالعزم قد تركز على عزل مصر باخضاع سوريا للحلف العراقي التركي بأي ثمن وبأية وسيلة. لقد لجأوا إلى التهديد بالطرق الدبلوماسية فما أغنى تهديدهم شيئاً . ثم لجأوا الى الحشود على الحدود التركية السورية فما أفلح كيدهم. دفعوا إسرائيل للحشد والتحرش أكثر من مرة فأخفق مسعاهم ، فاستقر رأيهم على أن يعالجوا ذلك بوسائل أخرى ، فأجمعوا كيدهم  وأخذوا يكيدون… ” (50).

يتضح مما سبق أن سوريا كانت مركز التوازن في محاربة الحلف . وما دامت سوريا تقاومه فلا سبيل لنجاحه. فإذا ارتبطت به رجح وزن الحلف ومالت الاردن ولبنان بطبيعة الحال ، وجرها الثقل . ” فهناك اذن عزم قائم دائم وإرادة حاضرة ثابتة من قبل الحكومة العراقية لاشاعة الاضطراب في سوريا ، تحدث عنه سعيد تقي الدين وكشفه برسالته الى جورج عبد المسيح منذ أول عام 1955 والحلف العراقي التركي على وشك التوقيع ، دفع الأموال العراقية الى الاحزاب والأفراد (51) ، ولما فشل ذلك عمد إلى احداث حركة في الجيش وقتل المرحوم المالكي ، فهناك أمر استعماري دائم باحداث القلاقل في سوريا ” (52) .

وهكذا كانت بذرة الجرائم التي ولدت الجريمة تلو الجريمة هي الحلف العراقي التركي ، أو ما عرف باسم حلف بغداد . ” فمنذ أن عقد هذا الحلف ومنذ أن وقفت منه مصر وسوريا هذا الموقف الذي يمليه عليهما واجبهما القومي ، أخذ الاستعمار يتوجس من هذا الوعي العربي الذي جاوز القول الى الفعل. ونحن نعتقد أن الاستعمار لم يكن  توجسه للموقف السلبي الذي وقفته مصر وسوريا من الحلف ، وإنما توجس من موقفهما العربي الإيجابي الذي أعلن أن مهمة الدفاع عن الشرق العربي إنما يعود لأهله لا للاستعمار. فلقد علم أن مصر وسوريا ستسعيان وتعملان لاستكمال أهميتهما ليكونا في الحالة التي تتناسب وموقفهما المستقل ، ومعنى ذلك انهما  ستسيران يوماً بعد يوم نحو كمال الوحدة . ومعنى ذلك أن الاستعمار كالمغتصب سيجد المغصوب منه المعتدي عليه، وهي البلاد العربية ، آخذة بأسباب القوة التي تحقق وجودها وتفرض احترامها وتحمي استقلالها ” (53) .

ونكتفي بهذا القدر من هذه الوقائع التي تكشف العراق ومن ورائه حلف بغداد ، لنأتي على فصل جديد من المسرحية التي مثلت على مسرح الأحداث السورية ومن حولها ، تحرك شخصياتها القوى الامبريالية من وراء الكواليس. وسنرى مدى التشابه بين ما فعله حلف بغداد وما فعله مبدأ أيزنهاور في عام 1957. ان القصة تتكرر وان اختلفت بعض الشخصيات والأبطال. سوريا ترفض حلف بغداد ، فإذا بهذا الحلف يتآمر ضدها ؟! وسوريا ترفض مبدأ أيزنهاور ، فإذا  بهذا يثير أزمة عنيفة معها مدعياً انها أصبحت مقاطعة شيوعية تابعة للاتحاد السوفييتي . نفس الأهداف بمسميات مختلفة تود كلها اخضاع سوريا وجرها للنفوذ الغربي .

وقبل أن ننتقل في الحديث عن مشروع ايزنهاور يثور سؤال هام . لماذا يقف العراق من سوريا هذا الموقف الذي يدعم الاستعمار والامبريالية ونفوذهما في المنطقة؟

لقد فكر بعض الساسة الغربيين أن أي اتحاد مع العراق سوف يربط سوريا مع الأمبرياليين وسيعجل بخطوات أبعد باتجاه الوحدة العربية تحت راية الاستعمار كما حدث في عام 1944 حين أنشئت الجامعة العربية. ولهذا ألح كل من العراق والبيت الهاشمي الملكي على تقييد وحصر الوحدة العربية بين تلك الدول العربية التي يأملان أن يسيطرا عليها : العراق وسوريا والأردن . أما مصر أكبر وأقوى دولة عربية سوف تبعد باستمرار. وبينما مصر لم تكن قد ظهرت كبطل للعرب حتى عام 1955، الا أنها قد عملت بكل الجهود أن تلقي بالسيطرة البريطانية. ” وما نشده المصريون في دمشق باستمرار لم يكن خارجاً عن حق الاتحاد، بل الاحتفاظ بسوريا بعيدا عن متناول القوى المسلحة للعراق. ولقد كان هذا الهدف المحدود في داخل الدائرة الممكن تحقيقها دوما ” (54).

أما أحلام بغداد فلا تخفي تجاه دمشق. ولقد حاولت أن تحقق هذه الأحلام بشتى الطرق، أما عن طريق الأحلاف الغربية مثل حلف بغداد ، أو عن طريق المؤامرات التي تثيرها داخل سوريا هادفة احضار حكومة سورية تستطيع السيطرة عليها ، أو عن طريق الاتحاد بين العراق وسوريا باسم العروبة، و بمعنى الهلال الخصيب فعلا. وهكذا، كان لبغداد مصالح هامة في دمشق وكانت لها أحلام .

” كانت بغداد تريد دمشق داخل حلف بغداد تأميناً لجناحها الغربي، وفتحا للطريق أمام هذا الحلف الاستعماري أن يبسط نفوذه على الأردن ولبنان بعد سوريا!

” ثم كان لبغداد في دمشق حلم قديم هو ان يعود عرشها إلى الأسرة الهاشمية الحاكم في بغداد ، والتي كان لها الحكم يوماً في سوريا وان يجلس عليه الأمير عبد الاله بالذات ” (55) .

هوامش

(1)     سنرى في نهاية هذا الفصل الصراع العنيف على النفوذ في منطقة الشرق الأوسط وتنافس الدول الاستعمارية فيما بينها على مراكز النفوذ وكيف حلت الولايات المتحدة مكان كل من بريطانيا وفرنسا.
(2)     مطاع صفدي : مرجع سابق ، ص 352 .
(3)     لمزيد من التفاصيل عن هذا الاتفاق انظر Campell : op .cit p.51
(4)     جاءت الفقرات السابقة في كتاب دراسات في المجتمع العربي ، مجموعة من اساتذة كليتي الآداب والاقتصاد ، جامعة القاهرة ( دار النهضة العربية 1961- 1962 ) الطبعة الثانية ص 320 القسم الثاني بقلم د . عبد الملك عودة .
(5)     وولتر لاكور : مرجع سابق ، ص 222 .
(6)     بيير روندو : مستقبل الشرق الأوسط ( ترجمة نجدة هاجر ، المكتب التجاري ، بيروت 1959 ) ص 130- 131 .
(7)     وولتر لاكور : مرجع سابق ، ص 222 . ويضيف لما سبق قائلاً : ” ان للهند أسباب أوجه تدعوها على الاستياء والشعور بالخطر من حلف بغداد ، لأن باكستان جارتها المعادية ، تتقوى عصريا من هذا الحلف ، ومع ذلك فلم تتدهور العلاقات بين الهند والغرب كما تدهورت بين الغرب من جهة ومصر وسوريا من جهة ثانية . كما أن عدم وجود ما يشبه المشكلة الاسرائيلية لم يؤد الى تقارب الهند والاتحاد السوفييتي كما أدى إلى التقارب بين موسكو والقاهرة ودمشق ” .
(8)     Cremeans : ” The Arab and the World ” ( Fredrick New York , 1963 ) p .140 .
(9)     الوثيقة الثانية من مطالعة النائب العام في ( حقيقة المؤامرة على سوريا والوطن العربي ) ص 32 . ولمعرفة المزيد من التفاصيل عن موقف الحكومتين المصرية والسورية من حلف بغداد ، راجع : Campell : op .cit .54
(10) نضال البعث ، الجزء الرابع ص 25-26 .
(11) المرجع السابق ، ص 51-52 ، من بيان لحزب البعث بتاريخ 17 ابريل ( نيسان ) سنة 1956 .
(12) غاي ونت : مرجع سابق ، ص 54- 55 .
(13) المرجع السابق ص 55 .
(14) Campell op cit , p . 234
(15) وقعت اتفاقية الجلاء المذكورة بتاريخ 27 يوليو سنة 1954 .
(16) Eden , C: op .cit .p.328-340
ويربط بين البيان الثلاثي الذي اصدرته بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وبين علاقة مصر بإسرائيل وبين انشاء حلف بغداد وكذلك انظر
Campell , C : op .cit .p .39
(34) ياسين الحافظ : ” حول بعض قضايا الثورة العربية ” ( دار الطليعة ، بيروت ، سنة 1965 ) ص 178
(35) وولتر لاكور : مرجع سابق ، ص 244 . وانظر كذلك  Campell : op . cit . p . 232   ويتحدث هنا عن الحلف كحلقة في الاستراتيجية العسكرية الغربية ومن هنا جاء هجوم الاتحاد السوفييتي عليه .
(36) المرجع السابق ، ص 244 .
(37) ياسين الحافظ : مرجع سابق ، ص 180 .
(38) تم في 20 اكتوبر عام 1955 توقيع ميثاق الدفاع المشترك بين مصر وسوريا ، وفي 27 اكتوبر 1955 وقعت مصر والسعودية اتفاقاً عسكرياً ثنائياً . وفي 21 ابريل عام 1956 تم توقيع اتفاق عسكري ثلاثي بين مصر والسعودية واليمن .
(39) وولتر لاكور : مرجع سابق ، ص 245 وكذلك  Campell : op . cit . p .56
(40) وولتر لاكور : مرجع سابق ، ص 238 .
(41) Marlowe : op . cit .p .92
(42) المرجع السابق ، ص 242 .
(43) من خطابه في المؤتمر العام لاتحاد القوى بتاريخ 9 يوليو ( تموز ) 1960 .
(44) د . جلال يحيى : مرجع سابق ، ص 672 .
(45) وولتر لاكور : مرجع سابق ، ص 270- 272 .
(46) المرجع السابق ، ص 277 .
(47) المرجع السابق ، ص 277- 278 .
(48) المرجع السابق ص 275 .
(49) انظر تطور العلاقات السوفييتية السورية والهبات الاقتصادية والعسكرية السوفييتية لسوريا في كتاب : Sealo : op . cit .255
(50) وولتر لاكور : مرجع سابق ، وانظر فيه بيان وزارة الخارجية السوفيتية عن تدهور الحالة في منطقة الشرق الأوسط بتاريخ 16 ابريل 1955 ، ص 244 .
(51) ياسين الحافظ : مرجع سابق ، ص 173 وما بعدها .
وانظر كذلك Eden : op .cit .259
ويتحدث هنا عن حصول مصر على السلاح ومضاعفات هذه العملية . وكذلك الصفحات من 507 الى 520 حيث يتحدث عن السلاح السوفيتي لمصر والعدوان الثلاثي . أما تأثير صفقة السلاح على الاستراتيجية الغربية في مواجهة الاتحاد السوفيتي فانظر ليدل هارت : ” نظرة جديدة الى الحرب مرجع سابق ، ص 165 .
ويقرر هنا أن الهدف الأساسي من صفقة السلاح هو احتجاج الاتحاد السوفيتي على دخول ايران حلف بغداد واعطاء السلاح لمصر بمثابة تطوير عملي تشتيتي في مؤخرات هذا الحلف الحديث الذي يقف بمواجهة الشمال .
(66) العقيد صفا ضابط مسرح من الجيش السوري .
(67) نائب في مجلس النواب السوري آنذاك . وكل الأسماء المعروضة فيما بعدهم أعضاء في مجلس النواب السوري أيضاً .
(68) الوثيقة الثانية من مطالعة النائب العام في حقيقة المؤامرة على سوريا والوطن العربي ص 83 .
(69) المرجع السابق ، ص 80 .
(70) المرجع السابق ، ص 86 .
(71) المرجع السابق ، ص 95 .
(72) يعني به هاشم الاتاسي من رؤساء جمهورية سورية السابقين .
(73) لبناني وعضو في الحزب القومي السوري الاجتماعي . أما جورج عبد المسيح فكان زعيم الحزب في الفترة موضع الدراسة .
(74) الشام لفظة يستعملها القوميون السوريون لتدل على سوريا بحدودها الحالية ، لأن سوريا هي تلك الطبيعة التي تضم فلسطين والأردن ولبنان والعراق . أو ما يسمى بالهلال الخصيب .
(75) يقصد به سامي كبارة .
(76) شقيق أديب الشيشكلي وقائد حرس البادية أثناء حكم أخيه .
(77) رتبة عسكرية تقابل نقيب في الجمهورية العربية المتحدة .
(78) الوثيقة الأولى من قرار الاتهام في المؤامرة على سوريا ص 36- 37 .
(79) المرجع السابق ، ص 46 .
(80) المرجع السابق ، ص 15 . راجع الملحق رقم (1) وهو وثيقة هامة جداً تظهر الأموال التي يدفعها السامرائي لقسم من المتآمرين .
(81) الوثيقة الثانية من مطالعة النائب العام في حقيقة المؤامرة على سوريا ص 8-7 ويكفي كبرهان على ما قصدت إليه مؤامرة حلف بغداد ضد سوريا أن نذكر أنه ليس من قبيل الصدفة اطلاقاً أن تكون هي وحرب السويس في نفس التاريخ . انظر بهذا الخصوص وولتر لاكور : مرجع سابق ، ص 277 .
(82) راجع بهذا الخصوص الوثيقة الهامة التي نشرها محمد حسنين هيكل في كتابه ، مرجع سابق ، ص 176 . وهي الملحق رقم (1) لهذه الرسالة .
(83) الوثيقة الثانية من مطالعة النائب العام في حقيقة المؤامرة على سوريا ، ص 31 .
(84) المرجع السابق ، ص 26
(85) Kerr, M: cit .p .4
(86)محمد حسنين هيكل : مرجع سابق ، ص 21

عن admin

شاهد أيضاً

وَّقف تأقولَّك …إستحي!؟

د.شكري الهزَّيل ترددت بعض الوقت  في الرد على ما لا يستحق الرد لكني اخذت بلباب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *