الرئيسية / كتب و دراسات / كتاب معارك عبد الناصر – بقلم : رياض الصيداوي

كتاب معارك عبد الناصر – بقلم : رياض الصيداوي

images53

مركز الوطن العربي
للأبحاث والنشر

معارك عبدالناصر / كتاب سياسي
رياض الصيداوي / باحث وكاتب تونسي
البريد الإلكتروني riadh3@freesurf.ch

الموزع
دار الكنوز الأدبية ص.ب. 11-7226 بيروت- لبنان
هاتف / فاكس 009611739696
الطبعة العربية الأولى، بيروت، 2003.‏
©جميع الحقوق محفوظة لمركز الوطن العربي للأبحاث والنشر بما فيها الترجمة إلى لغات أخرى. لا يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أي جزء منه أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل من الأشكال، دون إذن خطي مسبق من الناشر.

الإهداء

إلى أرواحهم الطاهرة،
الفريق أول محمد فوزي، الذي أمضيت معه ساعات ممتعة ذات صيف من سنة 1991،
الضابط الحر، لطفي واكد، أحد مفجري ثورة يوليو 1952،

وإلى الأحياء الذين مازالوا يواصلون معارك عبدالناصر
بشرف وشجاعة ومبدإ :
ضياء الدين داوود، وزير عبدالناصر ورئيس الحزب العربي الديموقراطي الناصري،
وإلى سامي شرف مدير مكتب عبدالناصر للمعلومات ووزير شؤون الرئاسة،…

إليهم جميعا أهدي هذا الكتاب

المحتوى

المقدمة…

الفصل الأول
ثورة 23 يوليو 1952
مجدي حسين: أمين صندوق الضباط الأحرار ومدير مكتب محمد نجيب ثم مدير مكتب عبدالناصر……………………..ص
· عبدالناصر لن تنجب مصر شخصاً مثله إلا بعد مئات السنين
· دوري ليلة 23 يوليو كان احتلال محطة إذاعة “أبي زعبل”
· محمد نجيب كان يقضي وقته في قراءة رسائل غرامية
· أنا الذي صنعت شخصية محمد نجيب

الفصل الثاني
نكسة 1967 شبيهة بما حدث للعراق سنة 1991
لطفي واكد: عضو تنظيم الضباط الأحرار
· عبدالناصر اختار الضباط الذين لم يخافوا الموت
· عبدالناصر لم يكن منحرفاً لا يساراً ولا يميناً
· المقاومة نبهت بريطانيا بشراستها وانتشارها

الفصل الثالث
معركة عبدالناصر ضد الإخوان المسلمين
سامي شرف: مدير مكتب عبدالناصر للمعلومات ووزير شؤون الرئاسة:

· الإخوان اتهموا عبدالناصر بالعمالة لنوري السعيد
· لم يتآمر أي ضابط حر مع الإخوان
· “التنظيم الطليعي” ليس تنظيم جوسسة
· عيب عبدالناصر الوحيد أنه كان كبير القلب
· اخترقنا “الإخوان المسلمين” في أعلى قيادتهم
· خطط الإخوان لتفجير مصر ونسفها

الفصل الرابع
نكسة 1967 وتفكيك مؤامرة عبدالحكيم عامر
وشمس بدران
سامي شرف: مدير مكتب عبدالناصر للمعلومات ووزير شؤون الرئاسة:

· زوجة أحد الضباط كشفت مؤامرة عبدالحكيم عامر
· كان حزن عبدالناصر شديداً لما تأكد من المؤامرة
· عامر شتم أعضاء مجلس الثورة
· الولاء العسكري والسياسي كان لشخص عبدالناصر

الفصل الخامس
نكسة 1967 والمقاومة السياسية
ضياء الدين داوود: وزير الشؤون الاجتماعية ووزير الدولة لمجلس الوزراء…..
· لم نعش أية لحظة يأس في ظل عبدالناصر
· بعد النكسة ناقشنا كل شيء بصراحة مطلقة
· وصل الإنتاج إلى حده الأقصى أثناء المعركة
· ذهلنا جميعاً أمام خبر وفاة عبدالناصر

الفصل السادس
حرب الاستنزاف وإصرار عبدالناصر على المقاومة
الفريق أول محمد فوزي: قائد القوات المسلحة المصرية (1967 ـ 1971)…..
· هذه قصة الطالب الذي أنقذ دبابات مصر
· قلت لعبدالناصر “تمام يا أفندم هذه 17 وحدة، أنا مش عاوزها”
· يوم 30 يونيو (حزيران) أسقطنا 13 طائرة للعدو
· أكون سعيداً حينما لا تنفذ أوامري بوقف القتال
· أصدرت أوامري لكل من يقتل جنوداً إسرائيليين يُعطى نيشاناً ومكافأة مالية
· هواري بومدين قال لي “كل الجيش الجزائري تحت تصرفك، فقط أريد أن أعرف موعد المعركة”.
· تونس قالت أنا أساعدكم حسب إمكانياتي وقدمت كتيبة عسكرية
· السعودية قالت سندعمكم مادياً وعبدالناصر يريد منها إعلان الجهاد
· “أيوه.. أيوه: الجنود العراقيين صعايدة”

الفصل السابع
عبد الناصر، هيكل، الجماهير،
الوفاة، والانقلاب الساداتي
سامي شرف: مدير مكتب عبدالناصر للمعلومات ووزير شؤون الرئاسة:
· تصلني يوميا عشرة آلاف رسالة باسم عبد الناصر
· لم تعط أجهزة الدولة معلومات خاصة لهيكل
· قواعد الاتحاد الاشتراكي كانت رافضة لترشيح السادات رئيساً للجمهورية
· قبل 20 أبريل 1971، لم نكن نعرف مع من كان هيكل، معنا أم مع السادات
المقدمة
كيف جاءت فكرة الثورة، وكيف تمت وصفّت أعداءها بسرعة قياسية رغم تآمر محمد نجيب والإخوان المسلمين.
وكيف حدثت حرب السويس سنة 1956 والتحمت الجماهير العربية مع عبدالناصر في مشاهد تاريخية لا تنسى..
الضابط الشاب محاصر من كل الجهات، معظم الأسلحة التي يحملها جنوده فاسدة.. ورغم ذلك يحدق في الأفق ويصر بحزم ويردد لن نستسلم والذين قاموا بخداعنا في القاهرة لن نغفر لهم، الثورة ستكون عادلة معهم.
وكان الضابط الشاب قد درس في الأكاديمية العسكرية أن فلسطين هي البوابة التي تحمي مصر من الغزو وتعلم أن احتلال فلسطين يعني أن مصر ستكون لقمة سائغة للأعداء.
النواة الأولى للضباط الأحرار كانت قد تشكلت من بعض الضباط الوطنيين الذين يختلفون في كل شيء، ولكنهم يتفقون في ضرورة تحرير مصر من الاحتلال الإنجليزي ووضع حد لعربدة الملك فاروق.
خالد محي الدين، كان متأثراً بالفكر الاشتراكي العلمي خاصة، يوسف الصديق كذلك.
عبداللطيف البغدادي وكمال الدين حسين كانا قريبين من الإخوان المسلمين.
أنور السادات كان مغامراً ومتهوراً، حيث انضم إلى “الحرس الحديدي” الذي شكله الملك ليصفى به خصومه السياسي وعمل جاسوساً لصالح الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية.
أبرز هؤلاء الضباط على الإطلاق كان ذلك الشاب الصعيدي، الأكثر هدوءاً والأقوى بنية والأقدر على التحليل السياسي والتخطيط العسكري، وكانت كل المؤشرات تقول أنه سيتخذ مسافة موضوعية عن زملائه لأنه ليس مثلهم..
انتصار الثورة
في منتصف صيف 1952 يحسم الموقف.. الملك فاروق في الإسكندرية مع أميراته وعشيقاته يسهر حتى الصبح على طاولات القمار وكل الحكومة انتقلت مع ملكها إلى الإسكندرية.
من بقي في القاهرة؟ الفقراء والذين ليست لديهم القدرة على قضاء أيام الحر في شواطئ أوربا أو الإسكندرية. ومن أيضاً؟ الضباط الذين انحدروا من أسر فقيرة ورفضوا في أعماقهم أن يستمر الذل، ذل القصر وذل الإنكليز.
حسم الموقف، ليلة 23 يوليو 1952، سينتهي زمن فاروق ويأتي زمن الضابط الشاب، لاعب كرة السلة الممتاز.
تحركت قوات يوسف الصديق وخالد محي الدين واحتلت مبنى القيادة العامة ومحطة الإذاعة، وقع أثناءها تبادل بضع طلقات نارية صمتت نهائياً. العملية نجحت. الضابط الشاب هو الذي أدار ونسق كل التحركات. قبل ذلك وفي مكان آخر، الضابط أنور السادات استدعاه التنظيم ليؤدي واجبه في إنجاح الثورة. الرجل أخذ زوجته جيهان التي ستصبح سيدة مصر الأولى فيما بعد، وذهبا إلى السينما وافتعل شجاراً حتى يذهب إلى مركز البوليس ويسجل محضراً في ذلك. حتى إذا ما فشلت الثورة فان المحضر سيشهد على عدم مشاركته فيها، ولكن الثورة نجحت وهنا يتوجه السادات إلى مبنى القيادة ولا يجد له عملاً ليؤديه فيكلفه الضابط الشاب بإذاعة نص بيان الثورة.
أما الضابط الشاب فقد درس الموقف وإمكانيات ردود الفعل من جميع الجوانب وعمل على إبراز وجه آخر للثورة يكون كبيراً في السن وله رتبة عسكرية جيدة ومعروف على الساحة. هذه المواصفات توفرت في اللواء محمد نجيب، لذلك اتصل به في بيته قبل موعد ساعة الصفر، ووجد عنده ضيفاً شاباً يعمل صحفياً في صحيفة “أخبار اليوم” اسمه محمد حسنين هيكل. استغل الضابط الفرصة وتحدث معه حول إمكانية تدخل القوات البريطانية في حالة قيام الجيش المصري بحركة داخل البلاد.. الصحافي أطنب في استبعاد ذلك وقدم حججه في منطق متماسك.. وحدث إعجاب متبادل بين الرجلين.
روجت وكالات الأنباء في العالم أخباراً تفيد بأن الجيش استلم الحكم في مصر وعلى رأسه اللواء محمد نجيب مع مجموعة من الضباط الشبان.
وملأت صورة اللواء صحف ومجلات العالم وانشغل الرجل بمسألة الصحافة والتصريحات وقليلون انتبهوا أن وراء الثورة عقل آخر يتميز بخصال نادرة.
كان جمال عبدالناصر يعمل بسرعة على تصفية النظام القديم، فقد طرد الملك فاروق من تراب مصر وعمل على أحداث قوانين الإصلاح الزراعي وإخراج الإنكليز من البلد.
أزمة مارس
اعتقد اللواء محمد نجيب في لحظة ما أنه القائد الحقيقي للثورة وأن الضباط الأحرار مجرد تابعين لقيادته وحاول التحالف مع الإخوان المسلمين إلا أن الباكباشي جمال عبدالناصر وضع حداً لطموحات اللواء غير المشروعة وبرز للعلن وعرف العالم القائد الحقيقي لثورة 23 يوليو 1952.
بدأ عبدالناصر صراعه بعنف ضد التواجد الإنكليزي في مصر ووقع اتفاقية الجلاء سنة 1954. وفي نفس السنة وبينما هو يخطب في الجماهير انطلقت تسع رصاصات غادرة حاولت أن تغتال قائد الثورة إلا أن عناية الله حمته ونجا بأعجوبة وتمكن في ظروف أمنية صعبة من مواصلة خطابه مستعيناً بصوته القوي الذي هدأ من روع الجماهير فصارت تهتف “الله معك يا جمال” “سر على بركة الله يا جمال”. وبعد التحقيق تأكد أن “الإخوان المسلمين” وراء عملية محاولة الاغتيال حيث كلف أحد عناصر الأخوان محمود عبداللطيف بوضع حد لحياة الزعيم الشاب.
وبدأ الزعيم مرحلة جديدة في تصفية الإقطاع والباشوات ورأس المال المستغل وكان يقول “إزاي واحد يملك 30 مليون جنيه بالحلال، هل يمكن أن يملك إنسان هذا المبلغ بالحلال.. موش ممكن طبعاً..”
حرب السويس
أرادت القوى الإمبريالية أن تؤدب مصر العربية وزعيمها الشاب، فامتنعت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا عن المشاركة في بناء السد العالي فرد الزعيم الفعل وأمم قناة السويس. فجن جنون القوى الاستعمارية القديمة وأرسلت قواتها إلى القنال لتساعد القوات الصهيونية في معاركها ضد مصر. وهنا وزع الزعيم أكثر من مليون قطعة سلاح على جماهير الشعب، على العمال والفلاحين والطلبة، وخطب في جامع الأزهر قائلاً: إن الموت حق وواجب على كل فرد منا وإذا متنا فيجب أن نموت بشرف..”
وتمكنت مصر من طرد الغزاة وسطع اسم جمال عبدالناصر في سماء الوطن العربي وفي العالم.
وأثناء حرب السويس نزلت الجماهير العربية في الأردن وسوريا في مظاهرات عارمة مؤيدة لعبدالناصر وقام عبد الحميد السراج الدين في سوريا بنسف أنابيب النفط التي تغذي الاستعمار.
وتعمق وعي الثورة القومي وتأكدت من أن أمن الأمة العربية لا يتجزأ.
وخاضت الثورة أعنف معاركها ضد الاستعمار وضد “إسرائيل” وضد الرجعية العربية.. حتى أن شباباً في أمريكا اللاتينية شكل أحزاباً ناصرية، وربطت علاقات جيدة مع حركات التحرر في العالم.. مع فيديل كاسترو، وتشي غيفارا ومع الدول التقدمية، مع ماوتسي تونغ في الصين وجوزيف تيتو في يوغسلافيا ومع الاتحاد السوفيتي لكسر احتكار السلاح.
وفي الوطن العربي تفجرت الثورات العربية على خطى الثورة الأم التي قدمت كل المساعدات اللازمة لحمايتها من الاستعمار والرجعية وانتشرت مبادئ الثورة ممثلة في “ميثاق العمل الوطني” في كل أرجاء الوطن العربي. وانحصر الفكر الإخواني والماركسي في المنطقة، فالدكتور محمد عزة المرشد السابق لتنظيم الإخوان المسلمين الفلسطينيين يقول إننا لم نتمكن من تجنيد الشباب في أي مكان من الأرض العربية لأن عبدالناصر لم يترك لنا شيئاً. ويقول أيضا: “يوم وفاة عبدالناصر شعرت بالارتياح والحزن معاً، الارتياح لأننا تخلصنا من عدو شرس، والحزن لأننا شعرنا بيتم هذه الأمة بعد عبدالناصر. فمهما قيل عن الرجل فهو يبقى أكبر من كل الزعماء والرؤساء وذلك شيء يجب أن يفهمه الإخوان المسلمون”.
كذلك تطور العديد من الماركسيين في تقييمهم لثورة 23 يوليو 1952 وأصبحت في تحاليلهم ثورة وطنية تقدمية قادتها البرجوازية الصغيرة(!)
ماذا بقي من 23 يوليو؟
بل لنقل ماذا اندثر من 23 يوليو. قد يقولون انتهت دولة الثورة.. ولذلك نقول نحن وهل اندثرت مبادئ الثورة. وهل انتهت قيم مثل ومبادئ الحرية والاشتراكية والوحدة.
تحاولون اليوم تشويه الثورة وزعيمها بكتابة المذكرات الواهمة والكتب المزيفة وحملات الصحف.. ومن أين لكم بكل هذه الأموال؟ ومن يمول هذه الحملات؟ وماذا تريدون من 23 يوليو 1952؟
عبداللطيف البغدادي زميل عبدالناصر في الكفاح كتب أيضاً مذكراته ونشرها له السادات في مطابع الأهرام وغيره كثيرون.
أطرف الطرائف ما قام به “الرئيس المؤمن” محمد أنور السادات، فقد كتب في عهد عبدالناصر ما يشبه المذكرات وسماه “قصة الثورة كاملة” وكتاباً آخر بعنوان “هذا عمك جمال يا ولدي” قال فيهما أن القائد الحقيقي لـ 23 يوليو وإنجازاتها هو الرئيس جمال.
وبعد أن وصل إلى السلطة كتب “البحث عن الذات” وقال أنه مفجر الثورة وقائدها!! ولم يذكر شيئاً عن ليلة السينما مع سيدة مصر الأولى سابقاً، جيهان السادات.
*******
هذا الكتاب يحتوي على حوارات أجريتها في صيف سنة 1991 في القاهرة مع كل من الفريق أول محمد فوزي: القائد العام للقوات المسلحة المصرية من سنة 1967 إلى سنة 1971، وهو الرجل الذي قاد حرب الاستنزاف ونجح فيها وأعاد الاعتبار للجيش المصري وللجيوش العربية. وكذلك مع الضابط الحر لطفي واكد، وأمين صندوق الضباط الأحرار مجدي حسنين، وضياء الدين داوود وزير الشؤون الاجتماعية وعضو مجلس الأمة والقيادي في الاتحاد الاشتراكي في عهد عبدالناصر، وهو اليوم قائد الحزب العربي الديموقراطي الناصري. وكذلك مع سامي شرف، مدير مكتب عبدالناصر للمعلومات ووزير شؤون الرئاسة.
رياض الصيداوي، جنيف 15 مارس
2003

الفصل الثاني

نكسة1967 شبيهة بما حدث للعراق سنة 1991
لطفي واكد: عضو تنظيم الضباط الأحرار

ـ عبد الناصر اختار الضباط الذين لم يخافوا من الموت.
ـ لم يكن عبد الناصر منحرفا لا يسارا ولا يمينا.
ـ المقاومة نبهت بريطانيا بشراستها وانتشارها.

لطفي واكد، انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار عن طريق جمال عبد الناصر، وشارك ليلة الثورة في تأمين منطقة جنوب القنال، وعمل مديراً لمكتب عبد الناصر منذ عام 1954، وقاد المقاومة السرية ضد الغزو الثلاثي لقناة السويس سنة 1956. وفي سنة 1957، عُين رئيسا لتحرير جريدة الشعب، ومديراً سياسياً لها. وفي سنة 1967، قاد المقاومة في القنال ضد الكيان الصهيوني… اليوم ، يعمل مساعد رئيس حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، ورئيساً لمجلس إدارة صحيفة “الأهالي”….

ـ نبدأ مع بداية انتماء الضابط الحر لطفي واكد إلى تنظيم الضباط الأحرار، فكيف تمت عملية الانضمام؟
*قبل أن أتعرف على تنظيم الضباط، تعرفت أولا على الرئيس جمال عبدالناصر، حيث كان أركان حرب الكتيبة السادسة في عراق المنشية، وأنا كنت حاكما عسكريا لمنطقة الفالوجة وعراق المنشية، ومن خلال بعض الفعاليات تعرفنا على بعض، وبعد دقائق من لقائنا، ارتبطنا ارتباطاً وثيقاً وفهم أحدنا الآخر فهماً كاملاً… ثم بعد ذلك ذهبت إلى الضفة الغربية في بيت لحم والخليل جنوب القدس، وتأخرت في العودة إلى مصر بضعة شهور وعندما عدت، وجدت عبد الناصر قد شرع في تشكيل الضباط الأحرار ومن ثمة وقع الانضمام.
ـ ارتباطك وقع مع عبد الناصر فقط؟
* نعم، ارتباطي كان به شخصياً، ولم اتصل إطلاقاً بأحد سواه.
ـ هل تتذكر في أي سنة تم هذا الارتباط؟
* سنة1951. أو أواخر سنة 1950.
ـ من خلال تجربتك، كيف كان عبد الناصر ينتدب الضباط الأحرار؟
* لقد التقى بي في مكان، وقال لي هل تصلك منشورات باسم الضباط الأحرار، قلت له نعم. فقال ما رأيك فيها فقلت: إذا كان الضباط الأحرار هو أنت، فأنا معك، فرد علي: هذا ما كنت أتوقعه منك.
ـ بعد انضمامك، هل كنت تنشط داخل خلية معينة؟
* أنا كنت أعمل مع عبد الناصر شخصياً، وكان يكلفنا ببعض المهام في مقاومة القوات البريطانية سنة1951, وكان أهم واحد تعرفت عليه عن طريق عبد الناصر وصادقته إلى أن توفاه الله هو المرحوم كمال رفعت. وأول لقاء لنا كان أثناء عملية عسكرية ضد الإنجليز في منطقة التل الكبير. ثم استمرت العلاقة إلى أن قامت الثورة وبعدها أيضا …
ـ ليلة 23 يوليو 1952، ما هو دورك فيها تحديداً ؟
* في هذه الليلة كنت مسئولاًَ على تأمين منطقة جنوب قناة السويس، وتمت السيطرة على القوات المصرية الموجودة هناك، استعداداً لاحتمال تحرك القوات البريطانية نحو القاهرة. وكلفنا هناك بتعطيل أي تحرك معاد. وفي نفس اليوم كان السلاح البحري خال من الضباط الأحرار، وكانت لهم قاعدة بحرية، فأرسلوا إلي وحدثتهم عن الثورة وأهدافها، وانضمت القاعدة البحرية إلى الضباط الأحرار قبل الساعة الثامنة صباحا من يوم 23 يوليو.
وأود أن أضيف أيضاً أنه قبل الثورة بأيام، كُلفت بالاتصال بالضباط الأحرار لمعرفة مدى استعدادهم للثورة.
ـ في تلك الليلة، ألم تتصل بعبد الناصر؟
* كلا لم أتصل به.
ـ ألم تعترضكم صعوبات ؟
* لقد كانت الظروف مهيأة بين الضباط والشعب وجميع الطبقات لإسقاط النظام القديم.
ـ هل كنت تتوقع إمكانية فشل الثورة تلك الليلة؟
* هذا التوقع وارد لكن التفكير فيه لم يكن وارداً أبدا، نحن كنا مصممون على إنجاز الثورة وليحدث ما يحدث.
فمبدأ التفكير في الفشل لم يكن وارداً.
– الثورة نجحت، رغم خصومها الكثيرين، القصر والإنجليز وأحزاب الأقلية، فهل يمكن تحديد بعض الأسباب التي جعلتكم تنجحون في تنفيذها، وإن كان الحظ إحدى هذه الأسباب ؟
* كان الفساد والتبعية يخلقان مناخاً مواتياً للثورة، مما جعل الأغلبية الساحقة من الشعب المصري تنتظر البطل الذي يتقدم لإسقاط النظام.
ـ هل تعتقد أن الحظ كان معكم في تلك الليلة؟
* لا أقول الحظ، وإنما أقول القدر، لقد كان معنا، لأننا جازفنا بأرواحنا ودمائنا بدون أن نطمع في أي شيء.
ـ أنور السادات ذكر في كتاب “البحث عن الذات” أنه قائد تنظيم الضباط الأحرار ومؤسسه، باعتباركم شاهد تاريخ، فإلى أي مدى تعتقدون في صحة هذه الرواية؟
* أنور السادات يلوي عنق الحقيقة، ففي أثناء الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها، نبتت تنظيمات كثيرة، وربما كان السادات مؤسساً لإحدى هذه التنظيمات، ولكن كلها اندثر، أما الذي أسسه جمال عبد الناصر، فهو التنظيم الذي نجح وأنجز الثورة… حتى جمال عبد الناصر نفسه كان في أحد هذه التنظيمات المندثرة، وكذلك خالد محي الدين… كلها فشلت، لكن عبد الناصر استفاد من خبرة التجارب الفاشلة وأسس هذا التنظيم في ظروف أفضل وبكفاءة أحسن في تأمين التنظيم، وكان قد بدأ بتشكيله في ذهنه أثناء حرب فلسطين، وهو في بؤرة المعارك، وكان كل ضابط في الجيش هناك يتميز بخاصية في أدائه، جعلت عبد الناصر يعرف من هو الشجاع ومن هو الجبان، ومن هو الجيد ومن هو الرديء، وكان يستطيع أن يفرز ما يريده من قلب المعركة… ولهذا كان اختياره للضباط الأحرار لا يعتمد على المعلومات وإنما على العلم، بالممارسة والتجربة اليومية، ولهذا انتقى أشخاص لا يخافون من الموت وبالتالي لن يخافوا من الملك، لذلك كان تنظيماً قويا.
ـ بعد نجاح الثورة، شهد الضباط الأحرار مشكلة اختلاف ميولاتهم الإيديولوجية، فمنهم القريب من الإخوان المسلمين، ومنهم القريب من الشيوعيين… والمستقل، فكيف تم الانصهار وبلورة خط موحد؟
* أؤكد أن تشكيل الضباط الأحرار لم يقم على أساس أيديولوجي، وكان يمثل القوى السياسية المعتمدة في مصر، وكان يدخله الإسلامي واليساري والديمقراطي… وهم متفقون على مقاومة الاستعمار البريطاني ومقاومة النظام الحاكم وإسقاطه، بعد ذلك بدأت التيارات المختلفة تذوب، ولكن عبد الناصر كان يملك الكفاءة الأكثر والدور الأعلى في التنظيم، والولاء الأكثر للتنظيم، ولم يكن منحرفاً لا يساراً ولا يميناً، فكان القاسم المشترك بينهم.
ـ الإخوان المسلمون يقولون أن عبد الناصر منهم، والشيوعيون يقولون أنه انتمى إليهم، وكذلك حزب” مصر القناة”. فأين هي الحقيقة من كل هذه الروايات؟
* انتماؤه كان فقط للضباط الأحرار، ولكن كانت له علاقات مع هذه التنظيمات بدون أن يكون عضواً فيها، فقط كانت علاقته متطورة مع “مصر الفتاة” عندما كان تلميذاً.
ـ حرب 1956 ضد العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، كانت أول امتحان صعب لثورة 1952، حيث جاء التحدي قوياً شرساً، فما هو دورك في عمليات المقاومة التي نظمت؟
* قبل الثورة، كنا مجموعة مكلفة من الضباط الأحرار للقيام بعمليات عسكرية ضد الاحتلال. وطبعا كانت تتم في إطار من السرية المطلقة. لأن النظام الحاكم كان ضدنا، وعندما اندلعت الثورة في مصر، أصبحت هذه المجموعة محمية من الدولة الثورية باستعداد كبير للمعارك. واشتبكنا مرات كثيرة مع الإنجليز، وكنا مرتبطين بالقيادة السياسية التي تتفاوض مع الاحتلال من أجل الجلاء عن مصر… وبعد توقيع اتفاقية الجلاء سنة 1954، انتدبني عبد الناصر لأعمل مديراً لمكتبه، حتى تسارعت الأحداث، من تأميم القنال إلى تهديد بالعدوان ثم العدوان، ولم نقدم إلا ما استطعنا في هذه المعركة، ولا نريد المتاجرة بالكلام في هذا الموضوع.
ـ نرجو أن نعرف بعض التفاصيل وهذا حديث للتاريخ، فكيف نظمتم المقاومة وما هو دوركم فيها؟
* نظمنا المقاومة ضاربين بأجهزة الأمن عرض الحائط، فقد كنا نستقبل كل من يريد التطوع من مختلف الاتجاهات، ولهذا، فالشيوعيين مثلا، لما حوكموا سنة 1958، طلبوني للشهادة فذهبت وشهدت لصالحهم لأنهم شاركوا في حرب السويس.
ـ كم قطعة سلاح وزعتموها على المتطوعين؟
* ليلة العدوان، أنا كنت متواجداً في بيروت وكان لدي في مصر مخازن سلاح علنية وأخرى سرية، وكان معي أركان الحرب أمل المرصفي، فاتصل عبد الناصر يسأل عني إن كنت عدت من بيروت أم لا. فلما عرف إنني لم أعد بعد، أمر أركان الحرب بأن يوزع كل قطع السلاح على الأهالي في التل الكبير والإسماعيلية حتى السويس، وأعلمهم أركان الحرب بأنه لا يعرف إلا الأسلحة العلنية أما السرية فلا يدري مكانها، وأمره عبد الناصر بأن يوزع الأسلحة بسرعة وفي ليلة واحدة بدون أن يأخذ إيصالات ولا كشوف… وبعدما انتهت الحرب جمعت هذه القطع.
أما المخازن الأخرى السرية. فكنت قد خصصتها للمقاومة الشعبية والمقاومة السرية. فالأولى لمواجهة الغزو، وأما الثانية فتكمن أثناء الغزو ولا تظهر، وأسلحتها تبقى في مخابئها، وعندما يتقدم العدو نحو القاهرة، تظهر المقاومة السرية وتقوم بواجباتها خلف الخطوط، وطبعاً لم يتقدم العدو، لذلك لم تشترك في القتال رغم تدريبها الجيد وذلك انضباطاً منها للأوامر.
ـ المقاومة، كان عناصرها من الجيش أم من ماذا؟
* لم يكونوا من الجيش وإنما من الشعب، من طلبة ومثقفين وعمال… ومن ضمنهم وزير الصحة الحالي في الحكومة المصرية.
ـ من هو المشرف على المقاومة السرية؟
* أنا كنت المسئول عنها، والرقعة الجغرافية التي كانت تحت إشرافي في المنطقة الشرقية وراء خط كمال رفعت الممتد من الإسماعيلية إلى بور سعيد.
ـ هل نفذتم بعض العمليات العسكرية؟
* طبعاً.
ـ هل يمكن أن تقدم لنا بعض الأمثلة؟
* أرجوك، هذه مسائل غير هامة، فأنا أعتبر أن ما قمنا به من عمليات لا يساوي شيئا أمام فدائية المتطوعين داخل بورسعيد، وما قام به جنود الأمن ضد الطيران… ولكن أحسن عملية هي ما قام بها كمال رفعت عندما أخذ عدد من المتطوعين وذهب إلى منطقة اسمها (بوز القرد)، وحفر خنادق، وقاوم كل دوريات استطلاع العدو في المنطقة.
ـ يمكن أن نقول إذن أن المقاومة نجحت في صد العدوان وإيقاف الغزو، رغم عدم احترافها وبساطة سلاحها؟
* القول بإيقاف الغزو، يعتبر كلاماً مبالغاً فيه، ولكن في تنبيه القوات البريطانية بان المقاومة شجاعة وشرسة ومنتشرة في كل مكان.
ـ المقاومة التي أشرفت عليه، أسلحتها خفيفة طبعا؟
* كل المقاومة، كانت أسلحتها خفيفة، مع وجود بعض الأسلحة المضادة للدبابات…
ـ كنت مديرا لمكتب عبد الناصر، بعد 1956، ما هي المهمات الأخرى التي قمت بها؟
* عملت مديرا لمكتب عبد الناصر حتى أوائل سنة 1957، ثم عينني رئيسا لتحرير جريدة الشعب، والمسئول السياسي عنها.
ـ بالنسبة لأحداث الوحدة المصرية السورية ثم الانفصال، هل كان لك دور فيها؟
* ليس بدور مباشر، فأنا كنت أقدم المناضلين العرب الذين أعرفهم إلى عبد الناصر، مثل الأستاذ ميشيل عفلق.
ـ هل كانت لك علاقة قوية بالأستاذ ميشيل عفلق؟
* نعم، إلى آخر لحظة من حياته، فقد كان صديقاً عزيزاً ورجلاً احترمه، كان منظراً وليس ممارساً، ولم يكن مسئولاً عن التخريب الذي حدث في التنظيمات البعثية… كان مفكرا وفيلسوفا مؤمنا إيمانا قويا بالوحدة العربية.
ـ هل كان لعبد الناصر نفس وجهة نظرك اتجاه ميشيل عفلق؟
* الرئيس عبد الناصر كان يراه في البداية برؤية معينة، وبعدما اختلف مع حزب البعث أصبح يراه برؤية أخرى، فقد أدت أخطاء متبادلة بين الطرفين إلى قطيعة بين ثورة يوليو وحزب البعث.
ـ لقد كتب كثيراً عن نكسة 1967، وربما يصعب اختزال أسباب النكسة. لكن، باعتباركم من الضباط الأحرار الذين عشتم التجربة، فهل يمكن تحديد الأسباب العميقة لنكسة 1967؟
* هي تجربة شبيهة بما حدث للعراق سنة 1991، فمصر اُستدرجت لهذه المعركة، وكانت تعتقد أن لا حرب حقيقية ستقع، وكانت القوة الفاعلة في الجيش مرابطة باليمن، كذلك غياب الديمقراطية في الداخل مثل سبباً في تردي الكثير من الأوضاع، مما جعل النظام غير قادر على النصر، ونشوء مراكز القوى أثر في معنويات الشعب المصري، ومستوى القيادة غير كفئ، فلو كانت جيدة لخففت كثيراً من وقع الهزيمة.. وأنا شاهدت هذا الانهيار بنفسي، ففي يوم 5 يونيو 1967، رغم أني كنت على خلاف شديد مع عبد الناصر، تقدمت متطوعاً للمقاومة، وتكرم فاختارني دونا عن كل الذين كانوا يعملون معه كي أقوم بهذا الدور، وذهبت مع المرحوم كمال رفعت والأستاذ عبد الفتاح أبو الفضل لتكوين مقاومة شعبية في منطقة القنال بمواجهة أي غزو. ومسكت المنطقة من القنطرة حتى الإسماعيلية وبور سعيد، وانضم إلينا بعض الجنود التائهين الذين رفضوا الالتحاق بوحداتهم.
ومن خلال تواجدي هناك، ومقابلتي لآلاف الجنود والضباط العائدين من سيناء، أدركت بنفسي حجم الكارثة.
ـ هل تقدم لنا بعض المشاهد التي عشتها أيام يونيو 1967 وأثرت فيك كثيرا؟
* كانت هناك عربة مدرعة، تركها قائدها، أخذناها، وكنا ننتقل بها من مكان إلى آخر، حتى نوهم العدو أن لدينا خط مدرعات قوي.
وذات ليلة، شاهدت معركة في البر الشرقي، ثم سمعنا صوتا لتدمير الأسلحة، وفي الفجر وجدنا ضابطا صغيرا حديث التخرج من الكلية، سألته إن كان شارك في المعركة، فقال لي، أنا كنت قائد الفصيل الثامن، وضربنا العدو حتى انتهاء ذخيرتنا عندئذ فجرنا أسلحتنا، قلت له: هل تريد شيئا، قال: أريد أن أكل، فأنا لم أذق الطعام منذ ثلاثة أيام. وكانت الدكاكين مغلقة، فأتيت بلجنة فتحت باب أحد الدكاكين بعد كسر قفله، وقلت له خذ ما تشاء، فقط اكتب لي في ورقة ما أخذته… وهذه الحادثة جعلتني أتأثر كثيراً… لقد شاهدت إهانة الجيش المصري واعتبار الجنود أنفسهم ضحايا، كان انهياراً ناتجاً عن سوء الإدارة، وانهيار المعنويات العامة…
ـ هل كنت قريبا إلى الرئيس جمال عبد الناصر في تلك الفترة ؟
* لم أكن قريباً منه في حرب 1967، فقط كلفني بالمقاومة وعند انتهاء مهمتي عدت إلى قريتي ولم أره بعد ذلك. لقد كانت بيننا خصومة شخصية.
ـ هذه الخصومة التي ذكرتها هل يمكن أن نعرف أسبابها؟
* هي خصومة شخصية سببها أنني في أعقاب انفصال سوريا عن مصر قمت ببيان اتهمت فيه النظام المصري بأنه المسئول عن الانفصال وليست القضية تخص تجار دمشق كما أعلن. فلو تطورت سوريا على يد مصر وشعر السوري بأن الوحدة قدمت الكثير لما حدث الانفصال. فنحن المسئولون عن سقوط الوحدة.. واليوم اعتقد أنى اخترت وقتاً غير مناسب لجرحه وهو جريح بطبعه من أثر الانفصال.
ـ اليوم، مذكرات وكتب كثيرة كُتبت حول حقبة عبد الناصر وكلها شهادات ووجهات نظر فيما حدث. ما رأيك فيما يكتب ؟
* أعطني أمثلة من هذه الكتب وأنا أعطى رأيي.
ـ مثال مذكرات عبد اللطيف بغدادي حول حرب السويس؟
* عبد اللطيف بغدادي لا يستخدم الذاكرة ولكنه يسجل الأحداث يوما بيوم وأنا اعتقد فيما يتعلق بالأحداث هو أصدق المصادر أما فيما يتعلق بتلوين الأحداث فكل واحد يلونها حسب وجهة نظره لكن أن يكتب واقعة غير صحيحة فهذا مستحيل.
ـ ومذكرات السادات في كتابه “البحث عن الذات “؟
* هذا الرجل كان مصاباً بلوثة ولما كتب “البحث عن الذات” قمت بالرد عليه في عشر مقالات، عنوانها البحث عن الحقيقة كتبتها ولم أنشرها بعد. وفي يوم 15 سبتمبر 1981 قام بحملة ضد المعارضة ومن ضمنها حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي وفتش بيوتنا، بيتي وبيت الأستاذ خالد محي الدين وبيت المرحوم فؤاد مرسي. وعند التفتيش كان الضابط المكلف بالتفتيش شاب صغير من مباحث أمن الدولة ومعه عميد من البوليس العام غير قادر على التمييز بين ما يأخذه وما يتركه. ما هو وثيقة وما هو غير وثيقة وقد أخذ المقالات التي كتبتها في ردي على السادات والى حد الآن لم أتمكن من كتابتها.
ـ ما رأيك في كتابات احمد حمروش؟
* اقفل المسجل (!!!) أكرر إن أهم ما كتب من حيث الصدق هي مذكرات عبداللطيف بغدادي.
ـ الانقلاب على عبد الناصر وخطه في السبعينات وفقدان الناصريين لمواقعهم بسهولة غريبة مدهشة فهل ما حدث نوع من القانون التاريخي أم ماذا ؟
* المشكلة أن عبد الناصر كان القائد الوحيد ومن معه أعواناً فلم يكونوا شركاء له. وهو جمع بين الزعامة والسلطة، وعندما رحل رحلت معه الزعامة وبقيت السلطة. ولم يوفق الناصريون في الحفاظ على مواقعهم، ولو قام تنظيم ناصري ثوري حقيقي لما تجرأ أنور السادات على الانحراف فهو كان يعرف أن الجميع كان مرتبطا فقط مع عبد الناصر.
ـ سمعت أنك قبل انقلاب مايو 1971 سحبت مسدسك وقلت لشعراوي جمعة وصحبه أنه لابد من تصفية السادات بعد إن اكتشفتم التسجيلات التي تتهمه؟
* لم يحدث مما قلت شيئا، فشعراوي جمعة وزير الداخلية ومحمد فائق وزير الإعلام واحمد كامل مدير المخابرات ومحمد فوزي وزير الحربية ومع ذلك خسروا معركتهم مع السادات.
ـ كيف كانت طبيعة علاقة عبد الناصر بأصدقائه؟
* صحيح أن عبد الناصر لم يكن مسرفاً في عدد أصحابه لكنه كان يعطي للصديق حقه تماماً وكان صديقاً حقيقياً أستشيره حتى في المسائل الشخصية وكان يحب هذا ويحب أيضا الشارع. فأنا أذكر أنني ذهبت إليه إحدى المرات إلى البيت. سألني أين كنت. فقلت له: في السينما، فأضاف هل أكلت سندوتشات فول عند “نجفة” ؟! قلت له: “لا، أنت عاوز فول، أنا ممكن أجيب لك كم سندويش”. فقال: “لا أنا أريد أن أقف في الزحمة مع الناس”، لقد كان مشدوداً دائماً إلى الناس وعظمته تكمن في إيمانه بالبساطة… وفي النهاية هو الزعيم الذي أنجبته مصر والأمة العربية، المتصوف في دفاعه عن كل شبر من الوطن العربي. لذلك شارك في حماية اليمن وهي مساعدة ثورة الجزائر وفلسطين أما في الممارسة فقد وقعت بعض الأخطاء ولكنه رغم ذلك فثورة عبد الناصر ثورة رائدة مصرياً وعربياً وعالمياً.

 

الفصل الثالث

معركة عبدالناصر ضد الإخوان المسلمين
سامي شرف: مدير مكتب عبد الناصر للمعلومات

* عبد الناصر حذر الإخوان المسلمين منذ سنة 1953
* الإخوان اتهموا عبد الناصر بالعمالة لنوري سعيد !!
* لم يتآمر أي ضابط حر مع الإخوان
* التنظيم الطليعي ليس تنظيم جوسسة
* عيب عبد الناصر الوحيد أنه كان كبير القلب
* اخترقنا ” الإخوان المسلمين” في قيادتهم
* خطط الإخوان لنسف مصر

حينما سألت صديقا مصريا، عن إمكانية أن يدلي الأستاذ سامي شرف، مدير مكتب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ووزير شؤون الرئاسة، بحديث يسجل فيه شهادته حول محمد حسنين هيكل، الموضوع الذي أبحث فيه في كتابي، أجاب بأن ذلك شبه مستحيل لأن الرجل لم يتحدث إلى أحد منذ سنة 1971 تاريخ اعتقاله، لكنه قال: الأستاذ عبد الله إمام صديقه، لو تخاطبه قد يتمكن من إقناعه، وفعلت… وجاءني الرد إيجابا، ودخلت بيتا متواضعا في مصر الجديدة، استقبلني فيه الأستاذ سامي شرف بحفاوة وكرم كبيرين، وبعد حديث قصير عن تونس وأخبارها، بدأنا اللقاء، وسجلنا ساعة ونصف عن هيكل، تعرضنا فيها إلى نقاط غامضة، وإلى أسرار لم تذع من قبل، وقبل أن أودعه قال: هل أطلب منك طلبا. أجبت طبعا بكل سرور، قال: أريدك أن تعطيني نسخة من التسجيل، وأنا أفعل ذلك حتى تعود وأحدثك فيما تشاء من معلومات وأسرار لم أتحدث عنها منذ اعتقالي سنة 1971.
وعدت وفتح كاتم أسرار عبد الناصر الباب على مصراعيه لاطلع على تاريخ بلاده وقمنا بأربع جلسات سجلنا فيها تقريبا كل شيء عن عبد الناصر والإخوان المسلمين وعن علاقة الريس (كما كان يلقبه طوال الحديث) بالشيوعيين وبالاتحاد الاشتراكي وعن هزيمة 1967 وصراعه مع صلاح نصر وعبد الحكيم عامر وعن محاولات الحركة العربية الواحدة وعلاقاته بحركات التحرر العربية وعن التعددية السياسية في عهد عبد الناصر ومشروع تعدد الأحزاب الذي لم يتمكن من إنجازه وعن انقلاب السادات في مايو 1971.
وتضمن الحديث أسرارا كثيرة بعضها رفض الأستاذ سامي شرف تسجيلها فكان يطلب مني من حين إلى آخر إيقاف المسجل، خاصة عندما يمس الحديث شخصا في سلوكه وحياته الشخصية…
الأستاذ سامي شرف رجل هادئ، قوي البنية، شديد التواضع، لا يملك بيتا ولا سيارة فارهة، فقط واحدة من نوع نصر 128. يجيب على كل الأسئلة مهما بلغ إحراجها، ويعتز بأنه كان الأقرب إلى قلب جمال عبد الناصر طوال فترة حكمه حتى وفاته…
اشتد اليوم صراع بين بعض الأنظمة العربية والحركات الإسلامية ووصل في بعض الأحيان، مثل حالة الجزائر، إلى مستوى مرعب من حيث بشاعته. هذا الصراع كان قديماً أيضا، ونشأته الأولى بدأت في مصر. وتُعد الحقبة الناصرية أهم حلقات هذا الصراع لأن مميزها الأساسي أن عبد الناصر لم يكن حاكماً معزولاً عن شعبه وإنما شخصية سياسية كاريزماتيه أشعت في مصر وفي كل أنحاء الوطن العربي.
التقيت في القاهرة سامي شرف، مدير مكتب عبد الناصر للمعلومات ووزير شؤون الرئاسة وحاورته في هذا الموضوع الساخن.

ـ ما هي طبيعة العلاقة بين جمعية الإخوان المسلمين وثورة 23 يوليو 1952 في بدايتها الأولى؟
* تمت مقابلتان في يناير 1954 بين حسن عشماوي ومستر “كروزول” الوزير المفوض للسفارة البريطانية. وقد تمتا في يوم واحد. الأولى على الساعة السابعة صباحا، والثانية من الرابعة مساء حتى الحادية عشر مساء. هذه المقابلات، وعددها سبع، تمت في الفترة من نهاية مارس 1953 إلى يناير 1954. أما المواضيع التي تثار فيها، فكانت حول موقف الإخوان المسلمين من الثورة ثم القضية المصرية وكان رأي الإخوان المسلمين أن عودة الإنجليز إلى القاعدة في القنال، تكون بناء على رأي لجنة مشتركة مصرية- بريطانية، وأن الذي يقرر خطر الحرب هو الأمم المتحدة وهو الرأي الذي تمسك به الإنجليز أثناء المفاوضات ولم تقبل به ثورة يوليو الديمقراطية.
نقطة أخرى حول طبيعة العلاقة بين الثورة والإخوان المسلمين هو التنظيم في الجيش والشرطة. فقبل 1953 كانت هناك نواة من الضباط “الإخوان” يترأسهم الصاغ صلاح شادي ـ وهو أحد ضباط الشرطة السابقين ـ ويشاركه في المسؤولية، كل من عبد المنعم عبد الرؤوف وعبد المكارم عبد الحسين وعلى رأسهم جميعا ما يمكن تسميته بالأب الروحي لهذه التنظيمات العسكرية، الصاغ محمود لبيب، وهو أحد ضباط الرعيل الأول.
وألاحظ أن نشاط الإخوان في الجيش والشرطة زاد منذ سنة 1953 متوازياً مع تنفيذ أسلوب جمع الجيش والشرطة في وقت واحد. أما ضباط الصف فكانوا في تنظيم مستقل وكانت تبث فيهم روح الكراهية للضباط الكبار والإيحاء بأنهم أحق بقيادة الجيش منهم والحقيقة أن المؤسسة العسكرية تكون ناجحة أو فاشلة في مدى تماسك هرمها من القمة إلى القاعدة، وإذا وقع خلل فإن بناء العسكري ينهار تماماً..
وقد حذرهم الرئيس جمال عبد الناصر منذ 1953، وخاصة حسن عشماوي. قال له نحن نعلم بطبيعة نشاطكم في القوات المسلحة والشرطة، ونحذركم من مواصلة ذلك فوعد حسن عشماوي بإبلاغ المرشد العام بعد أن أدعى أنه لا يعلم شيئا. ولم يرد أبدا على تحذير الرئيس.
نقطة أخرى حول علاقة الثورة بهم تتمثل في نشاطات الطلاب، فقد مارسوا نفس الشيء في الاتصال بالجامعة، ولكن بشكل أوسع وبأقل حذر واستغلوها بكثافة حتى انفجار أحداث يناير 1954 حيث وقعت صدامات بالعصي، واحتكاكات متتالية… مما ترتب عنه اعتقال حوالي 500 عنصر من الإخوان المسلمين ولم يدم اعتقالهم طويلا فقد أفرج عنهم بعد حوالي شهر ونصف.
وكانت مسؤولية العمل الطلابي يتولاها اثنان: حسن نوح وعبد الحكيم… ثم أصدروا منشورات يتهمون فيها الرئيس بأنه يقوم بوساطة بين الدول العربية والاستعمار لحساب هذا الأخير والغريب أكثر أنهم اتهموه بأنه يعمل لحساب نوري السعيد (رئيس الحكومة العراقية) وزاهدي (رئيس الحكومة الإيرانية) وطالبوا بالتخلص من عبد الناصر ونوري السعيد وزاهدي… والكل يعلم، العدو والصديق، موقف عبد الناصر من نوري السعيد قبل حلف بغداد وأثناءه وبعده.. ثم هاجموا الاتفاقية التي جرت بين الثورة والإنجليز وتصادف في هذا الوقت أن اختفى حسن الهضيبي خلال شهر سبتمبر بالكامل.
بعد ذلك، جرت محاولة اغتيال الرئيس في ميدان المنشية بالإسكندرية على يد المدعو محمود عبد اللطيف. وهنا استحضر قولة للشيخ أحمد الباقوري وهو من الإخوان المسلمين : ” إن الزعم بأن إطلاق النار على عبد الناصر في ميدان المنشية هو حادثة مدبرة لا يقول به إلا أحد رجلين إما أن يكون هو نفسه شريكا في تدبير الاعتداء أو أن يكون من الذين يحرصون على أن يقذفوا الغيب من مكان بعيد”.
فالذي يعرفه الناس عن الإخوان المسلمين أنهم لا يدعون فاتكاً بهم أو ناصباً نفسه لمعاداتهم حتى يأخذوا بثأرهم منه وعلى هذا الطريق ساروا…
ـ هل يمكن الحديث عن وجود متعاطفين من الضباط الأحرار في قيادة مجلس الثورة مع الإخوان المسلمين وقدموا لهم بعض المساعدات؟
* بصفة عامة يعتبر أعضاء قيادة مجلس الثورة جميعا وطنيين وإذا كان هناك اتجاه أو ميل أو تأثر بنزعة دينية فكلنا نمتلك هذه النزعة الدينية الإسلامية والدليل على هذا فإن عبد الناصر لما سُئل في بداية الثورة من هو مثلك الأعلى قال محمد عليه الصلاة والسلام.. فالمحاولات التي تبذل للإيحاء بأن قيادة الثورة فيها من هو مرتبط ببعض التنظيمات السياسية المحددة ـ فيما عدا الشيوعيون – هي محاولات خاطئة.. فالخط العام كان متفقا عليه فأنا أستطيع أن أذهب بعيداً لأقول أنه كان هناك بروتوكول ودستور غير مكتوب بين الضباط الأحرار يؤكد أن من يتخلى فيهم عن موقعه عليه أن لا يتآمر على الباقين أو على الثورة. وقد نفذ والتزم الجميع به معنويا ، بدون وجود أي إلزام مادي. لقد حدثت اختلافات ولكن لم تصل أبدا إلى حد المؤامرات.
وعلى سبيل المثال، أعضاء مجلس قيادة الثورة في سنة 1956 قاموا بتنظيم الدفاع على قناة السويس، وفي سنة 1967 كانوا يداً واحدة في الدفاع عن البلد وضد التآمر عليه.. فهم وطنيون… ولا يختلفون إلا في “التكتيك”.
ـ سنة 1965، علم أحد ضباط الأحرار بالمؤامرة ضد عبد الناصر ولم يتحرك لإعلامه وإبلاغه؟
* مقاطعاً: من هو على وجه التحديد؟
ـ أجبت: كمال الدين حسين (أحد ضباط الأحرار)
* هذه الواقعة تحتاج إلى التأكيد وبحث أعمق. مبدئيا. أنا لا أشاركك هذا الرأي، فحسب علمي أستطيع أن أنفي أن أي عنصر من الثورة كان يتآمر أو يعلم بمؤامرة والتزم الصمت.
ـ كيف تصارعتم مع فكر الإخوان المسلمين؟
* إن جميع الذين كتبوا في هذا الموضوع من مفكرين ومثقفين وسياسيين أجمعوا على أن فكر الإخوان المسلمين في معالجة قضايا المجتمع والمسائل الدنيوية فكر غامض.
ولقد عرفنا، أنهم يستخدمون الغموض لأنه يساعدهم على الانتشار فعندما يناقشهم أحد يلتجئون إلى الغموض حتى لا يمسك عليهم أية حجة. وهذا الأسلوب مخطط له واتبعوه إلى أيامنا هذه.
وتجد هذه الأفكار رواجاً في الأوساط غير المتعلمة الشبابية.
وفي هذا الموضع استذكر خطاباً للرئيس جمال عبد الناصر بعد مؤامرة 1965 يقول فيه هل حاكمناهم افتراءاً أم لأنهم كان لديهم جيش مسلح سيستعد للانقضاض على هذا الشعب، ألم يحدث هذا في سنة 1954 وهل بدأنا نحن بالعدوان، بل هل تركناهم في السجون؟ ألم يفرج على أكثرهم قبل أن تنتهي مدة العقوبة وخرجوا من السجن وأكثرهم موظفين ففصلوا وقمنا بإنجاز قانون جديد خاص لكي يعودوا لعملهم: فأنا لا أريد أن أتخلص من أي شخص في هذا البلد، إنني أريد أن أجمع كل أبنائه.
ـ كيف تم اكتشاف مؤامرة “الإخوان المسلمون” سنة 1965، هل كان ذلك عن طريق المباحث، أم المخابرات أم الاتحاد الاشتراكي؟
* إن اكتشافهم كان سياسياً، أي من خلال الاتحاد الاشتراكي وتنظيمه الطليعي، فقد رصد نشاطهم في محافظة “الدقهلية” وأول بلاغ تم عن طريق التنظيم الطليعي، وهو لم يكن قط عن طريق المخابرات.
فليس صحيحاً أن هذا التنظيم تم تشكيله ليتجسس الابن على أبيه والأخ على أخيه.. إنه ليس جهاز جوسسة، ولماذا يتم ذلك والجميع مصريون، وأتحدى من كان يقول بأن التنظيم الطليعي كلفه بالقيام بتقرير ما ضد أخيه أو قريبه… فقط المسألة وطنية وعقائدية، فواجب على أي منتم إلى تنظيم معين أن يحمي تنظيمه حين يلاحظ من يترصده ويتربص به وتذهب المعلومات إلى الأجهزة المختصة.
لقد اكتشف أن اجتماعات واتصالات مريبة يقوم بها الإخوان المسلمين في البلد، منها جمع تبرعات مالية…
وفي تلك الفترة كنت مديراً لمكتب الرئيس للمعلومات، وعندما أخبرني التنظيم الطليعي بما يحدث، قمت بإبلاغه إلى عبد الناصر.
ـ كيف كان رد فعل الرئيس عندما أبلغته؟
* في الحقيقة، لقد أعرب عن اندهاشه، وقال: الناس دول، أكرمهم النظام، وخرجوا من السجون وعادوا إلى وظائفهم، وأخذوا مرتباتهم، ولم يحرموا من أي شيء… فكان حزيناً ومتألماً، وقال فلنتابع هذا الموضوع.
وأقول لك، أن عبد الناصر لا ينسى لإنسان موقف ما، في حدث ما، في يوم ما. ويبرر للإنسان المخطئ.. أنه قام ـ مثلاً ـ ذات يوم بعمل إيجابي لصالح الثورة. وذات يوم جاءني أبناء عبد الناصر وقالوا لي لقد عاشرت والدنا فما هي عيوبه فقلت لهم: ” كان عنده عيب واحد، لقد كان كبير القلب”… ولقد كانت ثورة يوليو ثورة بيضاء وكان مع الديمقراطية ضد الدكتاتورية، وكان يؤمن بالحوار…
ـ عمليا ما هي الإجراءات المباشرة التي اتخذها الرئيس لمواجهة هذه المؤامرة ؟
* الإجراء الأساسي، هو أن تتولى الأجهزة المعنية مباشرة التحقيق وهي المباحث والأمن الداخلي… ولقد أحس المتآمرون بتحركنا فقاموا بخطوات سريعة لتدارك الأمر وقد كانت مراقبة من التنظيم السياسي أكثر من المباحث العامة.
ـ والمخابرات العامة ألم تشارك في ذلك؟
* طبعا لا، لأن دور المخابرات العامة كما هو معروف محصور في التجسس الخارجي وفي مكافحة التجسس. أما الأمن الداخلي، وهو أمن الدولة فمسئول عما يحدث بالداخل رغم أنه قد يتعاون وينسق مع المخابرات…
لقد تلاحقت الأحداث بسرعة، وكان لابد لنا من مصدر من داخل هذا التنظيم المعادي، أي لابد من اختراقهم.
ولقد تمكن مدير المباحث العامة حسن طلعت وهو سياسي وثوري إلى الوصول إلى مصدر في مستوى رفيع داخل هذا التنظيم، فتم اختراقه في أعماقه.
ـ ما اسم هذا المصدر؟
* أرجوك لأسباب عديدة، لا داعي لإعلان اسمه، وبدأت المعلومات ترد والصورة تتضح، فالتمويل من الداخل والخارج وكذلك التسليح، وثبت لنا وجود مخطط خارجي أجنبي – عربي- مصري مع الإخوان المسلمين، وبدأت الاعتقالات، والتحقيق معهم. وهناك اتضحت الصورة نهائيا.
ـ معروف عن الحركات الإسلامية أنها تضع في مخططاتها إمكانية اختراق أجهزة السلطة ومؤسساتها فهل حصل ذلك لأجهزتكم؟
* لا أستطيع الحديث عن اختراق ولكن وجدت بعض العمليات الصغيرة جدا مثل إسماعيل الغيومي وهو جندي في شرطة رئاسة الجمهورية تم تجنيده وبعد التحقيق معه، اتضح أنه يعمل لاغتيال الرئيس.
ـ ما هي ملامح خطة الإخوان المسلمين في الانقضاض على نظام عبد الناصر؟
* المخطط كان كبيراً ويشتمل على مسلسل تفجيرات تنسف الجسور والطرقات، ومحاولة نسف في طريق عبد الناصر، ومواجهة مجلس الوزراء بحزام من الألغام ومحاولات اغتيال شخصية..
ولابد أن نلاحظ أن تطور الأحداث كان أسرع من مواكبة أمن الدولة، فحدث تكليف من الرئيس للمخابرات العسكرية أن تدخل في التحقيق. هذا ربما يعود إلى حادثة وقعت في جامع الأزهر، كان الرئيس سيصلي صلاة الجمعة في هذا المسجد وقبل ذلك ضُبط شاب حُقق معه فاتضح أنه يستعد لمحاولة اغتيال للرئيس وفي نفس اليوم وقع اجتماع في مكتب المشير عبد الحكيم عامر. وسأل وزير الداخلية عن هذا الموضوع وعوتب، حول كيف لا تكتشف وزارة الداخلية هذه المحاولة.. فالمفروض أن يكون هناك أمن كامل في هذه الظروف واتهم وزير الداخلية مفتش القاهرة وقال عبد الحكيم عامر ليجمد هذا المفتش حتى تُعرف نتيجة التحقيق. فتصدى حسن طلعت مدير المباحث وقال إذا كنتم ستحاسبون مفتش القاهرة فأنا مسئول قبله ولابد من أن يتوجه العقاب لي قبل أي إنسان آخر وكان موقفاً شريفاً ونبيلاً.
أنا، عندما خرجت أخبرت الرئيس بما حصل لأن الأمور تطورت وقد تصبح صراع أجهزة… فقال الرئيس: “لا، كل واحد يباشر عمله، حسن طلعت ومفتش القاهرة…”.
الخلاصة، أن هناك إصرارا لقلب نظام عبد الناصر واغتياله بأي شكل، فالعملية لم تكن نشر الدين ولا قراءة القرآن فقط وإنما الانقضاض على الحكم.
ـ هل كانت كتب أبو الأعلى المودودي والسيد قطب تباع في الأسواق؟
* كتاب السيد قطب “معالم في الطريق” كتبه في السجن وموضوعه الأساسي هو المجتمع الجاهلي وتكفيره، ولا طاعة للحاكم إلا للقرآن. ولما تمت الطبعة الأولى، رفضت نشره لجنة دينية من الأزهر وعرضت المسألة على عبد الناصر فوافق على نشره وتكرر طبعه أكثر من مرة، ومن هنا تساءلنا كيف يمكن لهذا الكتاب أن يروج بهذه السعة وبهذا الكم فبدأت شكوكنا تتجه نحو وجود تنظيم كبير يقف وراء هذا الكتاب.
وبدأنا الكشف عن خطوطه، وعرفنا مخططاتهم المتمثلة في تفجير محطات الكهرباء، والقناطر والجسور واغتيال المسئولين والمثقفين، والفنانين.. هذه كلها معلومات مثبتة في ملفات التحقيق الذي أُجري معهم.
ـ وكيف اكتشفتم خيوط تسليح هذا النظام؟
* كان ذلك في أواخر يوليو 1965، تحديداً في الدقهلية ودمياط، حيث اكتشف تنظيم التسليح الذي كان يأتي من السعودية عن طريق السودان. والتمويل كان عن طريق عمان وألمانيا.
وقد اعترف السيد قطب أنه أعطى أوامره لعلي عشماوي، للسفر إلى السعودية وترتيب مسألة التسليح.. كما اعترف بأن كل شيء قبل أن ينفذه الإخوان كان يُعرض عليه ليعطي أوامره.
وأود أن أبين أن تنظيم الأخوان كان متطوراً ومعقداً من الناحية الأمنية فكانوا يعتمدون مفهوم الرقابة المزدوجة فمثلا يكلف شخص “س” بالعملية، مثلا نسف القناطر الخيرية، ويطلب منه مراقبة واستكشاف المكان وفي نفس الوقت يعين له شخص آخر لمراقبته وهو يستكشف المكان وذلك لمعرفة نتيجته الأولى على أن الشخص “س” قام بمهمته كما يجب، والثانية هل هو مراقب من جهاز خصم أم لا. حتى يسارع في حالة ثبوت كشفه إلى إبلاغ القيادة بأن عنصرهم ” احترق”.
وهو نظام أمني معروف (مراقبة من يراقب، ومراقبة من يراقب) وهي قاعدة المراقبة المزدوجة وهي مشاعة في علوم الأمن والمخابرات.
ـ هل حقد عبد الناصر على الإخوان المسلمين وكرههم لما حاولوا إلحاقه به من أذى؟
* أبداً. إن عبد الناصر لا يحقد ولا يكره أحد وهو أعمق وأكثر إنسانية ممن يحاولون تشويهه، لكنه كان علمياً تجاه هذه الظواهر، فهو يضعها أمام الفحص ويحللها ويبحث عن أسبابها وكيف يمكن معالجتها ثم يحسم الأمر متجنباً إيذاء أكبر عدد ممكن من المذنبين وتحصر الدائرة في أضيق نطاق ممكن فهو مثلا حينما تبلغه معلومات بنشاط معين لمجموعة معينة ضد النظام يقول أجهضوه وهو في المهد حتى لا تتسع العملية ولا يتسع نطاق المورطين وتنحصر العملية في دائرة ضيقة…
ـ شُنت في أيام السادات حملة كبيرة ضد عبد الناصر اتهمته خاصة بتعذيب الإخوان المسلمين في السجون، فهل تم ذلك حقيقة؟
* طبعاً. حدثت بعض التجاوزات وليس هناك تجربة تخلو من أخطاء لكن ما هو حجم هذه التجاوزات، وأنا لا أبررها فمبدئيا التجاوز غير مبرر وغير مقبول. واليوم في أرقى الدول، أمريكا مثلا أو أوربا، قد يضرب شرطي بعصاه أحد المواطنين أو يطلق عليه النار فهو تقدير ميداني من رجل الشرطة الذي قد يخطئ.. نفس الشيء بالنسبة للمحقق وهو في بعض الأحيان يؤذي نفسيا أكثر من إيذاءه بدنيا. لقد حدث ذلك في فياتنام وغيرها حيث كان الأمريكيون يقومون بغسيل مخ أسراهم.
أيضا، وهذا هام جدا، إنك لا تستطيع أن تفرض على عبد الناصر الزعيم ورئيس الدولة أن يترك أعماله وهي كثيرة جدا، ويبقى في سجن طوال النهار ليراقب التحقيق هل أهين فلان أو ضُرب علان… إننا عندئذ نحمله أكثر من طاقته..
ـ لنأخذ مثال شهيراَ وهو كتاب زينب الغزالي الذي تقول فيه أن عبد الناصر وصلاح نصر يجلسان الساعات الطوال، وهما يراقبان تعذيبها؟
* لقد قلت أن عبد الناصر ليس له أي وقت لحضور أي تحقيق حتى النائب العام يرسل أحد مساعديه ولا يجد الوقت لحضوره شخصياً وما ورد من معلومات على لسان زينب الغزالي، وهو تشويه وكذب.. كما أن صلاح نصر لا يمكن أن يشارك في التحقيق لأنه مسئول المخابرات العامة، والتحقيق من صلاحيات أجهزة الأمن الداخلي.
ـ هل تراقبون أنشطة الحركات الإسلامية والإخوائية في بقية بلدان الوطن العربي؟
* آه، طبعا ( ويبتسم في خفة دم ويواصل)، أنا لي وجهة نظر أمنية، فأنا أعتبر أن جميع التيارات الدينية تنبع من منبع واحد، وإن اختلفت الأسماء والتسميات فإن الإخوان المسلمين هي شجرة واحدة تفرعت إلى فروع “فالجهاد” أو “التكفير والهجرة” أو ” الناجون من النار” كلهم من شجرة واحدة.
ـ هل رصدتم أنشطتها في الوطن العربي؟
* كانت في المشرق ، كسوريا والأردن والعراق.
ـ والمغرب العربي؟
* كلا، في هذه المنطقة كانت ضعيفة جدا في الستينات.
ـ لقد قرأت كتاب د. عبد الله أبو عزة “مع الحركة الإسلامية في الدول العربية” وهو قيادي إسلامي فلسطيني يقول فيه، لم نستطع استقطاب الشباب العربي في الخليج وخاصة في البحرين، لأنهم كانوا تحت تأثير سحر عبد الناصر والناصرية. فكيف كان الصراع يتم بين الناصرية والإخوان في هذا المجال؟
* أسباب تفوق الناصرية، أن عبد الناصر كان يخاطب العقل والقلب معا. فمخاطبة القلوب سهلة أما مخاطبة العقول فصعبة. فقط عبد الناصر نجح في مخاطبة العقل العربي ومن هنا بدأت الثقة بينهما. وهو كان يخاطب المواطن العربي، وكل مواطن عربي يشعر أن الخطاب موجه إليه ليحل له مشاكله وقضاياه.
وهذه الجماهير لم تكن عمياء ولا كسيحة ولكنها واعية في اختياراتها واختارت طريق عبد الناصر.
ـ مقر حركة الإخوان المسلمين العالمي كان في ألمانيا؟
* نعم.
ـ هل كنتم تتابعونها أمنيا؟
* لا، متابعتنا لها كانت سياسية وهي ترصد من خلال الأجهزة الرسمية الإعلامية وخاصة المنظمات الجماهيرية كاتحاد الطلاب والعمال والنقابات. الأجهزة تتولى المسألة الرسمية كجوازات السفر والتنقلات بالإضافة إلى أن الأجهزة في الخارج لها صداقات وعلاقات وتتحصل من خلالها على المعلومات. وأريد أن أؤكد أن الأغلبية الساحقة من المنظمات الطلابية في أوربا وأمريكا، كان يقودها الناصريون وليس البعث ولا الإخوان المسلمون. والبعث العراقي رغم أنه منافسنا لكنه لم ينجح في استقطاب الطلاب العرب ولا المحامين ولا العمال.. الخط الذي سيطر هو الخط القومي العربي، ولن أقول الناصري.
ـ هل كنتم متفائلين بإمكانية انتصار الناصرية على الإسلام السياسي جماهيرياً؟
* أقول كل شيء مقتنع به، نتيجة معايشتي للأحداث وتجربتي معها أن مشروع عبد الناصر القومي هو مشروع الماضي ومشروع الحاضر ومشروع المستقبل. بل أن الكثيرين الذين لم يعيشوا في حياة عبد الناصر ولم يعرفوه ولم يروه.. هم مؤمنون بالناصرية أكثر من الذين قد يكونون بقربه. على ماذا يدل هذا؟ إنه يدل على أن الناصرية راسخة وما زالت تجدد نفسها وتعبر عن تطلعات الجماهير.
ـ عندما خرجت من السجن سنة 1981، أكيد أنك لاحظت انتشاراً للحركات الإسلامية في مصر والوطن العربي، فكيف تفسر هذا الانتشار؟
* هذا الانتشار أحدثه النظام، فقد كرر لعبة الإخوان المسلمين مع فاروق في الأربعينات، نفس الشيء أعاده السادات.
أنا ليس لدي معلومات عن كيفية اتخاذ قرار دعمهم لأنني كنت في السجن. ولكن أتساءل كيف اتخذه؟ هل كان بمحض إرادته؟ أم فرض عليه؟
والصورة تمثلت في أن السادات كان يرغب في القضاء على التيار الناصري القومي بمساعدة الإخوان، فحدثت صدامات عنيفة بين الإسلاميين والناصريين.. علما بأنه لم يكن يوجد خلاف بين عبد الناصر والإسلام. ولا يوجد خلاف بين القومية العربية والإسلام. فالقومية العربية هي أحد اللبنات الأساسية في انتشار الإسلام.
ولنعود إلى أصل وجوهر المسألة، فنتساءل هل أن الإسلام مع الإقطاع أم ضده، هل هو مع الاستغلال الرأسمالي أم ضده، هل هو مع التفقير والتجويع أم ضده… الإجابة طبعا ضد، لذلك فأين الخلاف بين ما جاء به عبد الناصر وما جاء به الإسلام ؟
وعبد الناصر لم يكن يتاجر بالدين، فلم يعلم أحد في الإعلام مثلاً أن عبد الناصر حج إلى بيت الله أو أدى عمرة، أو يصلي أو يصوم.. فقط المحيطون به يعرفون أنه كان مسلماً حقيقياً، يصلي، يصوم، وحج أكثر من مرة ويوجد موضوع سأقوله لأول مرة ولا أحد في العالم يعرفه. عبد الناصر قام في شهر فبراير 1969 بتحجيج أحد الأطباء نيابة عنه، وعلى حسابه الخاص. هل هذا يشكك في إسلام عبد الناصر؟ كم هو سخيف ما يقولون من أن عبد الناصر لا يؤمن بالله، وبأنه مرتم في أحضان الشيوعية…

القاهرة، أغسطس 1991

“الفصل الرابع

نكسة 1967 وتفكيك مؤامرة عبدالحكيم عامر وشمس بدران
سامي شرف : مدير مكتب عبد الناصر للمعلومات

* زوجة أحد الضباط هي التي كشفت مؤامرة عبد الحكيم عامر.
* كان حزن عبدالناصر شديداً لما تأكد من المؤامرة.
* عامر شتم أعضاء مجلس الثورة.
* الولاء العسكري والسياسي كان لشخص عبدالناصر

سامي شرف، رجل المعلومات الأول طيلة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والسنة الأولى من حكم أنور السادات لا يتحدث عادة للصحافيين… رغم أن الكل وافق الإدلاء بهذا الحوار الذي بين فيه تسلسل الأحداث منذ نكسة يونيو 1967 حتى انتحار المشير عبد الحكيم عامر… هذه المعلومات خاصة باعتبارها جاءت من رجل أدار الأحداث مباشرة وشارك في صنع أغلبها… أوضح في هذا الحوار كيف حاولت مجموعة من الضباط وعلى رأسهم عبد الحكيم عامر ومدير المخابرات صلاح نصر الاستيلاء على السلطة والانقلاب على عبد الناصر… وتمكنت أجهزة الأمن المصرية من إحباط هذه المؤامرة بمساعدة زوجة أحد ضباط التي راقبت زوجها وأصدقاءه وقررت إبلاغ سامي شرف بكل المعلومات اللازمة.. ومن ثمة تحركت الأجهزة…

ـ نكسة 5 حزيران 1967 هل يمكن أن نحدد أسبابها الموضوعية ؟
* قبل كل شيء هي ليست نكسة، وإنما هزيمة عسكرية، ويجب أن نسمي الأمور بمسمياتها.
وأعتقد أن الأسباب الحقيقية العميقة لهزيمة 1967 هي ضرب التجربة المصرية في التنمية والاستقلال .
ـ هذا خارجياً، ولكن جبهة الداخل ألم تساهم في حدوث الهزيمة؟
* بدون شك أدت إلى الهزيمة، فالعدو الخارجي عادة ما يبحث عن نقطة ضعف في الداخل وكانت تتمثل في قيادة الجيش.
ـ لو تشرح لنا نوعية وطبيعة هذا اللوبي العسكري الذي تسبب في الهزيمة وحاول التآمر على عبد الناصر؟
* باختصار وتركيز شديدين أقول أن هذا اللوبي تشكل لأغراض أمنية وليس لأغراض قتالية. كان المراد منه حماية مصالح لأشخاص معينين في القوات المسلحة.
ـ هل تشكل هذا اللوبي من أجل الصراع ضد عبد الناصر؟
* تطوره التدريجي أدى في النهاية به إلى العمل ضد عبد الناصر فالبداية لا تبين النهاية.
ـ هل عبد الحكيم عامر كان صديقا حميما لعبد الناصر ؟
* لقد كان أكثر من صديق.
ـ عندما كان تآمره على عبد الناصر، هل كان يحدثك الرئيس عن مشاعره إزاء ما فعله؟
* لقد كان شعوره بالمرارة كبيرا جدا. فلم يكن يصدق حتى آخر لحظة أن عبد الحكيم عامر يعد انقلابا ضده.
ـ من هو الذي كشف مؤامرة عبد الحكيم عامر وصلاح نصر ؟
* شخصي الضعيف، وهذه أحد أسباب الكراهية الشديدة والهجوم المستمر على شخصي.
ـ بأي طريقة تمكنت من مواجهة مخابرات عامة قوية جدا ومؤسسات عسكرية ضارية، والانتصار عليها ؟
* والله، عن طريق أشخاص مخلصين، أوفياء، شرفاء كانوا يأتون إلي ويخبرونني بكل شيء، وكانوا يعملون في المخابرات العسكرية وحتى من داخل بيت عبد الحكيم عامر.
ـ هل يمكن أن نقول أن مكتب عبد الناصر للمعلومات، وأنت على رأسه، كان مخترقا لجهاز المخابرات؟
* لا، لا، لم يحدث هذا أبداً وإنما هناك عناصر شريفة كثيرة، فالقلة منحرفة، هؤلاء الشرفاء حينما يحسون بالانحراف يلجئون إلى عبد الناصر عن طريقي أنا تحديداَ.
فكانت الناس تأتي بتلقائية وقلب مفتوح ويقولون ما يريدون لأن لهم الثقة الكاملة، إن ذلك سهل على عبد الناصر.
ـ هل تتذكر، كيف ومتى وصلتك أول المعلومات حول نية عبد الحكيم عامر وجماعته في التآمر عليه؟
* كان ذلك في نهاية شهر يونيو تقريبا بالتحديد في الأسبوع الأخير من هذا الشهر حيث جاءت زوجة أحد الضباط وطلبت مقابلة الرئيس فقابلتها أنا وروت لي أن زوجها قد تغير سلوكه وأصبح يشتم عبد الناصر وينزل ليلاً ولا يعود إلا في الفجر واعتقدت أن المسألة قد تكون انحرافاً فردياً حتى تبعته في يوم من الأيام ووجدته في شقة خاصة، في مكان ما يجتمع مع مجموعة أخرى من الضباط أعطتنا العنوان وراقبنا الشقة ثم تتالت البلاغات واتضحت الصورة.
ـ من قام بهذه العملية ؟
* قامت بها الأجهزة الرسمية.
ـ تقصد مكتب المعلومات العامة ؟
* كلا، قلت الأجهزة الرسمية، فمكتب المعلومات لم يكن في أي يوم من الأيام جهازا للمخابرات. فمكتبنا كان جهة اختصاصها تلقي المعلومات فقط ولم يكن لها واجب التنفيذ. مثلا تأتينا معلومة حول قضية خاصة بالقوات المسلحة فتكلف المخابرات العسكرية بمتابعتها أو تأتينا كمثال آخر قضية تتصل بالتجسس أو بالأمن القومي فتكلف المخابرات العامة بهذه العملية وهي التي تعطي النتيجة، أو أخرى داخلية فتكلف مباحث أمن الدولة بالموضوع وتعطينا نتيجة.
ـ يعني أفهم من ذلك، أن هناك عناصرا من المخابرات العامة راقبت قيادتها أو على الأصح قائدها؟
* الأمر ليس بمراقبة وإنما إخلاص بعض الشرفاء ولم تكن مراقبة وإنما متابعة. فالأولى تعني مراقبة لحظة بلحظة حيثما ذهب أما الثانية فهي من داخل الجهاز.
ـ عندما علم عبد الناصر بتأكد هذه المعلومات هل تتذكر كيف كان رد فعله؟
* كان حزيناً جداً لم يتخيل أن يحدث ما حدث أبداً، وكلما جاءته معلومة جديدة كان يحزن أكثر لأن عبد الحكيم عامر كان صديقاً غالياً عنده أكثر من أشقائه.
ـ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ألم يواجه مباشرة عبد الحكيم عامر؟
* نعم حصل لقاء بل ومواجهة معه في بيت الرئيس حضره أعضاء مجلس الثورة أنور السادات وزكريا محي الدين وحسين الشافعي وكانت شبه محاكمة جعلت عبد الحكيم عامر يفقد أعصابه فشتم بعضهم وتطاول على بعضهم الآخر وهدد بالانتحار، ثم فيما بعد حُددت إقامته، وانتحر.
ـ وماذا عن مدير المخابرات العامة صلاح نصر ؟
* بالنسبة لصلاح نصر لمّا تيقن الرئيس عبد الناصر من معلومات المؤامرة أمر بتحديد إقامته ثم اعتقل بعد أن أثبت اتصاله بمجموعة عبد الحكيم عامر التي حضرت انقلاب عسكري وتم سجنه.
ـ هل كان لهم مخطط واضح لقلب الحكم؟
* بالطبع كان من المفترض أن تتحرك وحدات “صاعقة” من خارج القاهرة بحوالي 30 كلم، بأمر من عبد الحكيم عامر وأن تستولي على إذاعة وعلى محطة البث الرئيسية في الطريق ويعلن البيان رقم 1، ويعتقلون كل من الرئيس عبد الناصر، وعلي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف والقيادات المسئولة الأخرى.
ـ ألا تعتقدون أن هناك جهة أجنبية ساعدت على الدفع بعامر ومجموعته نحو إحداث انقلاب ؟
* لم يثبت ذلك.
ـ ألم تساعدكم أنت بدوركم أجهزة أخرى على كشف هذه المؤامرة، السوفيت مثلا؟
* أبداً، لم يحدث ذلك ونحن لا نقبله أيضاً.
ـ بالتأكيد، تركت هذه المؤامرة شعوراً بالألم عندكم جميعا؟
* طبعاَ. ألم شديد ولا يوصف..
ـ وأثبتت أن ولاء القيادات السياسية والعسكرية لجمال عبد الناصر شخصيا وليس لأحد غيره ؟
* الأغلبية، وخاصة القاعدة كانت سليمة مائة بالمائة بل على العكس جاءنا بعض الضباط القياديين بعد كشف المؤامرة وقالوا لنا لماذا لا تتصلوا بنا حتى نكون قد ضربناهم نحن، وأسماءهم معروفة ومنهم أحياء يرزقون ومنهم من هو في الحكم اليوم وفي مستوى عال جداَ.
ـ هل تعتقد أنها كانت أكبر مؤامرة توجه إلى الرئيس عبد الناصر ؟
* طبعاً، حتى من الناحية المعنوية أكثر من مؤامرة الإخوان المسلمين، والشيوعيين.
ـ بعد انتحار المشير عبد الحكيم عامر كيف كان رد فعل الرئيس؟
* كان شديد الحزن…
ـ تعويض المشير، كان بمن؟
* بأمين هويدي، ولم يستمر طويلا حيث أراد وزير الحربية أن يكون محترفا فاختار الفريق أول محمد فوزي، واختاره ككفاءة عسكرية ومعلم الأجيال من العسكريين.
ـ والمخابرات العامة، هل قام الرئيس عبد الناصر بإصلاحها؟
* طبعاً، عن طريق حلمي سعيد كمشرف، ثم أمين هويدي، ثم حافظ إسماعيل، ثم أحمد كامل.
ـ المخابرات المصرية في عهد السادات، شوهت صورتها كثيرا؟
* هي صورة مشوهة غير حقيقية بالمرة… فالذي صُرف من أجل تشويه صورة عبد الناصر حتى اليوم يعد بالمليارات فالرجل مات وذاب في التراب وبقيت آثاره كاملة وستظل آثاره كاملة إلى يوم الدين ولو كره الكارهون.
القاهرة، أغسطس 1991

الفصل الخامس

نكسة 1967 والمقاومة السياسية

ضياء الدين داوود: وزير الدولة لمجلس الوزراء
· لم نعش أية لحظة يأس في ظل عبدالناصر
· بعد النكسة ناقشنا كل شيء بصراحة مطلقة
· وصل الإنتاج إلى حده الأقصى أثناء المعركة
· ذهلنا جميعاً أمام خبر وفاة عبدالناصر

ضياء الدين داود وزير الشؤون الاجتماعية، ووزير الدولة لمجلس الأمة وعضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي في عهد الرئيس جمال عبد الناصر. اليوم، يعمل عضوا بمجلس الشعب، ورئيسا للحزب العربي الديمقراطي الناصري.
تناول الحوار معه في جزء منه معركة ترميم القوات المسلحة والمجتمع المصري، بقيادة الاتحاد الاشتراكي، وأيضاَ الإنجازات الاقتصادية التي حصلت، رغم نكسة 1967، ووفاة عبدالناصر وترشيح السادات للرئاسة…

ـ كيف عرفت بخبر نكسة 5 يونيو 1967؟
* في ذلك الحين كنت عضواً في مجلس الأمة، وأمينا للاتحاد الاشتراكي بمحافظة دمياط، المحافظة الساحلية المجاورة لبور سعيد، فهي أقرب المناطق إلى ميادين القتال.
وكان تأثرنا سريعاً وقوياً، أكثر من أي منطقة أخرى، فنحن أول من علمنا بانسحاب الجيش المصري من سيناء، بدون نظام، وإنما فوضى محزنة، وفي الوقت نفسه تحملنا مسؤولية الدفاع عن السواحل في هذه المنطقة واستقبال المهاجرين، وكان لنا متطوعون وصلوا حتى “القنطرة”، وبقدر ما كان خبر النكسة قد هزنا في أعماق وجداننا، بقدر ما قبلنا التعامل مع الواقع الجديد بشكل حماسي وإيجابي سريع. فشاركنا في العمليات الفدائية التي قامت في بور سعيد وبور فؤاد والملاحة والمنطقة كلها… فلم نجد وقتا للحزن والأسى.
كذلك بعد خطاب التنحي الذي ألقاه الرئيس جمال عبد الناصر استفدنا من حديثه في ضرورة الاستعداد للمواجهة من جديد، فبدأت عملية إعادة بناء الجيش وتسلحه حتى يكون جاهزا للقتال من جديد، وتولى الجهاز السياسي الشعبي مسؤولية كبيرة في تعبئة البلد للحرب خاصة في منطقتنا المواجهة لبور سعيد.
وأنا لا أستطيع أن أخفي انه قد حدث إحباط شديد جدا لنا، لكن خطاب الرئيس وبعد انتشار فكرة أن الهزيمة واردة، عادت معنوياتنا مرتفعة.. ولكن في النهاية الهزيمة شيء والاستسلام لها شيء ثان.. وحقيقة لم نعش أي لحظة يأس في ظل حياة الرئيس جمال عبد الناصر.. لذلك، كانت معركة رأس العش أو معركة إغراق المدمرة “إيلات” كل هذه المعارك أنعشت المعنويات القتالية لدينا إضافة إلى تغيير الروح القتالية عند المقاتل، وإعادة التسليح، كل ذلك أعطى نتيجة قوية في ضرورة التصميم على المعركة والانتصار، بل وزدنا برفع شعار مركزي وهو “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، لإسكات بعض الأصوات المتخاذلة التي كان لها نفس الموقف سنة 1956، وترى بأن لا قدرة لنا في مواجهة هذه القوة العالمية الضخمة وبالتالي يجب أن نستسلم، ولما قال عبد الناصر “إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة” كان لكلامه هذا صدى كبيرا بين الجماهير.
وفي ظل هذه الظروف، أرجو أن ألاحظ، أن الحريات اتسعت وأن المناقشة الحرة أصبحت ممارسة يومية.
ـ ظروف ما بعد النكسة، كيف انعكست على الاتحاد الاشتراكي؟
* لقد أعيد انتخاب الاتحاد الاشتراكي من القاعدة إلى القمة إلى اللجنة التنفيذية العليا، لقد بلغ نشاطه أقصى مداه، فبث الحماس والإصرار على المعركة في أوساط الجماهير، ودعم التحام الشعب بقواته المسلحة.
ـ كيف كانت طبيعة علاقتك بجمال عبد الناصر في تلك الظروف؟
* العلاقة بيننا نشأت في ظل هذه الظروف، فقد توليت وزارة الشؤون الاجتماعية سنة 1968، وبدأ عملي واتصالي المباشر بالرئيس باعتبار موقعي الأول وموقعي كعضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي.
وأشير هنا إلى الذين يتحدثون عن الديمقراطية، أقول إن جمال عبد الناصر كان يجتمع مع أعضاء اللجنة التنفيذية العليا بصفة مستمرة، وكان يحدث ذلك كل أسبوعين، وكنا نناقش كل المسائل مناقشة صريحة وواضحة، ويمكن الاستشهاد بمحاضر الجلسات، حيث نوقشت كل القضايا بمنتهى الحرية، وبمنتهى الصراحة التي قد نفتقدها حتى في النظام التعددي الحزبي.
ـ في تلك الفترة الحرجة من تاريخ مصر، يبدو أن الرئيس جمال عبد الناصر كان منغمسا في الاستعداد للمعركة، فهل كان يجد الوقت اللازم للاهتمام بالمسائل الاجتماعية وحل مشاكلها؟
* حقيقة، من الأشياء التي يجب التأكيد عليها، هي أن جمال عبد الناصر يتميز بالنظرة الشمولية، بمعنى أنه كان دائما يحذر من تجزئة المشاكل، لذلك لم يكن يفصل بين العمل العربي والعمل الداخلي، والعمل العسكري والعمل المدني فهو لم يغفل أبداً الجانب الاجتماعي والتغيرات التي تحدث. ففي ظل هذه المعركة توصلنا إلى معدل إنتاج أقصى، فقد اكتمل بناء السد العالي، واُستكمل بناء مصنع الصلب والحديد، لقد كانت الجبهة واحدة ومتماسكة. كذلك انشغاله بالقضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية لم يكن يصرفه عن اهتمامه بالمعركة، فهو لم يرجح جانباً على جانب آخر.
وأؤكد أن مستوى المعيشة لم يتغير، وإنما بقي على حاله وربما تحسن، رغم ظروف الحرب التي كنا نمر بها من إنفاق كبير على القوات المسلحة ومساعدة للدول العربية.
ـ وفاة الزعيم عبد الناصر، شكلت منعرجاً تاريخياً في حياة الشعب المصري والشعب العربي، فكيف تلقيتم نبأ الوفاة؟
* لقد كنا قبل الوفاة، في لقاءات مستمرة مع الرئيس جمال عبد الناصر، وفي اجتماعات اللقاءات العربية، وأصابنا جميعا تعب كبير، فاتفقنا على عطلة صغيرة بيومين أو ثلاثة أيام، وأنا شخصيا كنت في لقاء مع أعضاء اتحاد الطلبة في جامعة القاهرة وأبلغت، حوالي الساعة السابعة مساء، بضرورة الاتجاه إلى الرئاسة. دون أن أعرف السبب، ثم ألحوا في ضرورة مجيئي بسرعة مرة ثانية، فتوجهت إلى قصر القبة، ففوجئت بهذا الخبر المذهل، ثم وجدت اجتماعاً لأعضاء مجلس الوزراء وأعضاء اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، يبحثون في ماذا بعد عبد الناصر؟
ـ لو تحدد لنا الطريقة التي رشحتم بها أنور السادات رئيسا للجمهورية؟
* لقد كان هناك اتجاه عام يتحكم في الجميع، وهو أن جمال عبد الناصر توفي، في المرحلة الأخيرة من استعدادنا للحرب، حيث كان الجيش مستعدا للقتال، وكان الرئيس الراحل زار الجبهات القتالية واختبر مدى الاستعداد، وكنا نعلم جميعا أن المعركة قادمة، فعملنا على تمهيد السبيل لها، بتجنب أي شيء يعرقل حدوثها، وكنا حريصين على التأكيد للعالم على وحدة الجبهة الداخلية، واختيار السادات رئيسا للجمهورية، هو استمرار لاختيار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وكان هناك البعض قد تحفظ على السادات، لكن لم يتخيل أحد أن يصل إلى ما وصل إليه في الانقضاض على عبد الناصر ورجاله في الحكم.
ـ بين وفاة عبد الناصر، وانقلاب أيار (مايو)1971 وصلت إلى رجال عبد الناصر تسجيلات صوتية لأنور السادات تبين مدى علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، ومدى استعداده للانقلاب على خط عبد الناصر فلماذا لم يتحركوا بسرعة كبيرة تحسم الموقف؟
* أيضاً، كان هناك خطاً استراتيجي في أذهاننا، وهو أننا مقبلون على معركة، وبالتالي لا يجوز لنا أن نعرقلها بأي مشكل مهما كان، وكنا نعتقد أننا سنهتم بالخلافات والأوضاع الداخلية بعد نهاية المعركة، لقد أخطأنا لأننا أخفينا حقيقة الصراع وموضوعيته، كذلك لم نشرك معنا القواعد السياسية في هذا الصراع حتى تتبين حقيقة مواقف جميع الأطراف.
ثم إن السادات حتى شهر شباط “فبراير” 1971 لم يتغير وإنما ظل يردد ما نردده، ويوافق على ما نريده، وبعد هذا الشهر بدأ يتغير، وتمكن من تمتين علاقاته مع بعض قيادات القوات المسلحة مثل محمد أحمد صادق وخلافه.. أما الفريق أول محمد فوزي، فلقد كان رجلا مهتماً أساساً بالناحية العسكرية التقنية فلم يستطع اكتشاف عمق الاتصال بالقوات المسلحة، وهو ما لم يتضح إلا ليلة 13 أيار (مايو)، حين كشف الفريق صادق عن وجهه. بينما كان يقول لنا عكس ما يضمره.
ـ يقول البعض أن الرئيس السادات انتصر على مجموعة أيار (مايو)، باعتبارهم كانوا ممزقين ومشتتين فيما بينهم، فسهل عليه ضربهم؟
* لا أستطيع القول كلية بهذا الرأي، فقد أقول أننا لم نكن مجموعة واحدة في 15 مايو أو قبل هذا التاريخ، أي أننا لم نكن منظمين، ولكن بالتأكيد كنا متفقين على الأهداف السياسية ومنطلقاتنا الفكرية الناصرية، والدليل على ذلك أن السادات جمعهم جميعاً في السجن لأنهم كانوا وحدة واحدة من الأهداف.
واكتشفنا فيما بعد أن السادات، كان يخطط للانقلاب منذ توليه الحكم، في حين كنا نحن نعمل من أجل الالتزام بالمؤسسات حتى تندلع المعركة وتحقق غايتها في التحرير. كنا نرى أن أفراد القوات المسلحة المتخندقين في القناة منذ سنة 1967 بعيدا عن عائلاتهم، قد ملوا الانتظار وسيدفعون بنا جميعا لإنجاز المعركة في أسرع وقت، خاصة أنه كان معلوما لدى القوات المسلحة أن خطط القتال وُضعت.
ويجب أن نعرف أن سلطة الرئيس في مصر سلطة كبيرة جدا وطاغية ولها قدرة تأثير كبيرة جداً على المؤسسات، ومن يمسك بها يمسك تقريباً بمصير البلد.
ـ لكن لماذا قمتم بتقديم استقالة جماعية وتركتم الساحة فارغة للسادات؟
* اليوم، في اعتقادي أن قرار الاستقالة الجماعية، كان موقفاً عاطفياً لم يحسب حساباً جيداً في ذلك الحين، أريد به أن لا نعطي السادات فرصة عزلنا واحداً بعد الآخر بسهولة، فقلنا أن هذه الاستقالة بهذا الحجم قد توضح للناس أن المجموعة الملتزمة بمبادئ وفكر عبد الناصر قد انقلب عليها السادات فلا يحظى بالتأييد الشعبي.
ـ لكن البعض يقول أن استقالتكم هذه، كانت تهدف إلى إحداث فراغ دستوري، يهدف به محاصرة السادات، وإفراغ الدولة ومن ثمة تنقضون على الحكم؟
* أريد أن أقول أن هذا التفكير، لم يكن تفكيرنا، وأود أن أشير انه لم تحدث في أية دولة استقالة أو استقالات، تهز نظام الحكم. أيضاً لماذا نستقيل، والجيش كان في أيدينا وكذلك جهاز المخابرات وكل أجهزة الإعلام، فمثلا كان بإمكان محمد فائق بدل أن يذيع استقالتنا يذيع استقالة أنور السادات، كذلك مسئولو الاتحاد الاشتراكي. فالمعنى الوحيد من استقالتنا هو أن تنزل طبيعة الخلافات إلى الناس والقواعد، فنحن لو كنا متشبثين بالسلطة لما استقلنا.
وكان محمد حسنين هيكل ذكياً حينما واجه المعنى الذي حاولنا أن نبرزه، عندما ركز في انحيازه للسادات وحملته علينا على مسألة الديمقراطية. وكنت دائما من أنصار فكرة أن نشرك القواعد في الخلاف مع السادات ولو فعلنا ذلك لكانت المسألة ربما تغيرت.
ـ بعد عشرين سنة من أحداث أيار (مايو) 1971، ألا تعتقدون أنكم أخطأتم حين فرطتم في جهاز الدولة الناصري للسادات بهذه السهولة؟
ليس بهذا الشكل، هناك خطأ، نعم، ولكن ليس بهذه الجسامة لأن النتيجة التي وصل إليها السادات كانت شبه طبيعية. لأن مؤسسة الرئاسة في مصر لها وضع طاغ أكثر من أي اعتبارات أخرى، وإذا حسبنا موازين القوى فسنقول أن الجانب الذي يوجد فيه الرئيس يعد عشرة والجانب المواجه له يعد واحداً فقط.
ـ كيف تم اعتقالك؟
* اُعتقلنا جميعا ليلة 13 مايو عن طريق الحرس الجمهوري والشرطة العسكرية، وقطعوا خطوطنا الهاتفية، واقتحموا مكاتبنا واستولوا على ما فيها من أوراق ووثائق، ونقلونا إلى سجون مختلفة، أنا ذهبت إلى “أبي زعبل”، وبدأت التحقيقات في قضية مفتعلة سموها قضية “15 مايو”.

الفصل السادس

حرب الاستنزاف وإصرار عبدالناصر على المقاومة

الفريق أول محمد فوزي: قائد القوات المسلحة المصرية

· هذه قصة الطالب الذي أنقذ دبابات مصر
· قلت لعبدالناصر “تمام يا أفندم هذه 17 وحدة، أنا مش عاوزها”
· يوم 30 يونيو (حزيران) أسقطنا 13 طائرة للعدو
· أكون سعيداً حينما لا تنفذ أوامري بوقف القتال
· أصدرت أوامري لكل من يقتل جنوداً إسرائيليين يُعطى نيشاناً ومكافأة مالية
· هواري بومدين قال لي “كل الجيش الجزائري تحت تصرفك، فقط أريد أن أعرف موعد المعركة”.
· تونس قالت أنا أساعدكم حسب إمكانياتي وقدمت كتيبة عسكرية
· السعودية قالت سندعمكم مادياً وعبدالناصر يريد منها إعلان الجهاد
· “أيوه.. أيوه: الجنود العراقيين صعايدة”

لما خاطبت هاتفياً الفريق أول محمد في مصيفه بالإسكندرية وطلبت منه ترتيب حديث صحفي، وافق بسرعة، وعين يوم الأحد الساعة 11 صباحاً موعداً للقاء.
يوم السبت توفي علي صبري، صديق الفريق فوزي، ونائب رئيس الجمهورية المصرية الأسبق.
وكانت الجنازة يوم الأحد، أصدقاء كثيرون بمن فيهم، عبد الله إمام وآخرون، قالوا لي، لا تذهب للموعد فالفريق سيحضر بدون شك جنازة صديقه، وتلتقيه هنا معنا، لأنه يستحيل أن يتخلف عن حضورها.
ولم أذهب للموعد، وحضرت الجنازة، ولم يأت الفريق أول محمد فوزي، بعدها اتصلت به بسرعة هاتفيا، وقلت له ما حدث تفصيلا، فأجاب، تقديركم خاطئ يا ابني، وأنا لم أحضر الجنازة، التزاماً بموعدي معك، وحاولت الاتصال بك فلم أقدر، فأرسلت ابني بدلاً مني.
عندها أحسست بخجل كبير لتخلفي عن الموعد. وبإعجاب كبير جداً بدقة والتزام قيادي عسكري عربي، وقلت له: يا سيادة الفريق، لقد أخطأت معك، وإن شئت نجدد موعدا آخر أو نلغيه، مع اعتذاري الشديد لك.
وقال: لا بأس تأتي يوم الجمعة القادم، نفس الساعة. وقبل الموعد بثلاث ساعات، كنت أجلس مع زميل مصري، أمام بيت الفريق، على الكورنيش، ومع الساعة الحادية عشر، ضغطنا على الجرس، وفتح لنا الفريق أول محمد فوزي الباب، بابتسامة ترحيب صادقة.
ودخلنا معه إلى الصالون، وبعد لحظات قليلة، كانت ضحكة عفوية، تنطلق من أرجاء البيت، تحطم كل حواجز البروتوكول، ويعرف الجميع في مصر، قصة كيف كان جمال عبد الناصر يراهن وزراءه قائلا، أراهن من فيكم يقدر أن يضحك الفريق أول محمد فوزي.
الآن، هو منشرح معنا، ويلقي نكته الطريفة بين الفترة والأخرى… أما الحديث فبلغ حد الساعة والنصف، وتناول حرب الاستنزاف، وحلل محاور كثيرة، منها اتصال عبد الناصر به وما هي المهمات التي كلف بها، ومنها الإجراءات الفورية التي اتخذها لمعالجة الموقف عسكرياً، ومنها أيضاً كيف أدخل المثقفين والمتعلمين إلى الجيش، وطبيعة قسوته والانضباط الذي أدخله، وكيف انطلقت أول رصاصة لتبدأ حرب الاستنزاف، وتطورت معنويات المقاتل المصري، وقصة إدخال صواريخ سام 3 إلى مصر، وحقيقة مشروع روجرز، وعلاقة الخبراء الروس بالجيش المصري، ودورهم في الحرب، ودور القوات المسلحة العربية الأخرى، وخصوصية الجنود العراقيين… وهذه تفاصيل الحوار:

ـ نبدأ حديثنا من فترة تاريخية محددة، صورتها كالآتي: الجيش المصري في حالة انهيار، المشير عبد الحكيم يتآمر على عبد الناصر ثم ينتحر، في هذا الوقت الحرج، عبد الناصر يتصل بك لبناء الجيش من جديد حتى تبدأ معركة جديدة وتحرر الأرض، فكيف اتصل بك عبد الناصر وكلفك بهذه المهمة الصعبة؟
* هذا موضوع لا يمكن أن أنساه طوال حياتي، ويجب أن نعلم أن الشعب المصري لم ينهزم سنة 1967، والقوات المسلحة لم تفقد إرادتها في القتال. وأعتقد أن إسرائيل احتلت الأرض ودمرت السلاح، لكنها فشلت في كسر إرادة القتال وإرادة الصمود. وأهم شيء في هذا الموضوع أن الاستسلام لم يكن وارداً أبداً.
إذن، منطق “موشي دايان” وهو جالس في تل أبيب ويقول أن الجيش لن تقوم له قائمة إلا بعد 15 أو 20 سنة، كان ينافي الحقيقة. ففي نفس هذه اللحظات، كان الشعب المصري يرفض الهزيمة ويجبر عبد الناصر على الاستمرار والتراجع عن الاستقالة، مطالبا إياه بتحرير الأرض. ومن هنا استوحى عبد الناصر مقولته الشهيرة “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة” وطرح موضوع المفاوضات والسلام جانباً، وكان منطقه يعتمد على شيء مهم، هو أن عدونا لا يعتمد إلا القوة، و إذا كان خصم هذا العدو سيأخذ طريقا آخر غير القوة فعليه أن يستسلم له.
ـ كيف اتصل عبد الناصر بك إذن؟
* في يوم 11 يونيو 1967، على الساعة الواحدة ظهرا، اتصل بي الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وقال لي ما نصه: ” هل تتحمل يا فوزي مسؤولية قيادة القوات المسلحة في الوقت الحاضر؟”
الجواب كان: نعم.
فقال عبد الناصر: ” سأعلن هذا القرار في الساعة الثانية والنصف في إذاعة القاهرة، وعليك أن تؤمن البلد والقوات المسلحة، حتى ألتقي بك مرة أخرى في السابعة مساء”. وفعلا صدر القرار وعينت قائداً عاماً للقوات المسلحة.
ـ ما هي الإجراءات الفورية التي اتخذتها في إعادة بناء القوات المسلحة؟
* بدأت بإخراج القادة المنسوب إليهم الهزيمة، وعدد كبير منهم كان بدرجة فريق. ثم قمت بتعيين زملاء لي أثق بهم، فعينت واحداً في المنطقة الشرقية وآخر في المنطقة الشمالية، وآخر في المنطقة المركزية، وفي المقاطعات المختلفة في أغراض التأمين المؤقت.
وذهبت إلى عبد الناصر في الساعة السابعة مساء. وأسمح لي قبل الاسترسال في الحديث أن أنبه أنه قبل يوم 11 يونيو 1967، كانت مصر دون قيادة سياسية ولا عسكرية. فالشعب محتار، أين هو؟ لقد كان في فراغ وهو ما سميته في كتبي بالفراغ في القيادة السياسية والعسكرية.
إذن الشعب، هو الذي كان يمسك البلاد يوم 9 و10 يونيو، عبد الحكيم عامر كان قد أعلن استقالته وهو في طريقه إلى بلده. وهذه المرحلة اعتبرها تغطية الإحراج السياسي والعسكري بالنسبة للحكم .
أعود للقائي مع عبد الناصر في موعدنا الساعة السابعة، حيث أعطاني التوجيهات السياسية والعسكرية. أما معرفتنا ببعض فقد كانت سابقة وقديمة وهو الذي عينني في السابق رئيس أركان حرب القوات المسلحة دون رغبة المشير عامر والقادة الآخرين.
التوجيه السياسي: وهو الذي أعلن بعد ذلك في 25 أغسطس بالخرطوم في مؤتمر القمة العربية.
والتوجيه السياسي العسكري ينحصر في كلمتين “عليك أن تبني القوات المسلحة مرة أخرى على أسس علمية بهدف استرجاع الأرض المغتصبة سنة 1967. وهي سيناء والجولان والقدس والضفة الغربية وغزة”.
فأجبته قائلا: العدو لن يتركني أفعل ذلك يا ريس.
فرد عبد الناصر:
– “نعم، هذا تقدير سليم، فالعدو لن يتركك، لذلك نأتي إلى الواجب الثاني المطالب به، وهو مواجهة العدو أثناء بناء القوات المسلحة”.
فأصبح هناك واجبان، ثم أضاف لهما شرطان، وهو تحديد المدة الزمنية لإنجاز عملية البناء، وكانت محددة بثلاث سنوات أو ثلاث سنوات ونصف على الأكثر.
“فقيدني، و ما بقيتش أنا مبحبح، في 20 سنة مثلا، زي ما “دايان” كان فاكر”.
وقال لي أيضا: “عليك أن تدرب الجيش، وترفع كفاءته واستعداده بالطريقة التي تريدها، أما التسليح، فأنا الذي سآتي به من الاتحاد السوفيتي” والظرف كان لصالحنا، فحنفية الاتحاد السوفيتي كانت مفتوحة على آخرها، وبالتالي تجاوزنا أهّم عقبة وهي مسألة توفير السلاح.
وحقيقة، لقد نجح عبد الناصر في إيهام الاتحاد السوفيتي بأنه شريك في الهزيمة. وقال له ما معناه أنت كنت موجود معنا، فكيف تسمح بحصول الهزيمة، إذن أنت شريك لنا فيما حصل، فعليك بالتعويض، تعويض السلاح الذي فقدناه وأحسن.
فقال له الروس: أسلحتنا حديثة.
فأجابهم عبد الناصر: وما الأمر في ذلك، تعطونا خبراء من الجيش السوفيتي العامل، لا من الجيش الاحتياطي حتى يساهموا في تأهيل جنودنا على استخدام السلاح الحديث ومن هنا أصبح السلاح والخبراء متوفرين لنا.
وقبل أن أنسى، أريد أن أقول أن الاتحاد السوفيتي لم يمسك دفتراً وفواتير ويحسب ثمن الطائرة كذا وثمن المدافع كذا، وعليكم ديون كذا، وفوائدها كذا.. هذا لم يحصل أبداً. لقد جاءنا كل السلاح الذي أردناه أولاً، وبفائدة تقدر بـ 2% ثانياً، وما فيش دفع خالص ثالثاً(!).
وأنا من باب الوصف البلدي، ما أنا ابن الدرب الأحمر، (منطقة شعبية بمصر)، قلت “الله دي المسألة تبقى على النوتة”.
(سألني مازحا، تعرف ماذا تعني على النوتة، ولما لم أجب بسرعة، أضاف مقهقهاً بصوت عال: أنت مش ابن بلد، وشرحها يعني تأخذ بدون أن تدفع حاضراً وإنما إلى أجل آخر).
وبعد التسليح، دخلنا في مرحلة التدريب وإعداد المقاتل، ابتدأت أتدخل في نوعيته، وأحكي لك مثالاً على ذلك: لقد وجدت الجندي يعيش في مستوى اجتماعي وتعليمي لا يؤهله ليكون مقاتلاً، فقلت، إن الزمن تطور، ويجب إدخال المتعلمين والمثقفين للقوات المسلحة بدلا من الأميين، وواجهت اعتراضات كبيرة تغلبت عليها، وبدلا من تجنيدنا 3% من الجامعيين أصبحت النسبة 97%، ونجحت في ذلك، واشترطت أن يأتي المثقف على تشكيلات الوحدات المقاتلة، لا المكاتب.. وانتهت هذه المراحل بنجاح باهر، ويمكن القول أن هذه الخطوة نقلت الثقافة العسكرية من الصفر إلى 70% دفعة واحدة.
وكسبت منهم في الميدان إنتاجاً متميزاً ومتقدماً لم يخيب أملي في عقول هؤلاء الشباب.
ـ لو تعطينا مثالا لهذا الإنتاج المتميز؟
* يا سلام ما تتصورش لو أحكي، فالتفاصيل كثيرة. وأعطي مثالاً، لطالب خريج العلوم، شاهد الصهاينة يستخدمون قذائف مضادة للدباباتB11 وB10، ويضربون بالسلك على شعاع حراري وتتعدى القذيفة القنال، وتضرب ماسورة مدفع دباباتنا فتفجرها، انتبه خريج العلوم لهذه العمليات وقام بوضع سلك شائك ملفوف أمام الدبابة بـ 20متر، فضربوا الدبابة بنفس القذيفة ولم تصل إليها وإنما لفت داخل السلك مرات ومرات حتى هدأت ولم تنفجر، فأنقذت الدبابة.
يومها، سمعت الخبر بالتلفون وأنا كنت في منطقة أخرى، فركبت طائرة مروحية وتوجهت رأساً لهذا الموقع ووضعت لهذا الطالب نجمة بدل الشريط، وأعطيته ميدالية وألبسته كسوة الضابط، وقلت له، تفعل نفس الشيء على طول خط المواجهة، أي على طول 170 كلم.
وبعد ما تنهي من عملك، تنتقل إلى مركز البحوث في القوات المسلحة، وقامت صحيفة القوات المسلحة بنشر صورته وأنا أضع له النجمة والميدالية.
وانقلبت القوات المسلحة، وأصبحت تردد “فليحيا المثقفون، فليحيا العلم..”. وبعد ذلك، خلصت الجيش من كلمة الجندي العادي وعوضتها بكلمة “الجندي المقاتل”، وكنت أقول:” الجندي المقاتل الصالح، أرفع رأسك ـ أخذتها من الريس ـ أنت الأحسن، أنت الأقوى..” وتغلغلت أجهزة التوجيه المعنوي ومعها الناحية الدينية، في كل التشكيلات المقاتلة.
ـ نأتي الآن إلى معارك حرب الاستنزاف، كيف انطلقت أولى الرصاصات ؟
* احذر أن تصدق أن حرب الاستنزاف، قد تحددت مسبقا أو قلنا لنعلن حربا تستنزف إسرائيل، كلا هذا لم يحدث.
احذر أن تصدق أني قد أعطيت في أي يوم أمرا ببدء حرب الاستنزاف، أبدا ذلك لم يحدث.
طيب، تعرف من بدأها ؟ الجندي، نتيجة رغبته في الثأر لأنه يشعر بأنه “اتخم” في الهزيمة، (اتخم يعني أُكل ظلما، سُرق) هذا الجندي شاهد عسكريا اسرائيليا ومعه فتاة ينزلان القنال ليستحما، والجندي المصري رجل صعيدي، وبدون أن يشعر عمّر المشط ونشن، ودبت طلقتان، قتلتا الجندي والفتاة معا.
وثاني يوم تكررت الحادثة، وهذه المرة أطلق خمسة من جنودنا.
وثالث يوم تكررت هذه الحادثة أخرى، وأطلق النار 10 من جنودنا.
وبدا العدو يرد النار على جنودنا، وكانوا يتعمدون النزول للمياه حتى يؤكدون ملكيتهم لها.
وهكذا بدأت حرب الاستنزاف، من بندقية، إلى رشاشة إلى مدفع إلى مدفع ثقيل إلى دبابة حتى تدخل الطيران المصري في الحرب في شهر يوليو 1969.
وأريد أن أنبه، إلى أن الوقت الذي أطلق فيه العسكري النار، كانت أوامري كتابية تطالب بتهدئة الموقف وعدم الاشتباك مع العدو.
وعندما بلغوني في الليل بأن أحد جنودنا قد اخترق أوامر وقف إطلاق النار وقتل إسرائيليين، وطلبوا مني، ما الذي يجب أن يفعلوه قلت لهم رقوه، وكل من يقتل ويخترق وقف إطلاق النار أعطوه ترقية.
وشرحت لهم أن أوامري الأولى كانت رسمية وسياسية حتى لا يمسك علينا أحد موقفاً، أما هذه الاختراقات فهي فردية. لذلك كنت أشجعها من تحت إلى تحت.
وحاولت بعد ذلك، أن أهذب كلمة “الثأر” حتى تصبح (التحرير) بدلا من الثأر، تمشيا مع حضارتنا العربية الإسلامية.
وحاولت أثناء الحرب، تأهيل المقاتل تأهيلاً طبيعياً عملياً تحت النيران، وذلك أفضل بكثير من تدريبه في القاهرة.
وأصدرت أوامر أخرى تقول أن كل من يعبر القنال ويلقي قنابله اليدوية أو يستخدم رشاشه ويقتل إسرائيليين يعطى نيشان درجة ثانية، ومكافأة مادية.
وأوّل من نفذ هذه العملية، أعطيته أنا شخصيا النيشان ونزلت صورته في الصحف، وقلت أن من يأخذ إجازة من هؤلاء الأبطال يجب أن ينزل إلى الناس بميداليته مع لباسه المدني حتى لما “تشوف أمه النيشان تقول له: “منين ده يا محمدين؟ يقول لها: أن عبرت القنال، زغرتي يا أما”.
وحقيقة هذا التوجه أخذته من عبد الناصر عندما اعتمد على ركائز أساسية وهي: المثقفون – القطاع العام – الجنود.
ـ إلى جانب الجيش النظامي، ألم يشكل جيشاً شعبياً؟
* لقد أنشأت الجيش الشعبي في هذه الفترة التي كنت احتاج فيها إلى كل إنسان يأتيني ليقاتل، حتى يكبر الجيش. وتشكل من الفلاح والعامل بعد انتهاء مدة خدمته العسكرية، وأعطيت هذا المواطن بندقية وقنبلة يدوية وذخيرة، وقدمت له شاويش احتياطي يدربهم وينظمهم ويعملوا في المرفق من الساعة السابعة مساءا حتى السابعة صباحا. فقاموا بتغطية أربعة آلاف هدف عسكري وقد نجحوا في حالات كثيرة وصدوا هجومات العدو، فمرة حاولت هيلوكبتر عدوة أن تضرب في الكيلو 53 محطة ضخ البترول الآتي من السويس إلى الأميرية. فتصدى لها فلاحون وعمال ببنادق صغيرة، مما جعل الطائرة تنسحب ولا تنفذ عملية الإنزال والتخريب التي أتت من أجلها.
ـ معنويا، هل تحسنت معنويات الجيش المصري وتدهورت معنويات الجيش الإسرائيلي؟
* أعتقد إنني استـفدت من حرب الاستنزاف، قبل خوض الحرب الحقيقية، حيث صدرت الخوف إلى إسرائيل، وذلك بعد أن شاهدوا المقاتل المصري يخرج من خندقه ومعه القنبلة يومياً ويعبر الضفة ويقتل الإسرائيلي في خندقه.
ولا بد أن ندرك أن الإسرائيلي قد تخندق لأول مرة منذ سنة 1948.
ووصل بهم الأمر، إلى أن صرخ مرة أحد جنودهم قائلا “أنا مستسلم يا جندي يا مصري أنا مستسلم، ده أنا شاويش مظلات اشتغل في الكانتينه”… وأسره الجندي المصري وعبر به القناة وسلمه للقيادة.
وكنت أجلس على المصطبة (مكان يجمع حوالي 10 جنود) بعد العشاء وعلى الأرض، وأتركهم يتحدثون وكان المثقف عادة هو الذي يتكلم.
وأريد أن أقول أن القتلى يموتون يومياً منهم ومنا أيضا، وكانت الأرقام تزداد يوما بعد يوم، 4 ثم 5 ثم 7 ثم 10.. ولو جمعنا هذه الإعداد وضربناها في 365 يوم ثم في ثلاث (مدة الحرب) لعرفنا قيمة خسائرهم الفادحة.
وألاحظ أيضا، أن مصطلح حرب الاستنزاف، كان من اختراع الصهاينة حتى أني لم أكن اعرف المصطلح بالإنجليزية ووقفت غولدا مائير في أغسطس 1970، يوم أوقفنا إطلاق النار وقالت “هذا يوم يبدو لي كما لو كان أفق السلام، وسوف لن تسمع أذني مستقبلاً أسماء ضحايانا في الحرب وهي تذاع على الراديو يوما ما.
ووصلنا في أواخر حرب الاستنزاف إلى حد أن كتيبة كاملة تنتقل عند البلاح من التل 17 إلى الضفة المقابلة وتبتلع 7 دبابات و 7 جرارات وحوالي 31 جنديا إسرائيليا، وترفع العلم المصري.
ـ معركة الصواريخ، كيف أثرت في موازين القوى وطبيعة الحرب؟
* لقد تطورت الحرب إلى معركة الصواريخ، تمكنا فيها من كسر ذراع الطيران الإسرائيلي. وذلك لأن تردد ذبذبات سام 3 لم يعرفوها، حيث كانوا يعرفون سام 2 من أيام حرب الفيتنام.
وأسقطنا يوم 30 يونيو 1970، ثلاث عشرة طائرة عدوة، وأسرنا خمسة طيارين أحياء. بقوا عندنا حتى سلموا مع أسرى أكتوبر 1973، وأول شيء فعلته مائير أثناء المفاوضات هو المطالبة بقائد السرب الذي أسرناه مع الأربعة الآخرين.
وأصبح يوم 30 يونيو عيدا قوميا لدفاعنا الجوي. وإلى حد اليوم أرسل كل يوم 30 يونيو برقية تهنئة إلى قائد الدفاع الجوي.
ـ جمال عبد الناصر كيف كان يتفاعل مع هذه المعارك ؟
* كان يتابعنا في كل المعارك، وكان سعيداً عندما تمكنت قواتنا من تحقيق نجاحات كثيرة، وزالت عنه الآثار النفسية لحرب يونيو 1967.
ويجب أن نعلم أن أمريكا بطلب من إسرائيل هي التي قالت ارحمونا من حرب الاستنزاف نحن نريد إيقافها.
وهذا يحصل لأول مرة.
وقالوا لعبد الناصر عن طريق وكيل وزارة الخارجية الأمريكي أن إسرائيل مستعدة للانسحاب من سيناء مقابل وقف إطلاق النار. وأنا أطالب بغزة والضفة والجولان قبل سيناء.
وفي شهر أغسطس، توصل الأمريكان – بعد أن فرض عبد الناصر شروطه – لإيقاف إطلاق النار وكان شرطه الأول أن تكون مدة الهدنة فقط 90 يوما، في حين أرادوها هدنة دائمة، وطالبوا أن تكون المفاوضات مباشرة فرفض، وقال يجب أن تكون غير مباشرة وعن طريق الأمم المتحدة. وأقول هذا الكلام للرد على الشتائم التي وجهها بعض الفلسطينيين لعبد الناصر بعد وقف إطلاق النار.
وفي تلك الفترة، كان موقفنا العسكري سليم، والسياسي قوي.
ـ خصوم عبد الناصر يقولون أن مشروع روجرز كان ارتدادا عن صلابة الموقف العربي، فلو تشرح لنا أبعاد هذا المشروع الاستراتيجية والتكتيكية ؟
* سنة 1949، وفي جنيف وقبرص، عقدت مصر وسوريا والأردن ثم السعودية هدنة مؤقتة مع إسرائيل.
وفي سنة 1967 لم تأت كلمة الاعتراف بإسرائيل، بل بالعكس، القرار 242، يقول عدم جواز أخذ الحق بالقوة.
والإسرائيليون يعرفون أن اتفاق 242 يعد خسارة بالنسبة لهم إلى حد اليوم.
أما من الناحية العسكرية، فقد استوعبنا حقيقة توازننا في تلك الفترة مع إسرائيل.
إضافة إلى أهم شيء وهو ما لم يعلموه، أن عبد الناصر قد أعطاني مهلة 90 يوما. إن لم تنجح فيها المفاوضات في نيويورك، عليّ استئناف القنال، وتطبيق خطة تحرير سيناء بالكامل.
ـ هل يمكن، سيادة الفريق، أن نعرف ملامح هذه الخطة وأطوارها؟
* الخطة تعتمد على مرحلتين، المرحلة الأولى تهدف إلى الوصول إلى المضايق ثم الحدود، عندئذ تنفذ المرحلة الثانية حيث تتعاون مع الدول العربية الأخرى لاستكمال الهدف الكبير في تحرير كل الأراضي المغتصبة سنة 1967 أي القدس والضفة وغزة والجولان وسيناء.
ـ في بداية السبعينات، برزت انتقادات كبيرة في الصحافة المصرية الموالية للسادات، وبعض الصحف العربية، للجيش المصري الذي قدته في حرب الاستنزاف، وركزوا على تغلغل الخبراء والضباط السوفيت في هذا الجيش، وهيمنتهم التدريجية عليه، فما هي حقيقة علاقتكم بهم ؟
* هذا موضوع ليس له أي نصيب من الصحة، وإنما يندرج ضمن حملة نفسية شعواء، الهدف منها تشويه سمعة السوفيت، والتقليل من أهمية جمال عبد الناصر.
فالروس قد أعطونا السلاح مجانا، والتعامل معهم مقّيد في إطار اتفاق ويرتكز على المساواة بينهم وبين الضباط المصريين، وليس لهم أي دخل في التخطيط وفي العمليات الميدانية فدورهم كان ينحصر في رفع الكفاءة القتالية أثناء التدريب للقوات المسلحة، وقد ساعدونا أيضا في إعداد الدولة للحرب.
من ناحية التسليح، قلنا إننا مميزون من حيث إمدادنا بالسلاح الحديث وقد ارتكبنا خطأ – بحسن نية طبعا – في هذا المجال.
كان وزير التجارة الخارجية التشيكي في زيارة لمصر، وزارنا في القوات المسلحة، حيث دخل معي إلى مصنع صيانة الطائرات فشاهد خبير روسي يركب محركاً لطائرة ميغ 21، فطلب مني أن يطلع عليها من قرب، فذهبنا معا، وسأل الوزير الخبير عن نوع المحرك، فأجابه: هذا الموتور 511 الجديد.
وفيما بعد علمنا أن السوفيت لم يعطوا التشيك هذا النوع المتطور من المحركات، وقامت أزمة دبلوماسية بينهما. وهو دليل، أننا أخذنا أكثر السلاح تطوراً.
المسألة الثانية، هي كيفية تعاملنا مع بعض. لقد كنت مسيطراً على الجميع، وأتعامل مع الخبراء السوفيت مثل تعاملي مع قادتي وربما أشد وبأكثر قسوة.
وعلمت مرة أن خبيراً، موجودا في طنطا، يشرب زجاجة بيرة يوم الجمعة في قاعدة الطيران. الحادثة وقعت على الساعة الثانية، وأنا عرفت الخبر الساعة الرابعة. وفي الساعة السادسة استدعيت كبير الخبراء وقلت له: هذا الرجل يركب طائرة السادسة صباحاً، ويتجه مباشرة إلى غريتشكو (وزير الدفاع السوفيتي). في اليوم الثاني وعلى الساعة الثانية ظهراً، خاطبني غريتشكو بالهاتف وقال “الشحنة التي جاءتني في الصباح أرسلتها إلى سيبيريا” (وهنا قهقه الفريق بصوت عال وبانشراح كبير).
حادثة أخرى، طائرة إسرائيلية اخترقت أجواءنا من غردقة حتى وصلت إلى أسوان، وصدفة كانت هناك في مصر لجنة مشتركة من الخبراء الروس والمصريين، فبحثوا في الأمر فتشوا عن الدائرة التي فيها شبكة “رضاء” أي أسوان والأقصر، الصعيد والبحر الأحمر، فلم يصلوا إلى نتيجة، فجاءت لجنة ثانية وفتشت بدورها، واكتشفت الثغرة، فقررت أن أطرد كل أعضاء اللجنة الأولى إلى موسكو.
لقد كانوا يرتعدون مني، ولكن من جهة أخرى كنت أحضر كل أعيادهم القومية، وأقوم بالواجب معهم، وأحميهم اجتماعيا.
ويمكنني أن ألاحظ أيضا، أن الروس كانوا يخافون منا، باعتبار أن لنا “عقدة الإنجليز” فكانوا يقدرون ذلك جيدا، ولذلك رفضوا طلب عبد الناصر، عندما عرض عليهم أن يزوروا المناطق الأثرية المصرية. وقالوا أن جنودنا مدربون على الإقامة في الثكنة لمدة سنتين دون أن يخرجوا إلى أي مكان. وناقشناهم: “يا جماعة درجة الحرارة تبلغ الخمسين، فتعالوا شاهدوا مصر..” لكنهمرفضوا… حتى لا نقول عنهم استعماريين ونشبههم بالإنجليز.
مثال آخر طريف، في منطقة الأميرية، أوقفت سيارتي، ونزلت لأقوم بجولة قصيرة، فشاهدت عسكري روسي يعمل على بطارية سام3 في موقع محاط بالسلك، تقدم منه فلاح مصري، أخذ فجلة من الأرض، مبلولة بالطين، مسحها بثيابه، وقدمها للروسي، فأخذها منه وازدردها في لقمة واحدة، وقال له “خراشو” (شكرا بالروسية).
تقدمت عندئذ من الفلاح وقلت له: “حصل إيه، قال لي اديتلو فجلة، أنا ما عملتش حاجة يا فندم والله”، طبطبت عليه وقلت له أنت جدع جدع والله، ده أنت حتجنده وتستقطبه”, ثم خاطبت الجندي الروسي، فقال “يا سلام ده المصري كريم، كريم…” وبقي يكرر كلمة كريم مرات ومرات.
وأريد أن أوضح أيضا، أن الدفعة الأولى والتي عادت إلى موسكو، وضعوها في قفص الأسرى لمدة شهر، حتى يطمئنوا أن عقيدتهم الشيوعية لم تتأثر ولم تتغير.
ـ ألم يحاول السوفيت المتواجدون عندكم استقطاب جنودكم وضباطكم للايدولوجيا الشيوعية ؟
* (باستغراب شديد) حاولوا، إزاي، دول خايفين منا، لم يقتربوا منا من هذه الناحية بتاتا، ولو حصل التقاء، فسنستقطبهم نحن، لأن أصالة القومية والدين عندنا مغرية جدا، رغم أني أتألم لما يحدث الآن، ففترة السادات غيرت كثيرا من الأخلاق، ومن السلوك.. وقد أشاع إشاعات كثيرة مغرضة، من نوع: إن وزير الحربية، ويقصدني، لم يكن قادراً على دخول موقع روسي في أسوان، ذكر ذلك عثمان أحمد عثمان في كتابه، وأجبته بكلمات قليلة بسيطة: (هذا لم يحصل شكلاً ولا مضموناً يا عثمان) و (عيب يا عثمان)، وأرسل لي رسالة عن طريق صديق تقول، لا تتركوا سيادة الفريق يغضب، هذا كلام جاء أمرا من فوق، ولا بد من إشاعته.
ـ قصة صواريخ سام3، كيف تمكن جمال عبد الناصر من الحصول على هذه النوعية المتطورة من الصواريخ وعزز بها دفاعاتكم الجوية بشكل كبير ؟
* في يناير 1970، طلبت من الرئيس توفير صواريخ سام3، قبل أن تنتهي مدة الثلاث سنوات، وقلت له لقد وعدتني بذلك، وأضفت، أن دفاعنا الجوي ضعيف غير قادر على دخول الحرب، ولدينا نقص في الطيارين، ولقد سجل لي جمال عبد الناصر أمانتي في نقل الحقيقة، حيث لم أخدعه. فسألني: “طيب ماذا نفعل؟”.
فقلت له: “مباشرة نحو موسكو”.
وبقينا نخطط طوال الليل، حتى أنجزنا قائمة احتياجاتنا، وتتكون من السلاح والضباط والخبراء الروس، وهو ما اعتبرته قمة المساعدة.
وسافر الرئيس إلى موسكو، وقال لهم إما أن توفروا لي هذه المطالب، أو أترك الحكم، فارتبكوا، وقالوا له: “يا سيادة الرئيس، هذه ليست من سلطاتنا، وإنما سلطة المجلس الأعلى للدفاع”. فأجابهم عبدالناصر: “وما الأمر في ذلك. هاتولي المجلس الأعلى”. فقالوا له هؤلاء يبلغ عددهم 1517، ومنتشرين في كل أنحاء الاتحاد السوفيتي، فقال لهم: “إو مالوا، بريجنيف يأتي بهم”، وفعلا أعطونا مهلة 48 ساعة وبقينا نحن في الاستراحة بموسكو، ولم ينم بريجنيف تلك الليلة، من هليكوبتر إلى مكتبه، ومن اتصال إلى اتصال، وجاء في الليل بسيارته خلسة على الاستراحة، وبدون حرس، ودخل مباشرة على غرفة نوم الرئيس، وقال له “لا تؤاخذني على إزعاجك في هذا الوقت، لأني سعيد جدا بأن لبيت مطالبكم وقمت بالواجب”.
ومن الغد وقفنا في الكرملين، ووقف بريجنيف، يتلو لائحة “بقرار من مجلس السوفيت الأعلى تقرر.. كذا، كذا..” وعدنا إلى مصر بصفقة أسلحة ضخمة معها ما يلزم من خبراء، بالإضافة إلى 120 طيار سوفيتي درجة أولى، واستقبلتهم سراً في الإسكندرية، وأوصلتهم إلى مواقعهم، ويومها كنت أريد 110 مليون جنيه، طوارئ، وقام الرئيس بجلسة سرية في مجلس الأمة، ووفر لي هذا المبلغ.
وباتفاق في الكرملين، كنت أخذت من الرئيس فرصة 40 يوما حتى أتمم الاستعدادات على الأرض لهذه القوة، حتى لما تأتي من هناك تجد مواقعها ومهماتها جاهزة وقد ضبطوا التوقيت حتى يصلوا إلى هنا قبل الأربعين يوما بخمسة أيام. وأنا يوم 39 في الليل، لم استخدم الهاتف، وإنما أخذت سيارتي حتى منشية البكري، ودخلت على الرئيس بعد أداء التحية وقلت له “تمام يا أفندم، النهار ده يوم 39، أنا جاهز”.
ـ غير السوفيت، كيف ساعدتكم القوات العربية الأخرى، أو لنقل كيف ساهمت في القتال، خاصة القوات العراقية، والقوات الجزائرية.. تحت شعار قومية المعركة ؟
* قومية المعركة شعار، رفع خاصة سنة 1969، فالهزيمة أعطت درسا أوليا وهو أن لا بد من مشاركة الأمة العربية في معاركنا ضد إسرائيل.
وبعدها انضمت ثورة ليبيا والسودان، واتسع المجال الاستراتيجي في العمق المصري، فنوقشت الفكرة وأعلنت في مؤتمر القمة بالرباط يوم 20 ديسمبر سنة 1969، وأخذ عبدالناصر معه معمر القذافي في سفره وكذلك الملك فيصل، وحضرت أنا بصفتي القائد العام للجيوش العربية لمواجهة إسرائيل.
وعينني مجلس الدفاع للدول العربية، قائدا عاما، وكلفني بترتيب خطة للجبهة الغربية وللجبهة الشرقية حتى يتحقق شعار قومية المعركة، وأثناء الحوار حدثت بعض المشاكل، سأوضحها: المغرب أبدى استعداده، وعين لواءين مدرعين، ولكن أي منهما لم يصل.
بالنسبة للجزائر قال لي بومدين: “كل الجيش الجزائري تحت تصرفك، فقط أريد أن أعرف موعد المعركة، حتى يذهب الجيش الجزائري قبله مباشرة”. فقلت له : “يا سيدي الرئيس لا يمكن أن يعلن قائد في العالم عن موعد معركته”. فقال : “طيب أنا سأرسلهم هناك لأي مهمة؟”. فأجبته: ابد استعدادا، وأنا أتصرف مع جنودك في الوقت المناسب. بالنسبة لليبيا قال معمر القذافي “كل إمكانياتي المادية والعسكرية والجغرافية تحت تصرفكم”.
تونس، قالت “أنا أساعدكم حسب إمكانياتي، وقدمت لنا كتيبة عسكرية.
والمشكلة الكبرى التي ظهرت، هي أن العراق وسوريا والأردن، كانوا يريدون أن تكون الجبهة الشرقية هي الجبهة الأساسية، بحجة أن الدعم يأتيهم من مصر ويلتف حول إسرائيل من هناك، هذه المشكلة تجاوزناها.
ـ بالنسبة للجزيرة العربية هل كان لها دور محدد ؟
* السعودية قالت سندعمكم ماديا؟، وكان الرئيس بحكمته شرح منذ البداية بعض القواعد وقال “يا جماعة، الدعم، لا بد أن يكون إيجابيا، يعني بالدم والروح”. وكانوا يريدون دفع المال فقط. وكان عبدالناصر يريد دعم السعودية إيجابيا، أي بالقتال، لما لذلك من ردود فعل خارجية وعالمية هامة. وقال : تعلنوا الجهاد معنا، وقال لهم أيضا، “أنا آخذ الفلوس اعمل بها إيه، روسيا تعطينا السلاح إلي إحنا عاوزينه”. لكنهم رفضوا، والانسجام بين القادة العرب لم يكن متوفرا، وأنت تفهم الباقي (ويضحك بانشراح).
وبهذا الشكل لم يطبق شعار قومية المعركة، ثم لما جاء السادات كثرت الشكوك حوله، لكن محمود رياض قام بجهود كبيرة في الجامعة العربية، وجمع على الورق هذه الجهود، لكن السادات خرب كل شيء، حتى أن ما اُتفق عليه محمود رياض مع الدول العربية لم يتم إلا بعد 10 أيام من بداية المعركة، باستثناء العراق.
ـ لقد أشرفت على معارك حرب الاستنزاف مباشرة وشاركت فيها قوات عربية وقيادات عربية مختلفة فمن الذي كان أقرب إلى قلبك طيلة الحرب ؟
* الأقرب إلى قلبي على الإطلاق، هو الشهيد، رئيس الأركان، عبدالمنعم رياض. لقد اعتبرت موته أكبر خسارة أصابتني.
ـ كيف عينت عبدالمنعم رياض في قيادة الأركان ؟
* يوم 11 يونيو 1967، على الساعة السابعة مساءاً، أول واحد تناقشت مع عبد الناصر لتعيينه في القيادة كان عبدالمنعم رياض. وقد طرحت اسمه بدون تفكير. فنظر لي الرئيس باندهاش، وقال : “إزاي تنطق بسرعة؟”. فقلت : “أنا فكرت فيه قبل أن آتي إلى هنا وأنت تعرف انه من العباسية مثلي، وأننا خريجي سلاح واحد، دفاع جوي، وأبوه ضابط وكمان أبوي … فردد عبد الناصر بابتسام: “الله …الله …!”. وقصد بها مؤامرة ضده، طبعا بمزاح، فعلقت بسرعة: “ماتفهمهاش كده يا ريّس، افهمها من محمد فوزي بس”.
ـ طيب، هذا سؤال محرج قليلا، من هم أكفأ الجنود العرب الذين قاتلوا معك وشدوا إعجابك ؟
كنت أثق في الجنود العراقيين أيام كانوا معي في الجبهة الشرقية “بالمفرق”، وأنا لمدة 15 يوما في الهيلوكوبتر، بين السويس و”المفرق”. وكنت قد سلمتهم قيادة “المفرق” وقاتلوا سنة 1968، 1969 و1970، وهم أكفاء مثلنا، ومؤهلين عسكرياً عن طريق العقيدة الروسية والعقيدة الإنجليزية، وهم الأكثر منا من ناحية الروح العربية.
ـ قاطعته باندهاش: الأكثر منكم ؟!
* أجاب بحماس : أيوه، أيوه … أنا صريح من هذه الناحية، وهم قتلة أكثر منا، وأنا أشبههم بالصعيدي، الذي يقتل ويختبىء في الذرة، ويأكل دشيشة الذرة ويبقى ثلاثة أيام بدون أكل حتى يأخذ بثأره. أنا أريد هذا النوع من الرجال، وأنمّيه للقتال، فهي عجينة رائعة بين يديّ، آخذه ودمه يغلي، لأوجه نحو العدو.
أعود للعراقيين لأقول، لقد كانوا صغار الرتب أيامها: مقدم، وعقيد، ولما ذهبت إلى بغداد أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وجدتهم برتبة فريق وفريق أول، وأسعدني ذلك كثيراً، كثيراً…
العصافرة، الإسكندرية، أغسطس 1991

عبد الناصر، هيكل، الجماهير،
الوفاة، والانقلاب الساداتي
مدير مكتب عبد الناصر للمعلومات: سامي شرف

· تصلني يوميا عشرة آلاف رسالة باسم عبد الناصر
· لم تعط أجهزة الدولة معلومات خاصة لهيكل
· قواعد الاتحاد الاشتراكي كانت رافضة لترشيح السادات رئيساً للجمهورية
· قبل 20 أبريل 1971، لم نكن نعرف مع من كان هيكل، معنا أم مع السادات

– بالنسبة لبيان 20 مارس 1968 ورد فيه أنه سيحصل تغيير شامل في الأسلوب والحكم. فما هي ملامح هذه التغيرات ؟
* نعم جاء فيه ذلك، وأهم شيء مس العمل السياسي. وكان عبد الناصر يقدر أنه في سنة 1975، سيكون هناك تعددية حزبية وبدأ التفكير، تحديدا في أغسطس 1967 في قيام حزبين: واحد يمثله الاتحاد الاشتراكي العربي وحزب آخر معارض.
– هذا الحزب المعارض ما هي أهم سماته؟
* هناك اتفاق على الخط الاستراتيجي العام، ولكن معارض في وسائل التنفيذ وأسلوب التنفيذ.
– هل كانت هناك تسمية معينة لهذا الحزب؟
* كلا، لم تكن هناك أية تسمية.
– الحزب المعارض، سيتشكل من داخل الاتحاد الاشتراكي أم من خارجه؟
* من خارج الاتحاد الاشتراكي طبعا، إذا كان من داخله فالمسألة تصبح مجرد تمثيل، وهذا لم يكن واردا، فالرئيس قال: يمكن أن يعمل علي صبري وعبد المحسن أبو النور حزب معارض، ولكن في هذه الحالة لن يصبحوا حزبا وإنما تيارا لأنهم من الاتحاد الاشتراكي، لكن إذا جاء واحد مثل كمال الدين حسين أو عبد اللطيف بغدادي،- وهما لا ينتميان إلى الاتحاد الاشتراكي ولكنهما ينتميان إلى الثورة وملتزمان بها أدبيا – فيصبح الأمر معقولا، وهذه كانت نقطة الانطلاق، لكن فيما بعد أُجلت هذه الفكرة نتيجة الانغماس في عملية التحرير.
… ولقد كان عبد الناصر جادا في مسار التعددية الحزبية وليس فقط حزبان وخطط لذلك لسنة 1975.
– هل كان الشيوعيون مرشحين لنيل حزب باعتبار قربهم في فترة ما من عبد الناصر ؟
* لا أستطيع أن أتحدث عن التفاصيل، فقط أقول كان المسار يتجه نحو حزبين ثم تعددية حزبية وأي أحد يدعى غير هذا فهو لا يعلم لا يعلم…
– فيما يتعلق بالحركة العربية الواحدة كيف خطرت في ذهن عبد الناصر بعد 1967؟
* الحركة العربية الواحدة لم تفارق ذهن عبد الناصر بتاتا فإيمانه بالقومية العربية ترجمه إلى وحدة مع سوريا، إلى وحدة مع اليمن، إلى علاقات وطيدة جدا مع ليبيا والسودان تمهيدا للوحدة. فهذا الموضوع لم يفارقه أبدا والذي كان يعوق تطلعاته، كان إما المراهقات السياسية أو التطلعات الشخصية الانتهازية من بعض القيادات التقليدية لركوب الموجة… وعبد الناصر كان يرفض ذلك، ويبحث عن القواعد السليمة وهي الأسباب التي دفعته إلى التوجه إلى الشباب واهتمامه بتكوين منظمة شباب، وخلق جيل جديد يؤمن بالوحدة العربية.
– لكن، ألم تلاحظ أن تنظيم فتحي الديب (الطليعة) لم يتمكن من إنشاء الحركة العربية الواحدة جماهيريا؟
* العملية التي تولاها فتحي الديب كانت التمهيد وليس الأساس ومع احترامنا له كصديق وزميل، وهو لسوء حظه وُضع في مكان حرج رغم تأكيدنا على أنه إنسان شريف نقي، وفي الحقيقة عبد الناصر كان يباشر بنفسه تحقيق حلم الحركة العربية الواحدة بغض النظر عن المحيطين به.
– لو توضح لنا هذه النقطة أكثر؟
* طيب، عبد الناصر كان يلتقي بكثير من العاملين في المجال السياسي العربي، ومن خلال هذه اللقاءات كان يشكل مع بعضهم علاقات شخصية مباشرة أو عن طريقي ليكونوا بمثابة النواة للحركة العربية الواحدة وباقي التحركات كانت إما للتغطية أو لاكتشاف عناصر جديدة أو للفرز بينها.
– هذه المجموعات طبعا ناصرية؟
* ضحك عفويا وقال، (أو مال يعني استرالية)!
– فوضحت السؤال أكثر، أعني ربما تكون من حركة القوميين العرب أو غيرهم؟
* والله في الحقيقة كانت هناك عناصر كثيرة ملتقطة من تيارات عاملة في الحقل القومي ولما جاءت فكرة عبد الناصر تشبثوا بها باعتبارها الأصل وهؤلاء كانوا من القوميين العرب ومن بعثيين سوريين وعراقيين، وعناصر تقدمية ماركسية لما فتح لهم عبد الناصر الباب دخلوا جميعا منه.
– أغلب الناصرين الذين تعاملتم معهم كانوا من لبنان ؟
* ليس من لبنان فقط وإنما من جميع أنحاء العالم العربي، وكل حركات التحرر من المغرب العربي تعاملت مع القاهرة، وكل العناصر التقدمية تعلموا أو تدربوا في مصر… وهم من الإمارات واليمن والسعودية…
– الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كانت له مجموعة من مصادر المعلومات البعض يقول أن هيكل له تأثير كبير على الرئيس باعتباره يوفر له كمية هامة من المعلومات؟
* هيكل كان أحد مصادر المعلومات باعتبار عمله الصحفي ووجوده في وضع قيادي في مجال تخصصه. لكن بالنسبة لتدفق المعلومات للرئيس جمال عبد الناصر، فقد كان يتميز بالتنوع وعدم الأحادية حتى لا يصبح أسير جهة واحدة أو جهتين، وبالتالي طبيعة تكوين الرئيس كقائد خطط ونفذ ثورة 23 يوليو 1952 تجعله لا يكتفي بمصدر واحد ولنوضح هذا الكلام فنقول:
إن مصادر المعلومات عند عبد الناصر تنقسم إلى قسمين:
– القسم الأول تشكله المصادر العلنية وتشمل الصحافة، الإذاعات العالمية بمختلف اتجاهاتها، الدوريات، النشرات، الدراسات والكتب، فكل ما هو منشور ومسموع ومرئي كان يسعى للاطلاع عليه.
وتشمل المصادر العلنية أيضا رسائل المواطنين وكانت كثيرا جدا حتى أنها تتعدى في بعض الأحيان، وفي اليوم الواحد عشرة آلاف رسالة. وفي بعض الأحداث التاريخية تصل الأرقام إلى مئات الألوف من الرسائل في اليوم موجهة لجمال عبد الناصر. وهي تأتي من مصريين وعرب ومن أمريكا اللاتينية وأستراليا ومن بلدان أخرى.
مجموعة هذه الرسائل كانت تعطي لجمال عبد الناصر صورة حية نابضة عن مشاعر الجماهير وما تريده.
– أما القسم الثاني من المعلومات فهو المعلومات المغطاة، وهذه المعطيات السرية تصله من الأجهزة المختلفة ومن لقاءات واتصالات شخصية، على سبيل المثال بعض رؤساء الدول يبعثون له بموفودين يتحدثون في مواضيع ذات طابع سري كنوع من أنواع جس النبض أو محاولة معرفة وجهة نظر جمال عبد الناصر. ومن هذه اللقاءات كان الرئيس يتحصل على كم من المعلومات تساعده في اتخاذ القرار المناسب.
إضافة إلى كل ذلك هناك تقارير الوزارات والمؤسسات الرسمية وهي الجهات الخبيرة المطلعة.
استنتاجا لا يمكن القول بأن جمال عبد الناصر يعتمد على مصدر واحد فقط ومحمد حسنين هيكل كان أحد المصادر المنظمة المرتبة.
– ومكتب المعلومات الذي ترأستموه ألم يكتب خطبا لجمال عبد الناصر؟
* حاولنا في مناسبات قليلة، ونحن لسنا حريفين فمال الرئيس إلى محترف. أما واجبنا نحن فهو تجميع المعلومات.
– علمت أنه بعد وفاة الرئيس كنت الوحيد الذي يزور قبره يوميا.
-* نعم، صحيح.
– ليلة 28 سبتمبر 1970، عند وفاة الرئيس جمال عبد الناصر حدث اجتماع لأركان الدولة لبحث مستقبل البلاد. ما الذي دار في هذا الاجتماع؟ وأين كان موقع هيكل في المشهد؟
* بعد الوفاة وإقرارها من قبل الأطباء حصل اجتماع في بيت الرئيس عبد الناصر تحديدا في الصالون التحتي وحضره أنور السادات وحسين الشافعي وعلي صبري وشعراوي جمعه والفريق محمد فوزي ومحمد حسنين هيكل وأنا ولا أتذكر إن كان أمين هويدي حاضرا أم لا. وتم نقاش سريع حيث كنا جميعا مرتبكين وما وقع تناوله كان مجرد رأس الموضوع حول “ماذا بعد”، وبدون تردد وبدون أي نقاش أحادي أو مزايدة اتفقنا جميعا على سيادة الشرعية، ليه؟ حتى يضرب المثل للشعب المصري والأمة العربية وللعالم أن هناك مؤسسات تركها عبد الناصر قادرة في غيابه أن تسير الأمور وفق ما كان يريد.
بعد ذلك اتفقنا على عقد اجتماع مشترك لمجلس الوزراء واللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي في القصر الجمهوري بالقبة وتم الاجتماع وأُبلغ الحاضرون بالوفاة وأقررنا استمرار الشرعية واتفقنا على بيان صاغه هيكل يلقيه أنور السادات ينعى فيه الشعب المصري والأمة العربية في وفاة زعيمها.
– في هذين الاجتماعين ألم يكن لهيكل دور واضح في ترشيح السادات للرئاسة؟
* نحن اتفقنا على الشرعية، وهي تعني أن هناك نائبا للرئيس يتولى الرئاسة والنقاط التي أُثيرت واُختلف فيها أستطيع أن أقول لك أنها لأسباب شخصية. فالمعترض الوحيد كان حسين الشافعي لأسباب شخصية محضة، ونحن قلنا أن نائب الرئيس هو الذي يجب أن يباشر مهام الرئيس. وأُثيرت نقطة دستورية وناقشناها وهي هل يتولى أنور السادات قيادة مصر لغاية إزالة أثار العدوان أو حتى نهاية ولاية الرئيس عبد الناصر.
– هل يمكن أن نعرف من الذي أثار هذه النقطة؟
* الذي أثارها أنور السادات نفسه حيث قال: أريد أن أبقى في هذه الرئاسة حتى إزالة أثار العدوان. وهذا يدل على أن المعركة كانت قريبة جدا فعبد الناصر كان قد عين تاريخا لعبور قناة السويس ولتحرير الأرض العربية وهذا رد على الذين قالوا أن ليس هناك خطة واجتهدوا اجتهادات مغرضة. أما نحن فقلنا له أكمل المدة الرئاسية، وبدأت سلسلة الإجراءات القانونية حيث تجتمع اللجنة التنفيذية العليا وتسمى المرشح، ثم يزكيه مجلس الأمن وفيما بعد تقع الانتخابات. وأعترف أننا هوجمنا جميعا من قواعد الاتحاد الاشتراكي وقالوا “كيف يصبح أنور السادات رئيسا؟”، ويثبت ذلك في محاضر الجلسات مكتوبة ومسجلة في نقاشنا مع قواعدنا. وكانت الشرعية دائما نصب أعيننا.
– عبد الناصر كان يعرف طبيعة وحقيقة أنور السادات، فكيف عينه نائبا لرئيس الجمهورية، وهو ما اعتبره البعض خطأ عبد الناصر الفادح طوال حياته؟
* الموضوع ليس موضوع خطأ أو صواب. في الحقيقة إن مسألة تعيين أنور السادات نائبا لرئيس الجمهورية مسألة خاصة. فأنور السادات كان عضو مجلس قيادة الثورة الوحيد الذي لم يعين في هذا المنصب وعبد الناصر تقيد ببيان 30 مارس 1968 الذي أمر بالتغيير الشامل الكامل، والذي كان عبد الناصر مصرا على تنفيذه، ووفاء منه لزمالة تاريخية عين أنور السادات لرئيس الجمهورية لمدة عام، وذلك لأنه لا يتحصل على الراتب التقاعدي لأي وظيفة إلا بعد سنة من العمل فيها. وقد كان بالنسبة لعبد الناصر مطيعا وأمينا.
– نعود إلى موضوع هيكل، وتحديدا قبل مايو 1971، عندما كتب مقالين أثارا زوبعة كبيرة: مقال (تحية إلى الرجال) و(عبد الناصر ليس أسطورة). كيف واجهت المجموعة الناصرية هذين المقالين؟
* بالنسبة إلينا يمكن تقييمهما موضوعيا كالآتي :
– هيكل، كان في داخله متخوفا من الحرب. هذا الخوف قاده إلى أن يترجم هذا الإحساس إلى تعبير قدمه للرأي العام. والرجل صحفي يكتب، وكان دائما يحذر، ونحن كمؤسسة رئاسة ومؤسسة عسكرية قررنا الحرب، لا يهمنا أن نترك مثل هذا الحديث ينشر، ربما يضلل العدو، لكن ما يهمنا هو أن لا تهتز الروح المعنوية للمقاتل. هنا نقول له: قف لا تتجاوز حدودك. وهذا باختصار ما كان عليه تفكيرنا.
– المقال الثاني المتعلق (بعبد الناصر ليس أسطورة)، اعتقد أن هيكل له الحق وليس له أي حق!
له حق في أن عبد الناصر ليس بأسطورة بمعنى أنه لم يكن آلهة ولا شيئا يعبد. ونسيء إلى عبد الناصر إذا اعتبرناه صنما معبودا… فالرجل كان إنسانا يخطئ ويصيب، ولكن بعض الأخوة أخذوا الموضوع من زاوية عاطفية. فاعتبروا أن هيكل يريد أن يغير جلده. وهذا حقيقة لم يكن صحيحا، وليس دفاعا عنه، وأنا تحدثت معه حول هذا الموضوع في تلك الأيام، وأيضا حديثا جدا (سنة 1991)، وأنا اتفق معه بأن عبد الناصر ليس أسطورة.
– لكن، إلى أي حد يعتقد رجال عبد الناصر بأن هيكل تأثر بتوجيه معين من السادات خاصة في مقال (تحية إلى الرجال) الذي أثار بخاصة الفريق محمد فوزي ؟
* محمد حسنين هيكل رجل يحسب لكل شيء. وطبعا مثلما قلت، كانت علاقته بعبد الناصر علاقة خاصة. وبعد رحيل القائد، لا يمكن أن تكون له مع أي منا علاقة مثل تلك التي كانت مع الراحل لأسباب كثيرة خاصة به وبنا… فعبد الناصر كانت له حساباته. كان قادرا على احتواء الجميع، يقرب هذا، ويبعد ذاك، وكل شيء كان محسوبا.
اعتقد هيكل أنه لن يكون له نفس الموقع والمكانة التي كانت له بعد عبد الناصر، واعتقاده صحيح من الناحية العلمية، ولكن عمليا خطأ، لماذا؟ لأنه أراد أو لم يرد فإنه محسوب على عبد الناصر. يعني لو انقلب عليه، لن يصدقه أحد، فهو لا يستطيع ذلك مطلقا.
واعتقد أنه لو حُسب الأمر على أساس نبقى على علاقة طيبة فيما بيننا لكانت التطورات في طريق آخر.
كذلك، وهذه المسألة نسبية، وهي أن قدرتنا على موازنة الأمور لدى بعضنا حدية، أي يا أبيض أو أسود. ومثال ذلك، فنحن نأخذ منه موقفا حديا، بينما عبد الناصر قد يغض الطرف. وأضيف أن عبد الناصر يستطيع أن يشد هيكل من أذنه بينما يستحيل أن يقبل ذلك منا نحن!!
ولاحظ هيكل خلافات جوهرية على السطح. وتنبأ بأن الصدام سيقع… وهو راهن على الحل السلمي لأنه يؤمن به، وقال يمكن لهؤلاء لو أقدموا على الحل العسكري أن يضروا البلد فهم ليسوا عبد الناصر.
فحساباته قامت على عنصرين: الأول شخصي وهو أين موقعه. وخصوصا أنه يرفض أن يكون وزيرا، وهذا الرفض كان ضد رغبة عبد الناصر، لأنه حينما اختاره للوزارة، كان واعيا باختياره. فقد قال له: “أنت تفلسف هذه المسائل وأنت صحافي خارج عن الدائرة، امسك الوزارة وفلسفها من الداخل وأنت وزير”، ومن هنا أمرني عبد الناصر بأن أذيع قرار تعيين محمد حسنين هيكل في الوزارة على الساعة 12 ظهرا بالإذاعة. وفوجئ هيكل بالقرار. وهذا المثال دليل على أن عبد الناصر هو الذي يحرك هيكل وليس العكس.
– أدقق السؤال أكثر، هذان المقالان، هل اعتقدتم أنتم رجال مايو 1971 أن السادات كان وراء كتابتهما ؟
* لا، هيكل بعد عبد الناصر، أصبح يكتب بفكره الشخصي، فقط يمكن بعد 15 مايو 1971 نسق مع السادات.
– لكن المرحوم علي صبري هاجم بشدة هذين المقالين ؟
* ليس فقط علي صبري، وإنما الجميع. وأيضا ضياء الدين داوود، ولبيب شقير، وعبد المحسن أبو النور وغيرهم…
– لقد ذكر لي الأستاذ محمد فائق أنهم هاجموا هذين المقالين باعتبارهما يمثلان فكر السادات، فكانت شدة انتقادهم موجهة أساسا إلى السادات؟
* هم اتفقوا من حيث لم يتفقوا، يعني لم يجلسوا على طاولة للاتفاق. فهيكل كان خائفا، والسادات اكتشفنا فيما بعد أن له اتصالات خاصة مع الأمريكان وغيرهم…
– نأتي إلى بداية تسارع أحداث مايو 1971. قلنا أن النصف الثاني من أبريل كشف أن مجموعة عبد الناصر تموقعت في جهة، وهيكل في الجهة المقابلة. فكيف بدأ هذا الأخير يعمل للإطاحة بكم؟
* هو اتبع سياسة تخدير تجاه شعراوي جمعه عندما أوهمه بمسألة رئاسة الوزارة. والحقيقة أنني لغاية هذه اللحظة، ومع تقديري لشعراوي كإنسان شريف، ونقي تتلمذ على يد عبد الناصر، لم أستطع أن أفسر لماذا انجرف وراء هيكل وتخديره. فأنا مثلا لم أخدع، ولم أكن أعادي محمد حسنين هيكل. فكنا نتزاور، يزورني أولاده وكذلك أولادي، لكن العمل عمل والسياسة سياسة… لأنه لو حصل حوار بين شعراوي وبيني حول هذا الموضوع لكان من الممكن أن نعالج المشكلة سياسيا فكنا نتنبه إلى ما يحدث، لكن نتيجة لهذا التخدير وقع المحظور.
– إذن، تعتقد أن أهم دور لعبه هيكل في 15 مايو هو تخدير شعراوي جمعه ؟
* حقيقة لم يكن على المسرح سوى شعراوي جمعه. فعلاقته بعلي صبري سيئة وحسين شافعي والفريق فوزي كان أمرهما محسوما كخصوم لهيكل والسادات وهو يعلم أن شعراوي وسامي قريبين من بعض وإلى حد وفاته رفض شعراوي الحديث في هذه النقطة الغامضة ولم أكن أقدر أن أجبره على الكلام.
– نحوصل، فنقول أن أهم دور لهيكل كان في تخدير شعراوي جمعه؟
* وأضيف خلق علاقة مع محمد أحمد صادق ليس من خلال الفريق فوزي طبعا.
– مقاطعا، لو تسمح لي، هل يمكن أن أعرف لماذا هذا العداء الشديد بين هيكل والفريق أول محمد فوزي؟
* لست أدري. أنا لم أطرح هذا الموضوع إلى اليوم مع هيكل ولكن في ذهني أن أحكي معه في هذه المسألة. لا أستطيع أن أعطيك إجابة على هذا السؤال.
أعود إلى موضوع العلاقة مع محمد أحمد صادق، لقد استخدم أحد الصحفيين في جريدة (الأهرام) واسمه عبدو مباشر وكان مراسلا حربيا ومندوب الأهرام في الدوائر العسكرية وكانت علاقته بمحمد صادق قوية حيث يقوم له بدعاية. ولما انتقل الفريق صادق إلى رئاسة الأركان انتقل معه عبدو مباشر ومن خلال هذه العلاقة ربطت الخيوط بين هيكل وصادق ولم نكن نتابعها وبعدما دخلنا السجن عرفنا أن رابطا قويا كان بينهما لكن ما هو حجمه، وإلى أي مدى، هذا ما لم نكن نعرفه.
– محمد حسنين هيكل قال أنه مهندس أحداث مايو 1971، فهل تعتقدون بأنه المهندس الحقيقي لهذه الأحداث؟
* لا، وأعلم أن أحداث مايو 1971، لا اعتبرها صراعا على السلطة وإنما هي صراع بين اتجاهين: اتجاه تقدمي واتجاه رجعي. ولو كنا سياسيين محترفين وتخلصنا من أخلاقنا لانقلبت الصورة تماما بنسبة 180 درجة، وأن السادات لما قضى علينا بسهولة، فقضاؤه لم يأت بنتيجة ضعف وإنما نحن تنازلنا على السلطة بمحض إرادتنا. لقد كنا تيارين متناقضين واحد منهما أخلاقي والآخر متآمر.
– اليوم، ألا تحسون بالندم في تفريطكم في مستقبل مصر؟
* أعترف أن أخلاقياتنا كانت أكثر من اللزوم. وأنا تعلمت منذ عشرين سنة أن السياسية لا يجب أن تكون أخلاقيات مائة بالمائة. وأنا أقول هذا الحديث على لساني دون أن يقتنع به عقلي وقلبي. وأنا أحس بمرارة ليس لفقداني الحكم، فاليوم لو تعطيني الحكم وتثقله ذهبا سأرفض، لأن حكم مصر أمر صعب جدا وقاس وليس سهلا.
– أنتم مسكتم تسجيلات خطيرة جدا مصيرية ضد السادات تبين ارتباطه الوثيق مع الأمريكان وبداية انحرافه، فكيف كان رد فعلكم؟
* لم نعمل انقلابا لأننا لسنا انقلابيين. فنحن حتى ترددنا في المحكمة في إثارة الموضوع وكان ممكن أن نفعل ذلك ونحن مسجونين، على الأقل نبدو أبطالا في المحكمة. ولكن أخلاقياتنا مرة أخرى تحكمت فينا، لم نكن نريد أن نبرز رئيس جمهوريتنا خائنا لوطنه أمام القوات المسلحة التي ستحارب العدو ودار بيننا حوار ونحن في السجن واتفقنا على عدم إثارة هذه النقطة وكان من حقنا أن ندافع عن أنفسنا. تقول لي أنتم هبل، فيه عبط، فيه تخلف، الآن أقول لك نعم… الأخلاق تحكمت فينا.
– لنجرد المسألة، فنقول أن محمد حسنين هيكل ساهم في ضرب رجال عبد الناصر الأقوياء من أجل أن ينفرد بالرجل الضعيف وهو السادات فحاول أن يبقى مع الضعيف وهو القوي حتى تزداد قوته ويزداد تأثيره عليه، لكن يبدو أن السادات كان أقوى من ذلك.
* في الواقع السادات رجل متآمر. فهو لا يريد أن يتعايش مع من عرفه في موقع الضعف، بالدليل أنه ضرب من اعتبرهم أبطالا قوميين مثل عزيز صدقي الذي طرده، ومحمد صادق الذي قال عنه بطلا قوميا أصبح في نظره خائنا وعميلا، كذلك محمد عبد السلام الزيات الذي قال عنه أنه عميل شيوعي، فالسادات متآمر وممثل يجيد التمثيل من صغره كان يريد الدخول إلى عالم التمثيل المسرحي منذ الثلاثينات.
– أثناء فترة حكم عبد الناصر، هل وجد في جهاز الدولة المصرية من حاول عرقلة محمد حسنين هيكل ؟
* هناك فترة من سنة 1952 إلى سنة 1967، وأخرى من 1967 إلى 1970 والثالثة ما بعد 1970.
– في الفترة الأولى مثلا؟
* من سنة 1952 إلى سنة 1967 برز وجود المؤسسة العسكرية لأسباب كثيرة أهمها تأمين الثورة، ولذلك عُين عبد الحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة، والسبب الآخر أن تجربة 23 يوليو 1952 واجهت مؤامرات لا نهاية لها من قبل قوى قوية وعنيفة طوال الوقت. فكانت المؤسسة العسكرية هي التي تحمي البلد حيث يعتبر عمودك الفقري هو القوات المسلحة. واعتبر أن القوة الرجعية كانت غبية في هجومها على الثورة، لأن النتيجة تكون في تقوية المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن بحيث أنهم يقولون اليوم الحكم كان بوليسيا ولم يكن كذلك. فقط من حقي كنظام أن أقاوم التدخل في شؤوني الداخلية، وهو حق مشروع… وبالتالي أي أعمال يومية لا تخلو من بعض التجاوزات، سواء من المؤسسة العسكرية أو من أجهزة الأمن… وهي تجاوزات مرفوضة وغير مبررة، وهيكل بتفكيره الليبرالي وخوفه من العسكر، لم يقبل ويهضم أسلوب العسكر. وطبيعي أن المثقف المدني يخشى عن جهل وليس عن اطلاع طبيعة المجتمع العسكري. فالمجتمع العسكري متكون من أهلي وأهلك، والضابط يخرج بعد الظهر ويعيش حياة عادية بلباسه المدني…

أجري هذا الحديث في أغسطس 1991 في بيت
الأستاذ سامي شرف بمصر الجديدة بالقاهرة.

عن admin

شاهد أيضاً

كتاب الدكتور عبدالخالق فاروق (حقيقة الدعم و أزمة الاقتصاد المصري)

  الدكتور عبدالخالق فاروق من أهم الباحثين الاقتصاديين في مصر وقدم العديد من الأبحاث والكتب …

2 تعليقان

  1. عوني عبد الكريم

    شكرا علي المجهود الرائع وهذا الكتاب ممتاز كنت ابحث عنه من فترة ولكن اين الرابط

  2. عوني عبد الكريم

    شكرا علي المجهود الرائع ولكن اين الرابط؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *