الرئيسية / حوارات ناصرية / جمال عبد الناصر / الاقتصاد السياسى لمصر الناصرية

الاقتصاد السياسى لمصر الناصرية

 

د. طه عبد العليم
فى سياق التعلم الايجابى الضرورى من دروس التاريخ، ومن منظور الاقتصاد السياسى، لا تخفى أهمية القراءة النقدية للتحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى شهدتها مصر فى عهد جمال عبد الناصر. والأمر أن مصر- وإن فى بيئة داخلية واقليمية وعالمية مختلفة جذريا- لا تزال تواجه مشكلات عملية واشكاليات نظرية فى حسم خياراتها الاستراتيجية البديلة. أقصد خيارات مواجهة التحديات التى ترتبت على التحولات الداخلية العميقة، وما ارتبط بها من تحولات فى السياسة الخارجية، فى مصر تحت قيادة زعيم ثورة 23 يوليو 1952. وأركز فى هذا المقال على تحليل مقدمات وتداعيات قرار تأميم قناة السويس، مع التركيز على أسبابه ونتائجه.
وأسجل، أولا، أن قرار تأميم قناة السويس جاء فى سياق نضال الشعب المصرى من أجل الاستقلال الوطنى، وتعزيز دور الدولة فى اقتصاد السوق الموجه لحفز التنمية والتصنيع منذ ثورة 23 يوليو، وسعى الدولة للاستحواذ على عوائد المرور فى قناة السويس لتعبئة الموارد اللازمة لتمويل بناء السد العالى ومشروعات التنمية والتصنيع. وكان العدوان الثلاثى على مصر سندا سياسيا وقانونيا لقرارات التمصير والتأميم واجراءات فرض الحراسة على الشركات المساهمة للدول المعتدية العاملة فى مصر، ونقطة انطلاق توسع قطاع الأعمال المملوك للدولة وزيادة استثماراته. وفى قراءة هذا التاريخ، الذى لا تزال أشباحه تلقى بظلالها حتى الآن، ينبغى الاجابة عن السؤال الجوهرى: هل لا تزال الخيارات الاستراتيجية، التى كشف عنها وقاد إليها قرار تأميم قناة السويس، ممكنة أو منشودة فى ظل التغيرات الجذرية والمعطيات الراهنة فى البيئة العالمية والمحلية والاقليمية؟ أم أن ذلك القرار كان ابن زمانه، وأن الأهداف التى دفعت إليه تغير جذريا الخيارات الاستراتيجية التى بمقدورها حماية ما هو ثابت ومتغير من أهداف ووسائل الأمن القومى المصرى فى بيئة مختلفة جذريا؟.
وثانيا، أن الاجابة عن السؤالين المطروحين أعلاه تفرض ضرورة التحليل المقارن لانجازات واخفاقات دور الدولة وقطاع الأعمال العام فى تنمية وتصنيع مصر المستقلة، بالمقارنة مع دور الرأسمالية المصرية فى تصنيع وتنمية مصر المستعمرة. أقصد التحليل الموضوعى النقدى لدور رأسمالية الدولة فى التنمية والتصنيع، ولقرارات التأميم التى امتدت لاحقا لتشمل نخبة رواد الصناعة الوطنية الحديثة قبل ثورة يوليو 1952. وأقصد التحليل الموضوعى النقدى لتجربة التنمية المستقلة فى مصر الناصرية، وخاصة ما أتاحته العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد السوفيتى السابق وغيره من البلدان الاشتراكية من فرص، بالمقارنة مع ما قد يكون من ضياع للفرص أو خلق للقيود جراء تقليص العلاقات الاقتصادية مع السوق الرأسمالى العالمى وتأميم وتقييد رأس المال الأجنبى العامل فى مصر.
وثالثا، أن جمال عبد الناصر فى توضيحه لحق مصر القانونى فى تأميم قناة السويس- كما وثق محمد حسنين هيكل فى كتابه «ملفات السويس»- أوضح وبحق: إن حق كل دولة مستقلة فى تأميم أى من مواردها الوطنية أو مرافقها العامة حق مسلم به عالميا. وأن قانون تأميم شركة قناة السويس قد نص على دفع تعويض مناسب وعادل الى حملة الاسهم، وجسد بذلك ممارسة صحيحة للسيادة الوطنية وتوافق مع مبادئ القانون الدولى والاصول التى تتبعها الدول. وأضاف أنه لا يمكن المنازعة فى أن الحكومة المصرية تستطيع فى أى وقت أن تسحب الامتياز الذى منحته لشركة قناة السويس اذا ما اقتضت ذلك المصالح الحيوية للبلاد، وبشرط منح تعويض عادل. كما أكد أن شركة القناة المؤممة شركة مصرية خاضعة للقوانين وللسلطان القضائى فى مصر، وأنه لم يكن لها أبداً أىُ شأن بضمان حرية الملاحة فى القناة أو الدفاع عن أمنها، ولم تتمتع أبدا بالأهلية أو السلطة بالاضطلاع بمسئولية من هذا القبيل. وإن مسئولية من هذا القبيل تقع على عاتق مصر، باعتبارها الدولة ذات السيادة، التى تمر عبر أراضيها القناة، وهو وضع منصوص عليه بوضوح فى اتفاقية عام 1888.
ورابعا، أن عبد الناصر قد أصدر قراره- بتأميم شركة قناة السويس وسحب حق الامتياز، الذى منحته مصر لها- فى سياق الصراع من أجل انتزاع استقلال مصر السياسى والاقتصادى، وفى ظروف الصدام مع الغرب. وأما السبب المباشر لتأميم القناة فقد كان قرار البنك الدولى والولايات المتحدة وبريطانيا بسحب عروض تمويل مشروع السد العالى، بذريعة رفض مصر شروط تقديم هذا التمويل. وكانت هذه الشروط انتقاصا جسيما لسيادة مصر، لكن السبب الأهم كان رفض السياسة الخارجية لمصر، وخاصة بعد ابرامها صفقة الأسلحة التشيكية، واعترافها بجمهورية الصين الشعبية، ومقاومتها لإقامة أحلاف غربية بالمنطقة. وكان الهدف الاقتصادى المصرى لتأميم القناة هو توفير التمويل اللازم لتنفيذ مشروع السد العالى، وجاءت هذه القرارات ردا على العدوان الثلاثى وتجميد الأرصدة الاسترلينية المصرية فى لندن، وغير ذلك من العقوبات الاقتصادية التى اتخذتها بريطانيا وفرنسا ضد مصر ردا على تأميم القناة.
وخامسا، أن تأميم قناة السويس تم مقابل تعويض مناسب وعادل لحملة الأسهم، كما بينت دراسات دقيقة موثقة. والأهم، أن العائد الاقتصادى المباشر لتأميم شركة قناة السويس كان كبيرا بالقياس الى حصة مصر فى أرباح الشركة قبل التأميم وقياسا الى الموارد المتاحة آنذاك لمصر. وتكفى الإشارة لأن حصة مصر فى عام 1955 لم تتجاوز نحو 7% فقط من إجمالى دخل شركة قناة السويس، ولم تتعد قيمة التعويضات العادلة للمساهمين، التى قدرت على أساس القيمة السوقية للأسهم، بنحو 28 مليونا وثلاثمائة ألف جنيه، أى نحو 67 % من دخل شركة قناة السويس فى عام 1958. وهكذا، كان دخل الدولة من تأميم قناة السويس اضافة للشركات الأجنبية المهيمنة على الاقتصاد المصرى ركيزة انطلاق مشروعات التصنيع فى إطار برنامج السنوات الخمس للصناعة.
يؤكد تقرير المسح الاقتصادى العالمى، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1964، أن لجوء حكومات كثير من الدول النامية إلى التخطيط القومى قد انبعث أساساً من اليقين بأن الإسراع فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية يتطلب منهجاً فى وضع السياسات أكثر اهتماماً بالأجل الطويل. كما تأكد أيضاً أن قرارات السياسة الجارية لم يعد من الممكن وضعها لمجرد الاستجابة للظروف السائدة وقت اتخاذها، بل يجب أن تسهم هذه القرارات بفاعلية فى إحداث التغيرات الهيكلية والتنظيمية التى تحد مسار التنمية الاقتصادية مستقبلا. وكان اختيار مصر لمبدأ التخطيط كأداة إستراتيجية للتنمية يستند لنفس هذه الاعتبارات إلى حد بعيد.

وأسجل، أولا، أن أول محاولة للتخطيط الاقتصادى فى مصر بدأت بإنشاء المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى عام 1952، وضم مهتمين بالإنتاج القومى ومتخصصين فى قطاعات الإنتاج المختلفة مع عدد من الوزراء وعضو مثل مجلس قيادة الثورة. وقد عهد للمجلس بدراسة واختيار المشروعات التى تؤدى لتنمية الإنتاج القومى فى القطاعات الرئيسية للنشاط الاقتصادى. وشملت مجالات عمل المجلس مشروعات استصلاح الأراضى، وتنويع الإنتاج الزراعى، وتوليد الكهرباء، والبحث عن البترول والتنقيب عن المعادن، ودعم الصناعات القائمة وإقامة صناعات جديدة، وتنمية الصادرات ودراسة طرق التمويل.

وتمثلت مهمة رئيسية للمجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى فى العمل على إقامة قاعدة صناعية قوية. وقد قام المجلس بتنفيذ عدد من مشروعات الصناعة التحويلية والاستخراجية ومشروعات الكهرباء، أهمها مشروع توليد القوى الكهربائية المائية من خزان أسوان ومشروع صناعة السماد فى أسوان. وتجلى الاهتمام المتزايد بالتصنيع بإنشاء أول وزارة مستقلة للصناعة فى عام 1956.

وثانيا، أن أول خطة خمسية للصناعة (1957-1961) فى مصر، قد شملت مشروعات سبق لمجلس الإنتاج أن أقرها أو أوصى بدراستها وتنفيذها. لكنه بينما ركز مجلس الإنتاج اهتمامه الأول على الصناعات الأساسية فإن الجانب الأكبر من المشروعات التى شملتها الخطة تمثلت فى الصناعات المنتجة للسلع الاستهلاكية والصناعات الخفيفة التى تدر عائداً كبيراً وسريعاً فى نفس الوقت. وكانت انجازات هذه الخطة جوهرية فى تنمية القطاع الصناعى، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية الشاملة فى مصر. وعلى الرغم من نجاحات تنفيذ الخطة فإن الآثار الاقتصادية التى نجمت عن العدوان الثلاثى على مصر أدت إلى إدراج نحو 25% من مشروعاتها الصناعية ضمن خطة السنوات الخمس الأولى الشاملة.

فمع بداية عقد الستينيات شرعت مصر- شأنها فى ذلك شأن غالبية الدول النامية- فى اتباع مبدأ التخطيط كأداة إستراتيجية لرسم وتنفيذ الأهداف القومية فى مجالات التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وكان إتباع مصر لسياسة التخطيط الشامل فى يوليو 1960 محصلة لخبرتها فى وضع وتنفيذ برامج التنمية الجزئية والقطاعية خلال الخمسينيات، حيث أصبح التزام الدولة بالتنمية ورغبتها فى إحداث التغير اللازم راسخاً. والأمر أن مرحلة التخطيط الشامل فى مصر، لم تكن تعنى مجرد وسيلة لتحقيق أهداف كمية معينة، ولكن باعتباره وسيلة لتحقيق النمو الاقتصادى السريع والتغيرات الهيكلية.

وثالثا، إن إنشاء وتطور قطاع الأعمال العام كان ركيزة تطور الاقتصاد المخطط أو اقتصاد الأوامر. فقد أدت قوانين التمصير التى صدرت بعد حرب السويس إلى تملك الدولة حصصا كبيرة فى عدد من البنوك وشركات التأمين والشركات التجارية والصناعية، تم تجميعها فى المؤسسة الاقتصادية. وباطراد نمو القطاع العام تم إنشاء مؤسستين قابضتين أخريين هما مؤسسة مصر، ومؤسسة النصر، هذا بالإضافة إلى إنشاء عدد آخر من المؤسسات العامة مثل الهيئة العامة للبترول. وفى يوليو 1961 غيرت قوانين التأميم الوضع كله تماماً، وأصبح القطاع العام هو القوة الاقتصادية الأولى، ورد سيطرة كاملة على معظم أوجه النشاط الاقتصادى.

ولما كانت أهداف الخطة قد حددت لكل قطاع على حدة، فقد رجحت فكرة إنشاء مؤسسات متخصصة لتحل محل المؤسسات العامة القائمة. وفى ديسمبر 1961، تم إنشاء 38 مؤسسة عامة متخصصة، تشرف كل منها على مجموع من الشركات التى تعمل فى مجال واحد من النشاط الاقتصادى، وضمت هذه المؤسسات 367 شركة؛ منها 8 مؤسسات صناعية تابعة لوزارة الصناعة ضمت 166 شركة، وحلت مؤسسة للتعاون الإنتاجى والصناعات الصغيرة محل المؤسسة العامة للتعاون الإنتاجى، كما حلت مؤسسة للبترول محل الهيئة العامة للبترول.

ورابعا، أن ضرورة الاصلاح الاقتصادى وتحرير إدارة قطاع الأعمال العام بتوسيع دور السوق وتأكيد اعتبارات الربحية قد ظهرت مع تفاقم مصاعب تمويل التنمية ومشكلات أداء قطاع الأعمال العام. وهكذا، فى منتصف الستينيات، أى حين اكتملت سيطرة هذا القطاع وهيمنة الدولة على الاقتصاد القومى، عقد مؤتمر الانتاج فى اكتوبر 1965، وشارك فيه جميع رؤساء وحدات القطاع العام تحت رعاية رئيس الوزراء آنذاك زكريا محيى الدين، وطرح المؤتمر توصيات مهمة تطالب بتحرير- وإن جزئيا – للقطاع العام، بل وللاقتصاد القومى. فقد طالب المؤتمر بالاستقلال الإدارى والمالى لوحدات القطاع العام بتوسيع سلطات إدارتها ومحاسبتها بنتائج النشاط، وتخفيف تدخل الدولة فى نشاطها اليومى، وتصحيح النظرة إلى الأرباح فى المجتمع الاشتراكى، والاهتمام بالربحية كمعيار أساسى لتقييم أداء المشروعات العامة، والاهتمام بنوعية العمالة فى القطاع العام، وتقليص أجهزة الرقابة الحكومية، وإضعاف دور غير الفنيين من أعضاء مجالس إدارة الوحدات فى المحاسبة والرقابة، وتأكيد حق الشركات فى وضع تفاصيل اللوائح والنظم.. الخ. كما طالبت التوصيات بدعم التوجه التصديرى لشركات القطاع العام، وخفض القيود على القطاع الخارجى، وخاصة الرقابة على الصادرات الى أسواق العملات الحرة، وإزالة القيود على السفر إلى الخارج. كما دعت التوصيات الى قبول المساهمة الأجنبية لتشغيل الطاقات العاطلة، والاهتمام بمشروع اقامة مناطق حرة، وتشجيع القطاع الخاص المحلى. وقد استجابت الدولة جزئيا لمطالب قيادات قطاع الأعمال العام، وخاصة بتوسيع جزئى لاستقلالية النشاط الجارى لشركات القطاع العام، وأقرت نظام الاستيراد دون تحويل عملة، وشجعت صادرات القطاع الخاص، ووضعت سقفا جديدا للملكية الزراعية فى القانون الثالث للإصلاح الزراعى يقل عن السقف الذى استهدفته من قبل. ودفعت مشكلات تمويل التنمية الى تبنى سياسة اقتصادية تقشفية طوال النصف الثانى من الستينيات، وزادت ضرورات تخفيف الأعباء الاقتصادية للدولة وتشجيع القطاع الخاص جراء الخسائر الاقتصادية وتكاليف مواجهة هزيمة يونيو 1967.
ويبقى سؤال وينبغى الإجابة عنه فى تناول لاحق: ما مدى اقتراب السياسات الداخلية والخارجية فى مصر الناصرية من تحقيق غايات التقدم الشامل بما تتضمنه من تعظيم للكفاءة الاقتصادية وتحقيق للعدالة الاجتماعية وتعزيز للأمن القومى وإعلاء لدولة المواطنة؟
عقب تأميم قناة السويس وردا على العدوان الثلاثى صدرت قرارات التأميم والتمصير فى عامى 1956و1957.ومثلت هذه القرارات نقطة تحول فى تكوين وتوسيع قطاع الأعمال المملوك للدولة؛ سواء بملكية الدولة للمشروعات المؤممة والممصرة، أو بتوفير التمويل للاستثمار الجديد فى هذا القطاع. وقد بلغ دخل الدولة عن طريق تأميم وتمصير رءوس الأموال الانجليزية والفرنسية واليهودية فى الشركات والبنوك مع دخل قناة السويس نحو 35 مليون جنيه فى عام 1958. وقد مثل ذلك المبلغ نحو 124% من اجمالى نصيب الدولة فى اجمالى الاستثمار القومى، ونحو 20% من اجمالى رءوس الأموال المستثمرة فى الصناعة.

 

وأسجل أولا، أن مصر لم تسترد معظم ما يسمى بديون مصر على انجلترا، أو الارصدة الاسترلينية المصرية، أو الاحتياطى النقدى المصرى فى بنك انجلترا، إلا بمقايضتها برءوس الأموال البريطانية التى جرى تأميمها. ولم تكن تلك الديون سوى نهب استعمارى سافر، ترتب على اخطار من (بنك انجلترا)! الى المحافظ (الانجليزى) للبنك الأهلى المصرى (الانجليزى؛ رأسمالا وإدارة) فى 14 أغسطس 1916, وبموافقة الحكومة المصرية بخطاب أرسله مستشارها المالى (الانجليزى)! بأن يكون إصدار البنكنوت المصرى مضمونا بأذونات الخزانة البريطانية بدلا من الذهب!! وعلى أساس القرار المذكور قام البنك الأهلى المصرى بموجب تعليمات من بنك انجلترا! بإصدار ما يلزم من الجنيهات المصرية- لتغطية نفقات القوات البريطانية وغيرها من قوات الحلفاء خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية- مقابل أذونات خزانة بريطانية تحتفظ بها السلطات النقدية البريطانية فى لندن لحساب مصر! وقد تراكمت الديون المصرية على بريطانيا, وهى الديون التى تمثلت دفتريا فى أرصدة استرلينية مملوكة لمصر بلغت نحو 575 مليون جنيه استرلينى خلال الحربين العالميتين فقط. وبقيت الأرصدة مملوكة دفتريا لمصر ومحتجزة فعليا لدى بنك انجلترا، رغم الحاجة الملحة لتوظيفها فى تمويل النهوض الصناعى الوطنى عقب الحربين. ولحقت بمصر خسائر مالية جسيمة نتيجة شروط بريطانيا للافراج عن قسم من الأرصدة بعد الحرب العالمية الثانية, اضافة الى خسائر الفرق بين القيمة الحقيقية للسلع والخدمات وقت تقديمها وقيمتها النقدية عند السداد الفعلى.

وثانيا، أن أهمية تمصير البنوك تتضح ليس فقط من دورها فى تحويل المدخرات المصرية الى الخارج على حساب احتياجات الاستثمار فى التنمية والتصنيع، وانما أيضا فى دورها السلبى الذى لعبته فى حرب السويس؛ حين وظفت سيطرتها لتشديد الضغوط الاقتصادية على مصر. وكانت البنوك التى خضعت لقرارات التمصير والحراسة تسيطر على نحو 54% من اجمالى ودائع جميع البنوك التجارية فى عامى 1955 و1956. وكما أشارت نشرة البنك الصناعى فى عام 1957، فان السياسة الائتمانية للبنوك الأجنبية قد حابت الأجانب؛ فأقرضت بغير ضمانات على حساب المصريين، وشجعت تمويل التجارة مع بلدان معينة، وركزت على الاستثمارات القصيرة الأجل، واقراض بعضها البعض، وبلغت حصتها نحو 45.9% من الاستثمارات القصيرة الأجل لجميع البنوك التجارية العاملة بمصر، ونال الأجانب نحو 72 % منها. وفى المقابل لم تتعد استثماراتها شاملة أسهم وسندات الشركات نحو 29% من اجمالى الاستثمارات الطويلة الأجل فى مصر، نال الأجانب نحو 72 % منها، وانفرد بنك مصر بنحو 94 % من اجمالى نصيب جميع البنوك التجارية فى جميع الشركات المساهمة الصناعية فى عام 1956. أضف الى هذا، أن بنك مصر قد انفرد فى ذات العام بنحو 72 % من جميع الاستثمارات المصرفية الطويلة الأجل فى مصر بدون حساب حصته فى سندات الدولة. وبتمصير البنوك تمكنت مصر من تعديل السياسة الائتمانية للبنوك، بحيث تستجيب لمتطلبات التصنيع.

وثالثا، أن دخل مصر من التأميم وفَر فرصة تنفيذ مشروعات اقتصادية كبرى فى مقدمتها السد العالى، بجانب ما بادرت الدولة باقامته بالمشاركة مع القطاع الخاص فى اطار المجلس الدائم لتنمية الانتاج القومى الذى بعد شهور من ثورة يوليو وقبل أيام من صدور قانون التمصير رقم 20 لسنة 1957 اتخذ قرارًآ بانشاء المؤسسة الاقتصادية، وانتقل اليها نصيب الدولة فى الشركات المساهمة الأجنبية. وقد أنيطت بالمؤسسة مسئولية استثمار أموال الدولة فى الصناعة وغيرها من فروع الاقتصاد؛ سواء عبر التأسيس أو المشاركة أو التوسع. ومع التمصير لم يسمح لأى مساهم بامتلاك ما يزيد على 5% من اسهم أى شركة، فاحتفظت المؤسسة بحصة مسيطرة من الاسهم فى جميع الشركات المهمة. وبالاضافة لاستحواذها على حصة ما سمى بالأعداء فى20 شركة وبنكا، امتلكت معظم رأس المال فى 19 شركة وبنكا. وقد سجل الدكتور اسماعيل صبرى عبدالله فى كتابه عن تنظيم القطاع العام: أن تمثيل المؤسسة فى مجالس ادارة الشركات التابعة كان لابد ان يتناسب مع حصتها فى رءوس الأموال، وكان كافيا استحواذ أى رأسمالى على 15% كى يسيطر على الشركة وادارتها. وربما كان هذا النقد تبريرا لقوانين التأميم الاشتراكية فى بداية الستينيات، التى دشنت التحول من اقتصاد السوق الموجه الى التوجه الاشتراكى.

وخامسا، أن المؤسسة الاقتصادية قد ضمت 52 شركة صناعية بلغت رءوس اموالها الاجمالية نحو 68% من اجمالى رءوس أموال التى امتلكتها فى جميع فروع الاقتصاد، فى نهاية 1958، وتراوحت حصة المؤسسة بين نحو 39% و79 % فى الشركات الصناعية. ومع نهاية 1960 أضحت تضم 64 شركة استحوذت الشركات الصناعية 80 % على رءوس أموالها، ومثَل رأس مال الأخيرة نحو 47% من اجمالى رءوس الأموال الشركات المساهمة الصناعية فى مصر. وقد تضاعفت الاستثمارات الجديدة للمؤسسة بنحو أربع مرات فى عام 1959 مقارنة بعام 1957، ونالت الصناعة 70 % من اجمالى الاستثمارات الجديدة، ومنها مشاركتها فى تأسيس خمس شركات فى الصناعة التحويلية. وقد عملت المؤسسة على مواصلة تطوير الصناعات الثقيلة التى تأسست بمشاركة الدولة بعد عام 1952، وامتد نشاطها ليشمل جميع الفروع الصناعية، ومنها تأسيس الشركة العامة للبترول، التى مثلت أول شركة وطنية فى صناعة استخراج النفط.

وقد اتسع نطاق التأميم فى بداية الستينيات ليشمل الرأسمالية المصرية، وعبر التأميم والاستثمار الجديد فى برنامج السنوات الخمس للصناعة، ثم فى الخطة الخمسية الأولى وبرامج الاستثمار العام بعدها صار القطاع العام مهيمنا على الاقتصاد القومى فى بداية السبعينيات

كان اعلان الاتحاد السوفيتى السابق استعداده لتقديم المساعدة الكاملة لمصر فى بناء سد اسوان العالى بمثابة نقطة التحول الرئيسية وبداية تغيير تاريخى فى هيكل العلاقات الاقتصادية الخارجية لمصر، وفى توفير قوة الدفع للتوجه نحو خيار استراتيجية التنمية المستقلة. وتلخص تجربة مصر الناصرية فى التصنيع المستقل، أهم المنجزات والاخفاقات التى واجهت أهم محاولة للتنمية المستقلة عربيا، وواحدة من أهم تلك التجارب على الصعيد العالمى.
وأسجل، أولا، أن تجربة مصر الناصرية للتنمية المستقلة ارتكزت، من حيث التوجه الخارجى، الى انهاء سيطرة رأس المال الأجنبى، واستراتيجية التصنيع لاحلال الواردات، وتقليص الارتباط بالسوق الرأسمالى العالمى، وتوسيع الروابط الاقتصادية مع الدول الاشتراكية. وأما من حيث التوجه الداخلى، فقد ارتكزت الى الادارة المركزية البيروقراطية ذات التوجه الاشتراكى للاقتصاد، واضعاف مراكز سيطرة رأس المال الخاص الوطنى فى الاقتصاد القومى عبر التأميم والحراسة، وتحقيق سيطرة قطاع الأعمال العام، الى جانب السياسة الاقتصادية للدولة وبرامج الاستثمار القومى الواسعة خاصة فى الصناعة التحويلية. وقد توافرت شروط أكثر مواتاة للتصنيع بقيادة القطاع العام نتيجة سيطرة الدولة على النشاط المصرفى والتجارة الخارجية والنقد الأجنبى، وصياغة الدولة لسياسات الاسعار والائتمان، بجانب سياسات التجميع والتسويق والائتمان التعاونى فى الزراعة. وشهدت ادارة الاقتصاد ارتقاء أشكال التخطيط الاقتصادى الحكومى من مجرد دراسة جدوى المشروعات (المجلس الدائم للانتاج القومي)، الى صياغة برامج للاستثمار الصناعى (برامج السنوات الخمس للصناعة)، ثم الى وضع خطط التنمية الاقتصادية (الخطة الخمسية الأولي).. الخ.
ثانيا، أن تحقيق السيطرة الوطنية على المراكز الرئيسية للاقتصاد، واقامة علاقات اقتصادية خارجية مواتية لدفع التصنيع، وتوفير الشروط المواتية للدور القيادى للقطاع العام فى التصنيع، واعادة صياغة مجمل السياسة الاقتصادية، وغير ذلك من ركائز التصنيع المستقل قد استجاب بدرجات متزايدة لمتطلبات التصنيع.، وسمح اقتصاد التخطيط المركزى، بتحسين شروط تقديم الائتمان واستيراد المستلزمات وتوفير النقد الاجنبى والامداد بالخامات الزراعية… الخ، لمصلحة القطاع العام، الذى قاد عملية التصنيع فى مرحلة صعوده قبل ان تدخل استراتيجية احلال الواردات مأزق تطورها اللاحق فى مصر، كما فى غيرها من البلدان النامية التى عجزت عن التحول فى الوقت المناسب الى التصنيع التصديرى القادر على المنافسة.
ثالثا، أن عمليات تأميم وتمصير المؤسسات الاجنبية خاصة فى مجالات المال والصناعة والتجارة الخارجية، لم يكن لها أن تعنى فى ذاتها انجاز الاستقلال الاقتصادى باعتباره عملية تاريخية طويلة لتغيير البنية الصناعية والاقتصادية، المتخلفة والتابعة الموروثة، من جانب، وبافتراض رشادة وامكانية تحقيق ذلك الهدف فى السوق المصرى الضيق، من جانب آخر. لكن عملية انهاء سيطرة رأس المال الأجنبى مثلت مقدمة ضرورية لتعبئة الموارد الوطنية اللازمة للتصنيع والتنمية، ومكنت من صياغة السياسة الاقتصادية بما استجاب لضرورات التسريع بعملية التصنيع خاصة عبر تنويع العلاقات الاقتصادية الخارجية واضعاف مشروطية توريد الآلات والمعدات والتكنولوجيا الأحدث. وهكذا، أمكن ليس فقط تلقى المساعدة من الاتحاد السوفيتى وغيره من البلدان الاشتراكية فى بناء مؤسسات التصنيع الثقيل.
رابعا، أنه فى اطار القطاع العام الصناعى وفى المراكز الصناعية القديمة والجديدة تزايد عدد العمال الصناعيين، وتعاظم تركز رأس المال والانتاج وقوة العمل، واتسع استخدام الاساليب التكنولوجية الحديثة فى الانتاج، وارتفعت انتاجية العمل فى المؤسسات الصناعية الكبيرة.. كما تأسست صناعة انتاج الحديد والصلب لأول مرة باستخدام الخامات الأولية المحلية بدلا من اعادة تصنيع الخردة، وتم تصنيع العديد من المنتجات الجديدة على أساس الاستخدام الاكثر رشادة للخامات المحلية، وتنامى التخصص وتقسيم العمل داخل الصناعة والاقتصاد، وتوسعت السوق الداخلية. وفى عام 1970/1971، قدمت الصناعات الثقيلة 45% من القيمة المضافة الاجمالية للصناعة التحويلية؛ ويشير بشكل غير مباشر الى أسبقية تطورها تراجع نصيب فروع الصناعات الاستهلاكية (الغذائية والغزل والنسيج) فى القيمة الاجمالية المضافة الصناعة التحويلية. وفى ذات العام بلغ نصيب مؤسسات القطاع العام من العمالة والانتاج فى المؤسسات الصناعية التى يعمل بها عشرة عمال فأكثر 80-90% فى الصناعات الثقيلة، و90-100% فى صناعات الاستخراج والتعدين والحديد والصلب ومعدات النقل والصناعات الهندسية والاليكترونية والصناعات الكيماوية والصناعات البتروكيماوية وتكرير النفط وانتاجه بجانب الطاقة الكهربائية.
خامسا، أن ما تحقق من انجازات فى مجال توسع وتطور الصناعة التحويلية والاستخراجية كان من حيث الاساس ثمرة لبرامج وخطط الاستثمار الطموحة الواسعة التى نفذها القطاع العام، الذى نفذ أهم المشروعات الجديدة فى الفروع الاساسية للصناعة. واذا كان ما سبق يعكس واقع التقدم على طريق التصنيع بالمعنى الضيق؛ أى تطوير الصناعة التحويلية، فان انجازات مهمة تحققت ايضا من منظور التصنيع بالمعنى الواسع؛ أى تطور قطاعات الاقتصاد الأخرى. فقد تمت ازاحة واحدة من أهم العقبات امام تطور الصناعة بمضاعفة انتاج الكهرباء، حيث زاد استهلاك الصناعة للكهرباء بين عام 1952 وعام 1971/1972 بأكثر من 8 مرات، وبلغ نصيب الصناعة 63% من استهلاك الكهرباء المنتجة فى العام الأخير. وقد أنتجت محطة كهرباء السد العالى 53% من كل الطاقة الكهربائية المنتجة فى مصر فى عام 1974. وفى بداية السبعينيات، كان قد تم مد خطوط نقل الكهرباء ذات الضغط العالى 500 كيلووات تساوى 100 % من الخطوط الموجودة آنذاك، لتشغل مصر بذلك المركز الثالث فى العالى بعد الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الامريكية فى استخدام مثل هذه الخطوط.
لكن المشكلات الداخلية والخارجية، الاقتصادية وغير الاقتصادية، التى عرقلت مشروع التصنيع المستقل، تفاقمت منذ منتصف الستينيات؛ سواء بسبب عدم واقعية وعدم رشادة وعدم عملية المشروع ذاته، أو بسبب تعاظم قيود اقتصاد الأوامر وخاصة من زاوية متطلبات تعظيم الكفاءة. وكان العدوان الاسرائيلى فى عام 1967 سببا رئيسيا فى تفاقم مشكلات التصنيع وخاصة تمويله، حيث استهدف ضمن ما استهدف وأد محاولة التصنيع المستقل.
ن الوقائع التاريخية، العنيدة والعصية على التزييف، تؤكد أن إرث ثورة 23 يوليو وتاريخ مصر فى عهد جمال عبد الناصر يستحق قراءة موضوعية نقدية؛ تتجرد من أوهام تُلهم البعض، وتتحرر من أشباح تُؤرق البعض الآخر. وأعلنت وأكرر أن انجازات الثورة وزعيمها تجب إخفاقاتهما؛ سواء من زاوية أن خياراتهما وسياساتهما وإجراءاتهما كانت ابنة زمانها, أو من منظور ما ينبغى لمصر أن تسعى لتحقيقه من أجل المستقبل من قيم التقدم وإن بوسائل متغيرة.

وأسجل، أولا، أن بناء السد العالى وتأميم قناة السويس شاهدان على بؤس نقد منكوبى وأعداء ثورة يوليو وزعيمها، ومعهم مضلَلون تبنوا دون إعمال عقولهم وعيا زائفا كرسه خطاب النقد المغرِض. فبفضل بناء السد تمكنت مصر- لأول مرة فى تاريخها- من كبح أهواء فيضان النيل وتقليص هدر مياهه فى البحر, وتوفرت لها فرصة وضع سياسة مائية لتوفير وترشيد وتنمية وإعادة استخدام حصة مصر من مياه النيل لاستصلاح واستزراع أقصى ما يمكن من أرضها, وبناء قاعدة الطاقة اللازمة للتصنيع والتنمية الشاملة بتوليد أقصى المتاح لإنتاج الكهرباء من المصادر المائية النظيفة والرخيصة، واقامة أول وأحدث شبكة قومية لتوزيع الكهرباء. وبفضل تأميم القناة استردت مصر حقا مغتصبا, ووفرت أهم مصدر وطنى تمويلى للتصنيع والتنمية, واستعادت سيادتها الوطنية، وصفت قاعدة الاحتلال وذريعته.

وثانيا، أن قيادة عبد الناصر لمعارك مصر ضد الاستعمار قد تمادت الى مدى يتجاوز قدرة مصر, وقيود الدعم السوفيتى، فانزلقت الى حرب اليمن التى مهدت الطريق لمؤامرة اصطياد الديك الرومي, فكانت هزيمة 1967. لكنه رغم مرارة الهزيمة وتحت نيران حرب الاستنزاف, تحقق وعد الثورة ببناء جيش وطنى قوي, وهو ما جسده انتصار القوات المسلحة المصرية فى معركة العبور المستحيل العظيم فى أكتوبر 1973. وهو الجيش الوطنى الذى انتصر لإرادة الشعب، فكان أن سقط حكم الفساد المنظم والجشع المنفلت بثورة 25 يناير، ثم انتصر مجددا لإرادة الشعب فسقط حكم الفاشية الاخوانية ومخطط الفوضى الأمريكى بثورة 30 يونيو، وهو الجيش الذى يخوض حربا مريرة ضد الإرهاب التكفيرى ويوجه له ضربات قاصمة لن تتوقف حتى هزيمته دون ريب. وثالثا، أنه فى سياق التوجه الاشتراكى والتصنيع المستقل اكتملت سيطرة القطاع العام بإعلان قرارات يوليو 1961 وما تلاها من قرارات اشتراكية، والتى شملت شركات الأعمال الخاصة المصرية الكبرى فى مجالات المال والتجارة الخارجية والصناعة وغيرها بعد قرارات تأميم وتمصير الشركات والبنوك الأجنبية المهيمنة فى الاقتصاد المصرى، بعد عدوان 1956. وبدور قيادى للقطاع العام فى التصنيع قطعت مصر شوطا حاسما على طريق تحقيق حلم التصنيع, حتى غدت بين اكثر خمسة بلدان نامية تصنيعا فى بداية سبعينيات القرن الماضى. ولنتذكر أن التوجه للتصنيع كان مشروع محمد على ثم طلعت حرب قبل أن يكون مشروع جمال عبد الناصر. ويتناسى خصوم مشروع التصنيع ما سجله صبحى وحيدة فى أصول المسألة المصرية، 1950: يقول: إننا نستطيع أن نزيد إنتاجنا (الصناعي) أضعاف أضعافه؛ فنحن لا ننتج لثلاثة أرباع المصريين؛ الذين لا يكادون يستهلكون إلا ما يصلون اليه من ضروريات لحياتهم المتواضعة. وليس الأمر أمرا تفضيلا بين أن تقوم لدينا مصانع تعطى عملا لمن لا يعمل، وبين ألا تقوم هذه المصانع، ويبقى ملايين لا يعملون! ورابعا، أنه رغم توسع العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الاتحاد السوفيتى والبلدان الاشتراكية، فإن نصيب البلدان الرأسمالية المتقدمة، إلى جانب صندوق النقد الدولى والبنك الدولى للانشاء والتعمير، قد بلغ نحو 48% من جملة القروض والتسهيلات المقدمة الى مصر فى أول يناير 1967، وكانت التجارة الخارجية المصرية مناصفة تقريبا مع البلدان الاشتراكية والبلدان الرأسمالية. وقد ساهمت المساعدات الاقتصادية الغربية فى عملية توسع قطاع الدولة الصناعى فى مصر الناصرية، سواء بتأسيس وتمويل عدد من المشروعات المهمة، أو بتحرير جانب من الموارد المالية المصرية أتيح لهذا التأسيس والتمويل. لكن مصر دفعت ثمن تأميم قطع الطريق على التطور الطبيعى للرأسمالية الصناعية الوطنية ذات التاريخ الأعرق والتقاليد الأرسخ؛ مقارنة بتلك الكورية على سبيل المثال. كما حرمت مصر بسبب تداعيات الصدام مع الغرب من فرص لم تكن معدومة للوصول الى الاستثمار الأجنبى المباشر وفرص الحصول على التكنولوجيا الغربية الأحدث فى الدول الصناعية المتقدمة. وخامسا، أن قصور انجاز مشروع مصر الناصرية للتصنيع المستقل اشتراكى التوجه يتضح من ضعف ارتقاء الهيكل الصناعى بإقامة صناعة إنتاج الآلات، رغم بناء مقدماتها وظهور بداياتها، وتكفلت سياسة الانفتاح اللاحقة بوأد الارتقاء المنشود. ومن ثم لم يدرك مشروع التصنيع تطوره المنطقى والتاريخى بخلق بنية صناعية متكاملة قادرة على أن تؤمن-بالنسبة لقطاع الصناعة ولغيره من القطاعات- النمو الذاتى مرتفع الكفاءة والانتاجية على أقدام وطنية من حيث الإمكانية على الأقل. وحين دخلت استراتيجية إحلال الواردات مأزقها التاريخى لم تتحول مصر الى التصنيع التصديرى التنافسي؛ كما فعلت كوريا الجنوبية مثلا. كما لا يمكن تجاهل تعاظم قيود اقتصاد الأوامر مع استنفاد الفرص الاستثنائية لتعبئة الموارد المتاحة للتراكم الرأسمالى، وتدهور مؤشرات أداء وكفاءة مؤسسات القطاع العام فى مصر كما فى غيرها من بلدان الاشتراكية والتوجه الاشتراكى. أضف الى هذا، تفاقم أزمة تمويل التصنيع بسبب الخسائر التى ترتبت على العدوان الاسرائيلى فى يونيو 1967، وأسبقية الإنفاق لتحرير سيناء على تمويل التنمية. وأخيرا، لنتذكر دوما أن الخيارات الاستراتيجية لمصر الناصرية كانت ابنة زمانها، وشاركتها فيه كثير من البلدان التى تحررت من الاستعمار. لكن البيئة العالمية والاقليمية والمحلية شهدت تغيرات جذرية عقب حرب أكتوبر 1973، وأملت خيارات استراتيجية جديدة، حيث صار محتوما التحول من اقتصاد الأوامر الحمائى الى اقتصاد سوق تنافسى. لكن مصر أخفقت فى ادارة الانفتاح الاقتصادى بما يدفع نحو الارتقاء بالتصنيع، كما فعلت الصين على سبيل المثال. وتجسدت أهم خطايا الانفتاح المصرى هى التخلى عن مشروع التصنيع، ووأد الدور الذى لا غنى عنه للقطاع العام بعد وأد الدور الذى لا غنى عنه للقطاع الخاص، والتفريط فى السيادة الاقتصادية الوطنية بعد الاستغراق فى وهم الاستقلال عن السوق العالمية.

يؤكد تقرير المسح الاقتصادى العالمى، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1964، أن لجوء حكومات كثير من الدول النامية إلى التخطيط القومى قد انبعث أساساً من اليقين بأن الإسراع فى التنمية الاقتصادية والاجتماعية يتطلب منهجاً فى وضع السياسات أكثر اهتماماً بالأجل الطويل. كما تأكد أيضاً أن قرارات السياسة الجارية لم يعد من الممكن وضعها لمجرد الاستجابة للظروف السائدة وقت اتخاذها، بل يجب أن تسهم هذه القرارات بفاعلية فى إحداث التغيرات الهيكلية والتنظيمية التى تحد مسار التنمية الاقتصادية مستقبلا. وكان اختيار مصر لمبدأ التخطيط كأداة إستراتيجية للتنمية يستند لنفس هذه الاعتبارات إلى حد بعيد.

 

وأسجل، أولا، أن أول محاولة للتخطيط الاقتصادى فى مصر بدأت بإنشاء المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى عام 1952، وضم مهتمين بالإنتاج القومى ومتخصصين فى قطاعات الإنتاج المختلفة مع عدد من الوزراء وعضو مثل مجلس قيادة الثورة. وقد عهد للمجلس بدراسة واختيار المشروعات التى تؤدى لتنمية الإنتاج القومى فى القطاعات الرئيسية للنشاط الاقتصادى. وشملت مجالات عمل المجلس مشروعات استصلاح الأراضى، وتنويع الإنتاج الزراعى، وتوليد الكهرباء، والبحث عن البترول والتنقيب عن المعادن، ودعم الصناعات القائمة وإقامة صناعات جديدة، وتنمية الصادرات ودراسة طرق التمويل.

وتمثلت مهمة رئيسية للمجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى فى العمل على إقامة قاعدة صناعية قوية. وقد قام المجلس بتنفيذ عدد من مشروعات الصناعة التحويلية والاستخراجية ومشروعات الكهرباء، أهمها مشروع توليد القوى الكهربائية المائية من خزان أسوان ومشروع صناعة السماد فى أسوان. وتجلى الاهتمام المتزايد بالتصنيع بإنشاء أول وزارة مستقلة للصناعة فى عام 1956.

وثانيا، أن أول خطة خمسية للصناعة (1957-1961) فى مصر، قد شملت مشروعات سبق لمجلس الإنتاج أن أقرها أو أوصى بدراستها وتنفيذها. لكنه بينما ركز مجلس الإنتاج اهتمامه الأول على الصناعات الأساسية فإن الجانب الأكبر من المشروعات التى شملتها الخطة تمثلت فى الصناعات المنتجة للسلع الاستهلاكية والصناعات الخفيفة التى تدر عائداً كبيراً وسريعاً فى نفس الوقت. وكانت انجازات هذه الخطة جوهرية فى تنمية القطاع الصناعى، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية الشاملة فى مصر. وعلى الرغم من نجاحات تنفيذ الخطة فإن الآثار الاقتصادية التى نجمت عن العدوان الثلاثى على مصر أدت إلى إدراج نحو 25% من مشروعاتها الصناعية ضمن خطة السنوات الخمس الأولى الشاملة.

فمع بداية عقد الستينيات شرعت مصر- شأنها فى ذلك شأن غالبية الدول النامية- فى اتباع مبدأ التخطيط كأداة إستراتيجية لرسم وتنفيذ الأهداف القومية فى مجالات التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وكان إتباع مصر لسياسة التخطيط الشامل فى يوليو 1960 محصلة لخبرتها فى وضع وتنفيذ برامج التنمية الجزئية والقطاعية خلال الخمسينيات، حيث أصبح التزام الدولة بالتنمية ورغبتها فى إحداث التغير اللازم راسخاً. والأمر أن مرحلة التخطيط الشامل فى مصر، لم تكن تعنى مجرد وسيلة لتحقيق أهداف كمية معينة، ولكن باعتباره وسيلة لتحقيق النمو الاقتصادى السريع والتغيرات الهيكلية.

وثالثا، إن إنشاء وتطور قطاع الأعمال العام كان ركيزة تطور الاقتصاد المخطط أو اقتصاد الأوامر. فقد أدت قوانين التمصير التى صدرت بعد حرب السويس إلى تملك الدولة حصصا كبيرة فى عدد من البنوك وشركات التأمين والشركات التجارية والصناعية، تم تجميعها فى المؤسسة الاقتصادية. وباطراد نمو القطاع العام تم إنشاء مؤسستين قابضتين أخريين هما مؤسسة مصر، ومؤسسة النصر، هذا بالإضافة إلى إنشاء عدد آخر من المؤسسات العامة مثل الهيئة العامة للبترول. وفى يوليو 1961 غيرت قوانين التأميم الوضع كله تماماً، وأصبح القطاع العام هو القوة الاقتصادية الأولى، ورد سيطرة كاملة على معظم أوجه النشاط الاقتصادى.

ولما كانت أهداف الخطة قد حددت لكل قطاع على حدة، فقد رجحت فكرة إنشاء مؤسسات متخصصة لتحل محل المؤسسات العامة القائمة. وفى ديسمبر 1961، تم إنشاء 38 مؤسسة عامة متخصصة، تشرف كل منها على مجموع من الشركات التى تعمل فى مجال واحد من النشاط الاقتصادى، وضمت هذه المؤسسات 367 شركة؛ منها 8 مؤسسات صناعية تابعة لوزارة الصناعة ضمت 166 شركة، وحلت مؤسسة للتعاون الإنتاجى والصناعات الصغيرة محل المؤسسة العامة للتعاون الإنتاجى، كما حلت مؤسسة للبترول محل الهيئة العامة للبترول.

ورابعا، أن ضرورة الاصلاح الاقتصادى وتحرير إدارة قطاع الأعمال العام بتوسيع دور السوق وتأكيد اعتبارات الربحية قد ظهرت مع تفاقم مصاعب تمويل التنمية ومشكلات أداء قطاع الأعمال العام. وهكذا، فى منتصف الستينيات، أى حين اكتملت سيطرة هذا القطاع وهيمنة الدولة على الاقتصاد القومى، عقد مؤتمر الانتاج فى اكتوبر 1965، وشارك فيه جميع رؤساء وحدات القطاع العام تحت رعاية رئيس الوزراء آنذاك زكريا محيى الدين، وطرح المؤتمر توصيات مهمة تطالب بتحرير- وإن جزئيا – للقطاع العام، بل وللاقتصاد القومى. فقد طالب المؤتمر بالاستقلال الإدارى والمالى لوحدات القطاع العام بتوسيع سلطات إدارتها ومحاسبتها بنتائج النشاط، وتخفيف تدخل الدولة فى نشاطها اليومى، وتصحيح النظرة إلى الأرباح فى المجتمع الاشتراكى، والاهتمام بالربحية كمعيار أساسى لتقييم أداء المشروعات العامة، والاهتمام بنوعية العمالة فى القطاع العام، وتقليص أجهزة الرقابة الحكومية، وإضعاف دور غير الفنيين من أعضاء مجالس إدارة الوحدات فى المحاسبة والرقابة، وتأكيد حق الشركات فى وضع تفاصيل اللوائح والنظم.. الخ. كما طالبت التوصيات بدعم التوجه التصديرى لشركات القطاع العام، وخفض القيود على القطاع الخارجى، وخاصة الرقابة على الصادرات الى أسواق العملات الحرة، وإزالة القيود على السفر إلى الخارج. كما دعت التوصيات الى قبول المساهمة الأجنبية لتشغيل الطاقات العاطلة، والاهتمام بمشروع اقامة مناطق حرة، وتشجيع القطاع الخاص المحلى. وقد استجابت الدولة جزئيا لمطالب قيادات قطاع الأعمال العام، وخاصة بتوسيع جزئى لاستقلالية النشاط الجارى لشركات القطاع العام، وأقرت نظام الاستيراد دون تحويل عملة، وشجعت صادرات القطاع الخاص، ووضعت سقفا جديدا للملكية الزراعية فى القانون الثالث للإصلاح الزراعى يقل عن السقف الذى استهدفته من قبل. ودفعت مشكلات تمويل التنمية الى تبنى سياسة اقتصادية تقشفية طوال النصف الثانى من الستينيات، وزادت ضرورات تخفيف الأعباء الاقتصادية للدولة وتشجيع القطاع الخاص جراء الخسائر الاقتصادية وتكاليف مواجهة هزيمة يونيو 1967.

 

.

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول إذاعة ونشر رد «عبدالناصر» على خطاب الرئيس العراقى أحمد حسن البكر

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول …

تعليق واحد

  1. مقالة عظيمة ولكن المشكلة إن اللغة اللى مكتوب بيها المقال لا يفهمها سوى الناس اللى فاهمين كل ده كويس; حتى لو كانوا موتورين أو كارهين لعبدالناصر ولثورة يوليو ككل ولكن فى الآخر معظمهم بيحجموا عن الإفصاح عن كراهيتهم لها لاعتبارات كتيرة أما الموتورين واللى واجب يتوجه لهم الكلام فلزاماً أن يُكتب لهم بلغة أبسط من كده بكتير.. أنا باناشد المثقفين من أمثال الدكتور طه إنهم يراعوا فى كتاباتهم إن معظم المصريين لا يقرأون فالأولى إن اللى يكتبلهم يكتب بلغة مبسطة وياريت يترفع رموز البلد ومثقفيها عن تأييد أنظمة كامب ديفيد علشان كلامهم يبقى له مصداقية عند العامة, إنما يكتبوا عن عبدالناصر وعصره ومصره وستيناته ثم يؤيدوا أنظمة إنقلبت عليها فذلك مما يضرب مصداقيتهم فى مقتل ويدفع العامة لعدم تصديقهم حتى وإن كتبوا بلغة سهلة ومفهومة.. رسالة من مواطنة مصرية مع كامل احترامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *