الرئيسية / حوارات ناصرية / 9 و 10 يونيو و13مايو – بقلم :جمال الغيطاني

9 و 10 يونيو و13مايو – بقلم :جمال الغيطاني

 


9و10 يونيو و13مايو

جمال الغيطاني

عندما أستعيد ما كان مني، من أيامي، خاصة تلك الاستثنائية سواء علي المستوي العام أو المستوي الشخصي، فان ليلة تنحي الرئيس جمال عبدالناصر تبرز علي الفور كليلة فاصلة، علامة، اما مضمونها فلم يفحص بعد لأن ثمة من عمدوا إلي تشويهه قصدا بعد رحيل الزعيم وبعضهم مازال، ليس لأن عبدالناصر يشكل خطرا الآن ولكن لما يمثله من قيم ومباديء. أهمها في رأيي القدرة علي التحدي والاحساس بالكرامة أما أهم المهم فهو انحيازه إلي الاغلبية من شعب مصر وهذا بيت القصيد، هنا موضوع يطول الحديث فيه، لكنني اتوقف عند تلك الليلة وعلاقتها بمدينة القاهرة.
بدأت الحرب يوم الاثنين الخامس من يونيو صباحا، أذكر كل لحظة وكأني أعيشها الآن، توالت البيانات باسقاط الطائرات، وما من بيانات عن تقدم قواتنا المسلحة عبر الحدود بل كانت عبارات غامضة عن معارك عنيفة تجري علي امتداد الجبهة، بادرت محاولا الاتصال بأصدقائي في ذلك الوقت، الأبنودي، صبري حافظ، صلاح عيسي، اسماعيل العادلي ‘رحمه الله’، كان السؤال علي ألسنتنا جميعا: ماذا نفعل؟ كيف؟ أين؟
توالت الاقتراحات، بدءا من التبرع بالدم إلي التطوع، لكن أين نتطوع وكيف؟، كانت مصادر المعلومات في تلك الأيام وسائل الاعلام المصرية خاصة الاذاعة، والاذاعة البريطانية الناطقة بالعربية، كان ارسالها ضعيفا ويبدو انها كانت تتعرض لعملية تشويش، لم يكن الأمر كما هو الآن حيث الحروب تبث مباشرة عبر الأقمار الصناعية، ها نحن بعد واحد وأربعين عاما نري لأول مرة فيلما عن الاسري المصريين الذين تم اغتيالهم، بل ان حوالي ثلاثين عاما كان لابد أن تمضي حتي أري بعض مشاهد الحرب فوق سيناء، شاهدتها في قناة فرنسية متخصصة في التاريخ، أما حربا الاستنزاف وأكتوبر فقد عشتهما بنفسي بعد أن تطوعت للعمل كمراسل حربي.
مازلت أذكر تلك اللحظة، كنت عائدا الي بيتنا في درب الطبلاوي حوالي الثانية والنصف. عند المدخل، أمام مسجد سيدي مرزوق سمعت ازيز طائرة، رفعت رأسي إلي السماء الصافية عميقة الزرقة ، فوجئت.
طائرة من طراز ميراج علي جناحيها نجمة داود، علي خط واحد مع المئذنة، رأيت القمرة الزجاجية وكافة التفاصيل، حتي خيل إلي أنني لمحت الطيار، أخذني الذهول.
كيف نفذت هذه الطائرة إلي القاهرة؟
أين أسلحة الدفاع الجوي؟ أين الحشد العسكري الذي توالت علينا صوره طوال الأيام الماضية؟ أسرعت الي المذياع، في التاسعة ليلا أصغيت إلي جملة وردت في تقرير بثته الاذاعة البريطانية، كان نصها ‘ويبدو ان المعارك تدور فوق الأراضي المصرية..’
كان ذلك يوم الاثنين ليلا، اذكر تفاصيل اليوم الأول تماما، بل اذكر تفاصيل الايام السابقة منذ أن بدأ الحديث عن حشود عسكرية علي سوريا ‘فيما بعد أكد لي الفريق أول محمد فوزي والفريق عبدالمنعم رياض وإليهما يرجع الفضل في اعادة البناء العسكري الذي قدر لي أن أشهد وأعايش تفاصيله حتي عبور الجيش المصري قناة السويس في معركة لم ينقل ما دار فيها حتي الآن إلي الناس’ أكد لي كل منهما أنه لم تكن هناك أي حشود عسكرية علي الحدود السورية. وأكد ذلك الاستاذ محمد حسنين هيكل في ثلاثيته، حرب الثلاثين عاما، هنا أسئلة كثيرة عن موقف القيادة السورية وقتئذ ولماذا الادعاء بوجود حشود غير موجودة، ولماذا الحديث عن توريط مصر في حرب؟ أسئلة عديدة لاتزال بدون أجوبة، لعل التاريخ يكشف عنها يوما، لقد كان عبدالناصر متسقا مع نفسه كزعيم قومي، حشد الجيش لنجدة بلد عربي أكدت الأنباء والشواهد لديه أنه يتعرض لخطر، هكذا جري الحشد المعنوي، ثم العسكري، ثم توجيه الضربة الاسرائيلية التي كانت قاتلة ماديا إلي حين، لكنها لم تقتل الروح، وهذا ما تجلي ليلة التنحي.
من الاثنين ليلا وحتي الخميس مساء لم تكن هناك أي شواهد علي علامات ايجابية، بل بدأنا نسمع عن وصول جنود شاردين من سيناء، كنا لا نفترق الا ليلا، ولم تتعرض القاهرة لغارات في تلك الأيام، باستثناء عصر يوم الثلاثاء الذي رأيت فيه طائرة معادية علي ارتفاع شاهق وقذائف المدفعية تحاصرها، تذكرت يومئذ أقدم صورة في ذاكرتي عندما كانت سماء القاهرة مظلمة، تجوب فضاءها أشعات كاشفة تحاول محاصرة الطائرات المعادية لقصفها، هكذا كان الحال عام ثمانية وأربعين، هكذا كان أول ما تعرفت عليه من العدو سلاح الطيران الإسرائيلي إن في طفولتي أو في عشرينات عمري، لا أذكر الآن متي أعلن عن بيان سيلقيه الرئيس إلي الأمة، ان تعبير الامة كان مقلقا، فهذا يتضمن معني آخر، ان المضمون مصيري ‘نذر كثيرة توحي بالتشاؤم’ لكن كان كل منا لديه أمل خفي، ان الزعيم سيعلن مفاجأة كبري، مفاجأة من أرض المعركة طبعا.
لم أشأ أن أصغي الي البيان عبر المذياع، كنت أريد أن أري الزعيم، أن أدقق ملامحه، لم تكن أجهزة التليفزيون منتشرة في ذلك الوقت، وكان البث بالأبيض والأسود.
اتجهت إلي شقة جارتنا التي كان لديها الجهاز الوحيد في البيت، في صالة البيت احتشد الجيران، رجال ، نساء، أطفال، احتاطت هي للموقف فرفعت التليفزيون فوق الثلاجة ‘الايديال’ التي كانت تتصدر الصالة.
في الموعد المحدد اطل الزعيم جمال عبدالناصر، للوهلة الاولي أدركت الموقف، لم يكن هذا ناصر الذي عرفناه في عز المواقيت، لم يكن هو الذي رأيته فوق منبر الازهر عام ستة وخمسين يلوح بقبضته ويعلن انه باق في القاهرة، وان أسرته باقية، وان أولاده في القاهرة وأنه سيقاتل مع الشعب، سيقاتل….
صورة مغايرة تماما، الألم، الاسي، الصوت المنكسر، نزل علينا صمت رهيب، إلي أن نطق بكلمة التنحي، بتحمله المسئولية، بقراره الاعتزال، هنا تبدل المناخ السائد تماما ودخلت المدينة كلها، ومصر كلها في حال آخر بتأثير انتفاضة الروح القديمة الكامنة وسرعان ما بدأت المدينة تغلي وتتحرك وتجري.
القاهرة تنبض
درب الطبلاوي متفرع من شارع قصر الشوق، سد، أي لا يؤدي الي حارة أخري، ولذلك أي غريب يدخله يتم اكتشافه بسهولة، كما أن سكانه يعرفون بعضهم البعض، بيتنا رقم أحد عشر، كان السكان يقفون في صالة الست عطيات لمشاهدة خطاب الرئيس جمال عبدالناصر، وما ان انتهي معلنا تنحيه عن السلطة واسناد المسئولية الي زكريا محيي الدين حتي وجدنا أنفسنا نندفع الي الدرب، نفارق بيوتنا الي الطريق، ليس لدي أي منا فكرة أو هدف محدد أو جزء من خطة أو خطة كاملة حتي، ما إن قطعت السلم متجها الي الباب وصولا الي الدرب حتي وجدت الجيران قد سبقونا، رجال ، أطفال، نساء يرتدين الجلابيب، بعضهن حفاة الاقدام، سمعت احداهن وكانت من فقراء الدرب تلطم صارخة.
‘سايبنا ورايح فين؟’
لم يكن أحد يعرف إلي أين يتجه بالضبط؟ وهنا تبدأ العلاقة بين الجماعة المصرية القديمة التي يدخل في تكوينها عناصر شتي من أقدم العصور، هذه العناصر لا تشكل ولا تظهر الا في اللحظات الاستثنائية من حياة الناس، سواء كانت ايجابية المضمون، أو سلبية، وهنا أيضا يتقدم المكان ليؤدي دوره، تتداخل المدينة والبشر، تبرز أهمية المركز، في مثل هذه الظروف وحتي القرن التاسع عشر كان المركز السياسي والروحي هو الجامع الازهر، هكذا كان الناس يلجأون اليه عند اشتداد ظلم وقهر المماليك زمن السلطنة المستقلة حتي القرن السادس عشر. أو خلال العصر العثماني عندما تحولت مصر الي ولاية تابعة، وخلال سنوات الحملة الفرنسية مع عصر الخديو اسماعيل انتقل مركز الحكم من القلعة الي قصر عابدين وبدأت ملامح الدولة الحديثة التي تعتمد علي المؤسسات، مجلس الشيوخ، البرلمان، نظارة الوزارة، الوزارات. كل هذه المؤسسات تمركزت في المنطقة الواقعة علي شمال الماشي في شارع القصر العيني قادما من ميدان التحرير، وعندما بني مجمع التحرير في نهاية الخمسينيات كمقر للمصالح الحكومية تدعم المركز السياسي للعاصمة، غير أن المراكز في المدن لا تنشأ بوجود المباني المهمة فقط، فمبني وزارة الداخلية أو الحربية لا تقترب منهما الاحداث، الي جانب مقار المؤسسات الرئيسية في الدولة تأتي الاحداث، خلال ثورة 1919، وعلي امتداد القرن العشرين كانت المظاهرات السياسية تتجه الي ميدان الاسماعيلية ‘نسبة الي الخديو اسماعيل’ وفيما بعد أصبح ميدان التحرير حيث تدعم المركز باجراء العرض العسكري في الثالث والعشرين من يوليو كل سنة قبل أن ينتقل الي أرض مدينة نصر، وتوقف تماما بعد حادث المنصة الشهير، وان كانت المنصة ماتزال موجودة!
في تلك الليلة بدت المدينة مثل الكائن الحي. الناس تتدفق من الحواري، من الشوارع، من درب الطبلاوي الي شارع قصر الشوق، علي المدخل فوجئت بصديقي الاقرب الروائي يوسف القعيد، كان قادما من مستشفي غمرة العسكري الذي كان يؤدي الخدمة العسكرية فيه، في الظروف العادية يحتاج المرء الي أكثر من نصف ساعة ليقطع هذه المسافة، كيف وصل يوسف خلال هذه الفترة القصيرة؟
كان يبدو متأثرا، منفعلا، مضينا معا الي ميدان الحسين، الي شارع الازهر الذي غص بحشود بشرية كانت تتجه الي ميدان العتبة، أثناء مشينا بدأت غارة جوية وامتلأت سماء المدينة بنيران القذائف المضادة للطائرات، قيل فيما بعد انها غارة مفتعلة، من أفتعلها؟ لا ندري، هل هم رجال المشير عامر الذي تسبب في الهزيمة؟ ليس مهما بالنسبة لي معرفة من دبر الغارة أو اذا كانت غارة حقيقية، المهم الحالة التي كنا عليها والتي كان عليها الناس، لحظات استثنائية بحق يتوحد فيها الجميع، اتذكر التعبير المصري القديم الذي ورد في كتاب ‘الخروج الي النهار’: عندما يصير الكل في واحد، هذه الليلة صار المصريون واحدا غير منقسم، تحركوا بدافع واحد لم يحركه حزب ولا قوي سياسية، انما حركه تكوين اعتقد بكثير من ذلك. لقد كتبت أقلام كثيرة غامزة ملمزة ­ خاصة الاقلام التي اطلقها أنور السادات بدهاء وخبث لتصفية وتشويه المرحلة الناصرية ­ عن دور الاتحاد الاشتراكي في حشد الناس، أقول بعد أربعين عاما ان ما جري هذه الليلة يفوق قدرة أي حزب في العالم أو قوة سياسية، ما جري انتفاضة روح لشعب قديم رفضا للهزيمة، ومؤازرة للقائد الجريح الذي ادرك الناس بحسهم السليم التلقائي انه ضحية مثلهم، كانت تلك الهبة أول رد عملي علي الهزيمة العسكرية، الرفض وعدم الاستسلام. كلما تقدمنا الي ميدان التحرير يصبح المشي صعبا، يقل عدد النساء فالليل يتقدم، وعندما تمكنا أخيرا من الوصول كان البشر أمواجا متلاطمة، في ميدان التحرير صب الجمع، وهناك بدأ يبرز مركز آخر، الاتجاه الي منشية البكري حيث بيت القائد الجريح، بقينا ‘أنا ويوسف’ في الشارع من مساء الخميس التاسع من يونيو وحتي صباح السبت، لم نكن وحدنا بل معنا ملايين المتظاهرين من شتي فئات الشعب المصري، كانت المظاهرات تجوب الشوارع والهتافات تردد مطالبة الزعيم بالبقاء، كنا في مقتبل العمر، بداية العقد الثالث، وكانت الطاقة تكفي لمساندة الجهد البدني المبذول، أكثر من أربعين ساعة بدون نأوي، تأوي أحيانا الي مقهي ريش مقر المثقفين وقتئذ بفضل ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية.
الثانية عشرة ظهرا ساد الشوارع، خاصة المركز’ ميدان التحرير’ حماس هائل بعد رسالة الزعيم الي مجلس الشعب واستجابته الي مطلبه بعدم التنحي، عاد يوسف الي بيته واتجهت الي منزل الشاعر الكبير الابنودي، مقره في ميدان باب اللوق وقتئذ، كان البيت مفتوحا دائما للاصدقاء، قابلت عنده الزملاء الذين اعرفهم ومعظمهم كانوا رفقة المعتقل الذي خرجنا منه قبل شهرين فقط، والتقينا أيضا بالمناضل الفلسطيني مازن أبوغزالة لأول مرة وآخر مرة، كان صوته مبحوحا من الهتاف، وكان يردد، ‘ لا فائدة الا في المواجهة’. لقد ذكرته في قصتي القصيرة ‘أوراق شاب عاش منذ ألف عام’ والتي كتبتها من وحي تلك الساعات ونفذ هو ما تحدث عنه، اختفي من القاهرة، وفي نوفمبر من نفس العام قرأنا خبر استشهاده في مرتفعات طوباس، بعد شهور قليلة بدأت عملي في الصحافة، سافر الابنودي الي السويس ليقيم ويكتب عملا أدبيا جميلا من أروع أشعار المقاومة ‘وجوه من الشط’. وعلي الجبهة جري عمل رهيب اشبه بالمعجزة، اعادة البناء العسكري، وبدء حرب الاستنزاف. كل هذه خطوات تالية لأول وثبة روحية كبري انطلقت من شرايين القاهرة التي صبت في المركز ‘ميدان التحرير’ والذي قدر لي أن اشهد لحظات أخري حاسمة فيه وبعضها مؤثر جدا.
الميدان

ما بين يونيو 1967 وما بين مارس 1969 جرت أمور كثيرة حاسمة.
بعد أن أعلن الرئيس جمال عبدالناصر العودة الي السلطة، والاستمرار في الامساك بمقاليد الامور، في نفس اليوم اتخذ قرارا بتعيين الفريق أول محمد فوزي وزيرا للحربية وقائدا عاما للقوات المسلحة، والفريق عبدالمنعم رياض رئيسا للاركان، كان كلاهما برتبة اللواء، ولم يكونا من المقربين من مجموعة المشير عبدالحكيم عامر، كان كلاهما جنديا محترفا، مهنيا، علي علم واسع وخبرة، وكان اختيارهما موفقا وسديدا الي أبعد حد، لقد قدر لي فيما بعد ان اتعرف علي الفريق أول البطل، العظيم، المثال الفذ علي العسكرية العربية ، النزيه، محمد فوزي، تعرفت عليه وتوثقت علاقتي به بعد خروجه من السجن الذي دفعه اليه الرئيس محمد أنور السادات بعد حركة الخامس عشر من مايو عام 1971 ان الصور تتوارد علي ذهني، وتتزاحم، لقد حضرت يوم الخميس الثالث عشر من مايو عام 1971 حفل تخرج دفعة جديدة من الكلية الفنية العسكرية، حضرتها بصفتين، الاولي انني محرر عسكري للأخبار، والثانية كان شقيقي اسماعيل بين الخريجين في هذا اليوم، وقفت عن كثب بصفتي الاولي من منصة الاحتفال، ارقب الفريق أول محمد فوزي وهو يقلد أول الدفعة وساما، لاحظت غياب الفريق محمد صادق رئيس الاركان، والتجهم والحزن علي وجه الفريق فوزي المشهور بصرامته وملامحه التي لم تعرف الابتسام، يشاء القدر أن أشهد آخر مرة يظهر فيه بصفته قائدا عاما، لقد اعتقل مساء اليوم نفسه ولهذا تفصيل يطول أمره، لكنه كان قد اعاد بناء القوات المسلحة المصرية في مهمة كانت تبدو مستحيلة بالقياس الي حجم الهزيمة وآثارها، مازلت اذكر صباح الأحد الحادي عشر من يونيو، عندما قرأت عنوان الاهرام ‘اعادة البناء العسكري’.. رغم مرور أربعين عاما الآن، فمازلت أري العنوان وكأنه أمامي، بدا لي الامر بعيدا، اعادة البناء العسكري؟ كيف؟ أي مرحلة تبدأ؟ كان حجم الهزيمة قد بدأ يظهر تدريجيا. لم تكن الحروب تدار من خلال البث المباشر كما هو الآن، رغم مرور أربعين عاما علي يونيو هذا العام فكثير من الامور لاتزال غامضة، سواء تلك المتعلقة بجرائم اسرائيل في سيناء، أو الادوار الغامضة التي لعبها بعض الاشخاص المعزولين عن مجموعة المشير وأخص منهم وزير الحربية شمس بدران، الذي مازال يعيش حتي الآن في لندن، ان اسرارا كثيرة لم تكشف بعد ولم تعرف بعد، وليت الذكري الاربعين تكون مناسبة لفحص هذه الهزيمة وما أدي اليها حتي نتفحص الاسباب.
بدأ الفريق أول محمد فوزي، والفريق عبدالمنعم رياض الذي تولي رئاسة الاركان، وكبار القادة الذين كانوا مبعدين في مرحلة المشير عامر، قادة الجيش الذين لم تتح لهم الفرصة للاشتباك في قتال حقيقي، عمليا بدأت القوات المسلحة المصرية الرد بعد أيام من وقف اطلاق النار، في الثلاثين من يونيو أي بعد وقف اطلاق النار بثلاثة أسابيع، تقدم طابور مدرع اسرائيلي الي شمال سيناء قاصدا الاستيلاء علي موقع اسمه رأس العش يليه مدينة بورفؤاد علي الضفة الشرقية لسيناء، كانت هذه المساحة لم تحتل في يونيو وحتي تكتمل سيطرة اسرائيل علي شبه الجزيرة الضخمة تقدم هذا الطابور لاتمام الاحتلال. غير أن مجموعة صغيرة من مقاتلي الصاعقة يقودهم المقدم ‘وقتئذ’ ابراهيم الرفاعي، تصدوا لهذه القوة المدرعة واشتبكوا معها ودمروها، كانت البيانات العسكرية تصدر مختصرة، موجزة، حذرة بعد بيانات يونيو، وطوال سنوات حرب الاستنزاف كانت البيانات تعد متحفظة اذا ما قورنت بما يتم علي أرض الواقع، كان البناء العسكري يتم خطوة، خطوة، وكان يتم من خلال الاشتباك، وكان الزعيم يتابع أدق أمور بنفسه، لقد أصبح الامر يتعلق بروح مصر وسمعة العسكرية العربية كلها، كان التحدي رهيبا، غير أن الجهد المبذول والعزم كان اسطوريا، ويشاء قدري أن ابدأ عملي في الصحافة عام 1969، في بداية أخطر مراحل حرب الاستنزاف، طوال الفترة من يونيو 1967 الي 9 مارس 1969، جري البناء العسكري موازيا للاشتباك عبر القناة ومر ذلك بمراحل سأعود اليها، ولكن استيقظت مصر علي حدث مهول اذا استخدمنا طريقة المؤرخين القدامي في الوصف.
ماذا جري؟
لقد أذيع بيان عسكري وبيان عن الزعيم جمال عبدالناصر، ينعي الي الامة المصرية، الي الامة العربية، نبأ استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض في الخط الامامي من جبهة القتال، بالتحديد في منطقة الفردان المطلة علي مياه القناة مباشرة، لقد اتيح لي أن ازور موقع استشهاده عدة مرات فيما بعد، وسوف اعود لوصفه تفصيلا، لقد استشهد الرجل في أقصي نقطة متقدمة، في موضع يمكن رصد أي انسان فيه لان مواقع العدو كانت أعلي لسبب، وهو أن ناتج الحفر لقناة السويس كان يلقي شرقا وليس غربا، لذلك أصبح الجيش الاسرائيلي في مواضع حاكمة تمكنهم من كشف أي تحركات علي الضفة الغربية، كان القناصة نشيطين جدا، واذا رصد أي هدف يتم قصفه بدقة، حققت القوات المسلحة المصرية المعادلة المستحيلة، اعادة البناء العسكري من خلال الاشتباك اليومي، في نفس الوقت كانت هناك جفوة، أو بتعبير آخر مسافة بين الشعب والقوات المسلحة، لم تكن حقيقة ما جري معروفة، لكن بالنسبة للشعب كانت المؤسسة العسكرية هي التي تتحمل المسئولية، لكن الموقف تبدل تماما صبيحة التاسع من مارس، لقد استشهد رئيس الاركان في المقدمة بين رجاله، وكان الخبر كفيلا بالغاء تلك المسافة، كانت الصورة العامة للفريق رياض غامضة، لم يكن أحد يعرف عنه شيئا، لكن ملامح وجهه كانت طيبة، وكانت سيرته وسمعته تسبقه، وقد عرفت مثل كل الناس معلومات أكثر عنه وكتبت عنه كثيرا وأخذت علي نفسي عهدا ان اذكر به وبآخرين أتيح لي الوقوف علي ما قدموه في الحرب فأنا خبير بالنسيان، آفتنا العربية.
لن أنسي ميدان التحرير صباح التشييع، مصر كلها خرجت لتوديع الشهيد، عندما دخلت الميدان قادما من القاهرة القديمة رأيت مشهدا أسطوريا بحق، الميدان غص بالبشر، ربما مليونين، ثلاثة ملايين، كلهم صامتون تماما، حداد أسطوري وحزن وافد من عمق الزمن، هذا الصمت تبدد عندما تحرك الموكب، عربة المدفع تحمل جثمان الشهيد، الزعيم يتقدم الجنازة، الناس تحيط به، الطوق الامني ينكسر عند بداية شارع سليمان باشا ، يصبح عبدالناصر وجها لوجه مع الناس، كنت قريبا جدا، فجأة يحيط به مجموعة من الشباب الأقوياء والرجال متقدمي السن، أناس عاديون من عامة الشعب، ربما يراهم لأول مرة ويرونه، يشكلون طوقا بشريا حوله، يستمر تشييع الشهيد العظيم في مشهد أعظم.
رأيت ذلك بأم عيني في ميدان التحرير

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول إذاعة ونشر رد «عبدالناصر» على خطاب الرئيس العراقى أحمد حسن البكر

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول …

تعليق واحد

  1. Great article ,a reminder when Egypt leader stood for principles, dignity ,independent in its decision not a puppet to the Zionists everywhere or to the petro-dollars ,
    النسيان، آفتنا العربية.
    True ,but
    الفريق أول محمد فوزي والفريق عبدالمنعم رياض وابراهيم الرفاعي
    but when forget the blood of our heroes and forget who killed them ,or forget our true enemy and creat new false one then,that would be treachery,and treason to the blood of our heroes.
    Freedom for Palestinians to return to their own homes in occupied Palestine from water to water.
    Salute to all true freedom fighters such as the hero you mention in your article
    المناضل الفلسطيني مازن أبوغزالة الذي أستشهد في مرتفعات طوباس
    Salute to the Palestinians mothers who endures the brutality of the Zionists terrorists occupiers to Palestine who kills,burn and take away the limbs their children daily
    Freedom for the 7000 freedom fighters(Nelson Mandelas) in the prisons of the terrorists Zionists occupiers to Palestine
    Justice and freedom for Palestinians

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *