الرئيسية / كتاب الوعي العربي / معنى التنمية الوطنية

معنى التنمية الوطنية

الإثنين 07 شوال 1440 هـ ، 10 يونيو 2019 م

main.png.jpg3

معنى التنمية الوطنية
عبد الإله بلقزيزما من تنميةٍ وطنيّة تُبْنَى من طريق الاستعارة والتقليد؛ لأنّ التنمية متعلّقة بشرط التطوّر في المجتمع الذي تحصل فيه عمليّتُها، وبنوع الممكنات الماديّة الواقعيّة التي يفرضها واقع التطوّر ذاك. احتذاء نموذج تنمويّ أو الاقتداء به مسلكٌ محفوف بالعبثيّة والامتناع إن لم تتهيّأ الموارد والقدرات التي تجعل مثل ذلك الاحتذاء فعلاً ممكناً وموفور عوامل النجاح. كم من بلدٍ عربيّ – وفي منظومة دول الجنوب إجمالاً- استهوتْهُ فكرةُ تقليد النموذج التنمويّ «الاشتراكيّ» (السوفييتيّ على وجه التحديد)، فطفِق يعمل من أجل إخضاع الاقتصاد لنظام التخطيط المركزيّ، وإيلاء الأولويّة للقطاع الصناعيّ، وفي ظنّه أنه بذلك يحرق مراحل التطور، نظير ما فعل الاتحاد السوفييتيّ، ويَلج حقبة بناء الاقتصاد الإنتاجيّ القويّ والتنمية المستقلّة، قبل أن يكتشف – ولكن متأخراً – أنّ التصنيع الثقيل ليس يمكن أمرُهُ في بلدٍ لم يحقّق بعدُ وفرة في الاقتصاد الغذائيّ، ولم ينجح بعد في إنتاج العلم والتكنولوجيا، وتأهيل قوى الإنتاج، ليبلغ بذلك كلِّه الحدّ الذي يَقْوى فيه اقتصاده «الصناعيّ» على المنافسة في المحيط الدوليّ.
في المقابل، كم من بلدٍ استهوتْهُ تجربةُ الاقتصاد الليبراليّ الحُرّ، في بلدان الغرب الرأسماليّ، فانصرف إلى تقليدها – في محطاتها المتأخّرة لا في مقدّماتها – وبرمجة التنمية على منوالها. هكذا «حرَّر» الاقتصاد من إشراف الدولة وتدخُّلها؛ وفوَّت أملاك الدولة للقطاع الخاصّ (الخصخصة)؛ و«حرّر» الأسعار بإلغاء صناديق الدعم لموادّ الاستهلاك الأساسيّة؛ وخفّض سعر العملة الوطنيّة لتشجيع الاستثمارات الأجنبيّة؛ وأوقف الإنفاق على برامج التنمية الاجتماعيّة في قطاعات التعليم والصحّة والإسكان، تاركاً هذه القطاعات لقوى الاستثمار الخاصّ؛ وأَوْلى الاهتمام للاستثمارات الطفيليّة (غير الإنتاجيّة) المُدِرّة للأرباح: في قطاعات السياحة والإنشاءات العقاريّة والتجارة والمال …، وفي ظنّه أنّه يخطو بذلك في طريق النموذج التنمويّ المعمول به في بريطانيا والولايات المتحدة وإسبانيا وسواها. وهو- مثل الأوّل – نسيَ أنّ «الاقتصاد الحُرّ» والتنمية السياحيّة والعقاريّة والاقتصاد الماليّ لا تنجح إلاّ في دولٍ قطعت شوطاً في البناء التنمويّ الوطنيّ، الذي تقودُه الدولة، وفي تحقيق معدّلات عالية من التعليم والتأهيل العلميّ وكفالة الحقوق الاجتماعيّة للمواطنين.
فشِل المَسْعَيان إلى تقليد النموذجيْن التنمويَيْن (الاشتراكيّ والليبراليّ) في البلاد العربيّة، لأنّهما قاما على فكرة استعارة النموذج، ولم تَقْوَ البلدان الذاهبة فيه على تحصيل قدْر من النجاح في ما تطلعت إليه. وكم كان دالاًّ على الأفق المسدود، في تينك التجربتين، أن تضطر بلدانٌ عدّة – من أتباع هذا النموذج أو ذاك – لاستيراد خبْرات وكفاءات أجنبيّة لتدير مشروعاتها لعجزٍ فادح لديها في الكفاءات والأطر عالية التكوين.. وإذْ سَلَّم التابعون للنموذجيْن التنمويين بمشروعيّة الاستعانة بالخبرة الأجنبيّة المستوردة، ذهلوا عن الحقائق الأمّ في أيّ تنمية وطنيّة، ومنها:
* أوّلاً: إنّ أيّ تنمية تقتضي تعبئةً للموارد الطبيعيّة والبشريّة المحلّية وتأهيلاً لها. ليستِ التعبئة تجميعاً وتسخيراً، وإنّما هي – في المقام الأوّل – بناءٌ وإعدادٌ للموارد البشريّة، وتوظيف عقلانيٌّ رشيد للموارد الطبيعيّة والماليّة.
ولمّا كانت وفرةُ موارد الطبيعة والمال لا تصنع، في حدّ ذاتها، تنميّةً من دون قوى بشريّة مؤهّلة ومدرّبة وذات تكوين عالٍ – في بعض أقسامها – تبيَّن أنّ الدولة، لا غيرها، مَن عليه أن يُنتج تلك الخبرة عبر التعليم والتأهيل العلميّ. وإذا كانت الدولة، بهذا المعنى، في أساس أيّ تنمية فهي، في الوقت عينه، ضمانةُ عدِم تبعيّتها واعتمادها على الأجنبيّ.
* ثانياً: من النافل القول: إنّ التنمية الحقّ هي تلك التي تنتظم ضمن برنامج إجابة الحاجات الاجتماعيّة؛ بناء الاقتصاد الغذائيّ القويّ؛ بناء نظامٍ تعليميّ متطوّر ومنتج؛ تشييد نظامٍ صحيّ ونظامٍ للحماية الصحيّة؛ إقامة البنى التحتيّة الضرورية لتيسير الحياة والدورة الاقتصاديّة؛ إنهاء الفوارق الفاحشة بين المدن والأرياف وتحقيق إنماءٍ متوازن للمناطق كافّة؛ وقف هدر موارد الطبيعة، ووقف تدمير البيئة؛ توفير فرص العمل للقوى العاملة وللكفاءات العلميّة …إلخ. وغنيّ عن البيان أنّ ذلك يمتنع من دون برنامجٍ تنمويّ مدروس تقوده الدولة.
* ثالثاً: تُطْلِعنا تجارب بلدان العالم الثالث التنمويّة الناجحة (الصين، الهند، البرازيل، كوريا الجنوبيّة، جنوب إفريقيا، الأرجنتين …) أن هذه البلدان ولجَت ميادين التنمية، وبالتالي المنافسة النِّدِيّة من القطاعات المنتجة (الزراعة والصناعة)، التي حقّقت فيها معدّلاتِ عالية من التنمية، بينما كان اقتصادها السياحيّ والعقاريّ مكمِّلاً لا أساسيّاً. وهي في تنميتها تلك، اعتمدت مواردها البشريّة والعلميّة الخاصّة، كما استندت إلى برنامجٍ تنمويّ متكامل، فلم تترك للرأسمال أن يبحث لنفسه عن فرص الربح السريع على حساب الحاجيات الوطنيّة.
لا تكون التنمية، إذن، إلاّ بهذا المنظور الوطنيّ المستقل؛ المنظور الذي ينطلق من الحاجات، ويجنّد الإمكانات المتاحة ويطوِّرُها بالتأهيل العلميّ، ويكون للدولة فيه مكان القائد الذي يمثّل قوى المجتمع كافّة

عن admin

شاهد أيضاً

رغيف العيش

محمد سيف الدولة Seif_eldawla@hotmail.com   لم تكن هذه هى المرة الاولى الذي يعبر فيها رئيس …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *