أخبار عاجلة
الرئيسية / كتب و دراسات / مقدمة في الحضارة العربية الإسلامية

مقدمة في الحضارة العربية الإسلامية

 [1]: جاهلية العصر الكلاسيكي

  • 0
مقدمة في الحضارة العربية الإسلامية [1]: جاهلية العصر الكلاسيكي
يذكّرنا غوتاس بتطور مهم، هو صعود الكنيسة وتحالفها مع النخبة الرومانية الجديدة في بيزنطة

كتب أستاذ الدراسات العربية والهيلينية في جامعة «ييل»، ديميتري غوتاس، العام 1998 أنه خلال أكثر من 200 عام (750م – 950م) على أقل تقدير تُرجمت في بغداد الأغلبية الساحقة من الأعمال العلمية والفلسفية للعصر الكلاسيكي (500ق. م –300م). هنا إذا أردتَ أن تدرك حجم هذا الإنجاز التاريخي، فما عليك إلا أن تعرف أن الأعمال الكاملة لجالينوس، والتعليقات اليونانية على فلسفة أرسطو (طبعة أكاديمية برلين)، التي كان مجموعها حوالى 74 مجلّداً ضخماً ما هي إلا جزء صغير من هذا التراث المترجم، ما يفترض به أن يجعل العربية بحق اللغة الثانية في الأهمية في حقل الدراسات الكلاسيكية للحضارة الغريكو-رومانية بعد اليونانية مباشرة، ومتفوّقة على اللاتينية، لكن مع الأسف هذا لم يحدث، لكون هذا الحقل كما أظهر مارتن برنال شديد النخبوية والمحافظة والعنصرية أيضاً (Gutas: 1998, P1,2 &5).

 

كما هو معروف، سيكون لهذا التراث المترجم دور محوري في ظهور الحضارة العربية الإسلامية، لكن هناك أسئلة تُطرح هنا: ما الذي جذب أو دفع العرب المسلمين ـــ وهم من ثقافة توصف بالصحراوية ـــ إلى ترجمة هذ التراث العلمي الصعب؟ ولماذا لم تتحقق نهضة كهذه للفرس الساسانيين (224–651م) قبلهم؟ وهل حصلت ولم تصلنا أخبارها؟ سيعتمد هذا المقال على أعمال الباحث اللبناني اللامع من جامعة كولومبيا والمتخصص بتاريخ العلوم الإسلامية جورج صليبا، لمحاولة الإجابة عن هذه التساؤلات. لأنه، في رأيي المتواضع، لم يقدم باحث عربي مساهمة نقدية لفهم الحضارة العربية الإسلامية وعلى مدى العقدين أو الثلاثة الأخيرة، كما فعل صليبا رغم قلة كتاباته.

العرب خلفاء الإسكندر؟
يتّفق صليبا ضمنياً مع اعتقاد غوتاس بأن الجواب يكمن في الإنجاز الأهم للفتوحات العربية، وهو حقيقة إحياء إمبراطورية الإسكندر الأكبر (الممتدة من مصر إلى كشمير)، وجمع ثقافات وشعوب متنوّعة تحت مظلّة واحدة، وهو الأمر الذي عجز الساسانيون والبارثيون والرومان والبيزنطيون عن تحقيقه. وهذا قد منح العرب فرصة ذهبية لاستيعاب أفكار وعلوم هذه الأمم ومزجها بعضها ببعض؛ فكانت ثمرتها الحضارة العربية الإسلامية. لكن صليبا يجادل إنه وان كان هذا صحيحا، فهو ليس كافياً كتفسير، ويوضح أن الاحتكاك الثقافي والاختلاط الاجتماعي وحده لا يصنع ثورة علمية وحضارة مركبة، لأن العلوم لا تترجم ولا تنتقل إلا إذا كان هناك حاجة داخلية لدى المجتمع العربي الناشئ إلى بذل هذه الجهود والاستثمار في نقل العلوم. فما كانت حاجة العرب إلى العلوم، وكيف تولدت؟
سنعرض في هذا الجزء مسألتين: الأولى هي السردية التاريخية الشائعة عن حضارتنا، التي تسرّبت إلى الثقافة الشعبية في القرن الأخير ويتناقلها عادة مثقفو «جيل الهزيمة» وجلّادو الذات «النقديون»، الذين أظهروا استشراقاً غير مسبوق تجاه ذاتهم العربية. أما الثانية، فهي تتطرق إلى حالة العلوم في المنطقة قبل مجيء الإسلام.

الشائع عن تاريخنا
من المقولات الشائعة أن أغلب الفاتحين العرب كانوا أساساً أمة عشائرية بدوية هامشية، بعقيدة دينية بسيطة، ستستعير معظم تصوراتها من محيطها المشرقي الأعرق. فما الذي كان سيجذب أبناء الأعراب والقرّاء (حفظة القرآن) والتجّار إلى هذه العلوم الفلسفية والطبيعية؟ هنا يظهر ابن خلدون لينّبهنا أن الأعراب أبعد الناس عن الصناعة والعلوم التي فهمها المستشرقون الأوائل على أنها تعني العرب جميعاً، ليصبح ابن خلدون من آباء المقولات الاستشراقية وصديق المستشرقين الأثير (مقابلة لجورج صليبا مع صفحة ضفة ثالثة بتاريخ 12/10/2016). أشاع بعض المستشرقين أجواء «تنافسية» قومية ودينية لا معنى لها بين أبناء الحضارة العربية الإسلامية، وهو الفخ الذي وقع فيه العديد من أبناء مجتمعاتنا، وتحمسوا له بسباق القوميات نحو ادّعاء المجد.
تفترض فرضية الاختلاط أو التماس الحضاري بين العرب والفرس والسريان والروم أنه كانت هناك شعوب أرقى حضارياً من شعوب أخرى، لأن لها تقاليد علمية وبحثية أعرق. هنا يظهر العرب كشعب بدويّ محارب ولكنّه قليل الإبداع، تتلمذ على يد المترجمين السريان، بعلوم اليونان، وبزّهم في النهاية الإيرانيون لأن العرب «أعراب». في هذه الرواية، تكون المصادفة التاريخية هي ما مكّن العرب من بناء حضارة علمية متطورة وذلك بفعل الفتح والغزو، بينما كان السريان والفرس أقواماً لديها فضول علمي و«رسالة حضارية» وهي من ثقافات ترعى العلوم وتقدّرها لذاتها. فقاموا على ترجمة التراث العلمي اليوناني العظيم، الذي تناقلوه أباً عن جد و«حفظوه» حتى وصول العرب. بمعنى: لو لم يظهر العرب، لكانت «الحضارة» قد استمرت على أيّ حال، ولعشنا عصراً ذهبياً يونانياً أو سريانياً آخر!
في كل الأحوال، لحق العرب بالركب العلمي أخيراً بعد أن «تتلمذوا» على يد السريان والفرس، وربما الروم، لكن العرب ظلوا، وفق هذا التأريخ، «تلامذة سيئين» بمعنى ما، مقارنة بالأعاجم الذين جاء أغلب العلماء من ملّتهم، كما يذكّرنا مجدداً ابن خلدون. وهو قد فسّر ذلك، وما زال البعض على مذهبه، بأن العرب أمة بدوية كالأتراك! وكأن من كانت له أصول بدوية سيظلّ يحمل «عاهة عقلية متوارثة» لا شفاء منها!
لكنّ الحضارة العربية الإسلامية، ككلّ، بعربها وفرسها وسريانها، تظهر وفق الكثير من أصحاب هذه النظرة كمجرّد ناقلة للعلوم اليونانية وشارحة لها ومعلّقة عليها لا أكثر. فهم لم يضيفوا أموراً جوهرية أو يصحّحوا أخطاء شنيعة فيها إلا في ما ندر. على أي حال، تفترض هذه السردية أنه لو أتاحت الظروف التاريخية لليونانيين أو السريان أو غيرهم الاستمرار مزدهرين فترة أطول، فهم كانوا بالطبع سيصححون استنتاجاتهم العلمية غير الصحيحة، وسيتوصّلون إلى ما اكتشفه العرب المسلمون لاحقاً!
لكن، مجدداً وفق السردية الاستشراقية، هذا «الاستحواذ» العربي للحضارة، عبر الترجمة والنسخ، لم يعمّر طويلاً، إذ سيهزمه ويقضي عليه «الظلاميون المتدينون» أولاً (لأن الدين عدو العلم كما أقنعونا)، وذلك في القرن الـ12 الميلادي، خاصة بعد أن ألّف أبو حامد الغزالي (ت. 1111م) كتابه «تهافت الفلاسفة» ليشنّ هجوماً صاعقاً على الفلسفة والعقلانية. وأجهز المغول على ما تبقى من حضارتنا بسقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258م!

في نقد التاريخ الشائع وفرضية التماس الحضاري
بالرغم من بدائية الملاحظات العلمية مثلا التي جاد بها عرب شبه الجزيرة قبل الإسلام (في الفلك والطب مثلاً)، والتي وصلتنا نقلاً عن المصادر العباسية، يمكن ملاحظة بعض تأثيرات العالم القديم عليهم. لأنه لم تكن تفصل هؤلاء العرب هوة جغرافية شاسعة عن جيرانهم البيزنطيين والساسانيين، وحتى الهنود قبل الإسلام.
العرب لم يكونوا جميعاً من البدو الرحل، فهناك مجتمع حضري في غرب الجزيرة العربي، كمكة ويثرب والطائف، وهناك اليمن والبحرين اللتان كانتا مضرب المثل في الثراء والرخاء المادي. في النهاية، لم تكن شبه الجزيرة معزولة بل متمركزة في قلب العالم القديم، وكان أبناؤها وإخوتهم من عرب العراق والشام يخدمون في جيوش الإمبراطوريات المجاورة ويتاجرون معهم، ويهاجرون ويؤسسون مجتمعات رعوية وزراعية مزدهرة فيها منذ زمن الآشوريين (Hoyland: 2001).

أشاع مستشرقون أجواء «تنافسية» قومية ودينية لا معنى لها بين أبناء الحضارة العربية الإسلامية

لكن لنَعُد أولاً إلى تقسيم غوتاس للتراث العلمي في المنطقة قبل الإسلام، فقد قسّمه إلى أربعة أجزاء: أولاً نصوص علوم العصر الكلاسيكي (500ق. م–300م)، وهي باليونانية بشكل شبه حصري، ومن جهة أخرى لدينا نصوص التراث الفارسي والهندي، ثم التراث السرياني، وأخيراً التراث اليوناني البيزنطي، وهي ظهرت في العصر الكلاسيكي المتأخّر أي بعد عام 300م تقريباً. نصوص علوم العصر الكلاسيكي هذه، أي ما قبل 300 ق م، أي الأقدم، هي العلوم الأكثر تطوّراً لأنها مثلت العصر الذهبي الغريكو-روماني، مثل أعمال أرسطو وإقليدس وجالينوس وأرخميدس… إلخ. هذه العلوم المتقدمة توقفت نصوصها عن التداول منذ بداية القرن الرابع ميلادي في المنطقة والبحر المتوسط.
ما كان متداولاً عند مجيء العرب المسلمين هو نصوص العلوم من الحقبة الكلاسيكية المتأخرة، أي التراثات الثلاثة الأخرى التي سبق ذكرها (البيزنطية، الفارسية-الهندية، والسريانية) التي كتب أغلبها في الحقبة الكلاسيكية المتأخرة (300م حتى 650/700م). علوم الحقبة الكلاسيكية المتأخرة كانت بأغلبها نسخاً مبسّطة، أو ما يمكن أن نسميه «علوماً شعبية» للأعمال اليونانية العظيمة من العصر الذهبي. وهذه التبسيطات قد انتشرت بشرط ألا تتعارض مع تصورات الكنيسة يومها. كانت هذه الأعمال تأخذ شكل أدب الموسوعات أي أنها لم تكن أعمالاً تخصصية عميقة، أو أخذت شكل الشروحات المدرسية الإبتدائية، والتعليقات التعليمية للطلبة غير المتخصصين. يبدو أن أغلب قرائها كانوا من طلبة الكنيسة وبعض الإداريين وهواة العلم والمعرفة (راجع الفصل الذي كتبه صليبا من كتاب A. Y. Al-Hassan: 2001 Vol 4).
ما يهمّنا هنا أن ندرك أن طريق العلوم العليا للعصر الذهبي اليوناني لم يكن ممهداً للعرب في القرنين السابع والثامن ميلادي، وجاهزاً للقطاف، بل على العكس تماماً؛ نظرية التماس الحضاري التبسيطية، أو التملك العربي للعلوم بفعل الغزو، لا تثبتها الوقائع.

التراث الفارسي المفقود
أما النصوص الساسانية الفارسية العلمية (حتى تلك التي تخص تاريخ ملوكهم)، فلم تصل إلينا مباشرة كمصادر أولية سوى بالنزر اليسير، إنما عرفناها عبر نسخها العربية (التي خرجت في القرنين الثامن والتاسع). ولكن ما يميز التراثين الفارسي والسرياني أنهما كانا معرّضين للتأثيرات الثقافية والعلمية الهندية (وربما الصينية). مع الأسف، لم تصلنا رواية «العلماء الساسانيين» فرساً وسرياناً وغيرهم عن أنفسهم وتاريخ علومهم. ما لدينا هو بعض الروايات في التراث العربي الإسلامي تظهر الساسانيين مدينين للتراث العلمي اليوناني الذي حصلوا عليه بفضل الأسرى الروم الذين صادف أن بعضهم كان علماء وأطباء، إضافة إلى هجرة علماء بيزنطة فراراً من القمع الكنسي (راجع حسن الخلف: الانعزاليون الجدد، السنة كتراث وتاريخ 22/5/2016). من الصعب الجزم بحقيقة هذه المزاعم في ظل غياب التراث الفارسي المكتوب. لكن ما قد يعزز فرضية تأخر الساسانيين عن الحضارة اليونانية غياب أي ذكر أيّ عالم أو كتاب من وزن عمالقة الحضارة اليونانية، لا في المصادر اليونانية ولا الأرمنية ولا السريانية المعاصرة لهم، فضلاً عن المصادر العربية الإسلامية. وهذا قد يغرينا بملاحظة أن الإيرانيين لم يحققوا نهضتهم العلمية الكبرى، ولم يبرز منهم عمالقة مثل ابن سينا والطوسي والنيسابوري والخفري… إلا في ظل الحضارة العربية الإسلامية.
على أي حال، يبدو أن علم الفلك العربي الإسلامي سيعتمد في تكوينه في البداية على التراث العلمي الساساني بتراثه الرافديني وروافده الهندية والخراسانية، وقبل أن يشرع علماء حضارتنا في طرح أسئلة أكثر عمقاً وجرأة، فطوروا علم الفلك بشكلٍ كبير عما تسلموه من أساتذتهم الساسانيين (راجع كتاب A. Y. Al-Hassan: 2001 Vol 4). لكن، لماذا تدهورت العلوم في المنطقة في القرن الثالث أصلاً؟ ولماذا لم ينجح الفرس في تطوير العلوم اليونانية وأخذ زمام المبادرة وإطلاق مشروع ترجمة لعلوم أكثر تقدّماً مما في حوزتهم كما فعل العرب فيما بعد؟ ما نعرفه أن الساسانيين استعانوا ببولص الفارسي لترجمة أعمال أرسطو في المنطق إلى الفارسية في القرن السادس الميلادي. بولص قدمته إلينا المصادر السريانية المتأخرة كابن للثقافة السريانية رغم كونه أحد رجال البلاط الفارسي، وهو ما قد يشير إلى أن العلوم الفلسفية اليونانية كانت غريبة على الثقافة الفارسية حتى القرن السادس الميلادي، وهي فترة متأخرة.

الكلاسيكية الجاهلية
يشرح بيتر براون (وهو أحد أكبر المختصين بالعصر الكلاسيكي المتأخر) كيف تحولت المنطقة من التراث الكلاسيكي الهيلنستي إلى ما عرف بثقافة «العصر الكلاسيكي المتأخر» (late antiquity) بعد القرن الثالث الميلادي. يذكر براون أن هذا التحول لم يكن سلبياً بالضرورة في تقاليد كالعمران واللباس والأفكار والعقائد والقوانين وتخطيط المدن، لكن ما هو واضح هو الردة الفكرية والعلمية الكبيرة مع تحولات القرن الرابع الميلادي ودخول المنطقة أزمتها الحضارية الطويلة. يذكرنا غوتاس هنا بتطور مهم هو صعود الكنيسة وتحالفها مع النخبة الرومانية الجديدة في بيزنطة، مقر الإمبراطورية الشرقي. يعزو غوتاس، ومن خلفه جل الأكاديميا الغربية، هزيمة العقلانية ودحر الروح العلمية وحرق المكتبات وإقفال المدارس العلمية وترويع العلماء والقضاء على الثقافة الوثنية إلى المسيحية البيزنطية.
لست أعترض هنا على هذا التفسير، لأنني لم أبحث هذه الظاهرة بجدية، ولكنني لا أكتمكم أنني بمرور الزمن أصبحت أشك في التفسيرات التي تقدمها الأيديولجيا (الليبرو-علمانية) عن تدهور الحضارات وسقوطها. ليس لأن هذه المؤسسات الدينية بريئة من دم العلم والفلاسفة، لكن من الواضح أن هناك الكثير من التبسيط في هذه التفسيرات الثقافوية. بالمناسبة، هناك كتاب صغير ومفيد لجورج طرابيشي حول مصير الفلسفة في بيزنطة هو «مصائر الفلسفة بين الشرق والغرب»، تمكن مراجعته في هذا الإطار.
ولكن لا بأس هنا من أن نعرض حالة التدهور العلمي في بيزنطة قبيل وصول العرب، لمناقشة التراث العلمي البيزنطي، حتى يعرف القارئ معنى الحجة التي نقدمها. ولنبدأ بكوزموس ايراتوسثينيس (ت 550م)، أحد المؤمنين بأن الأرض مسطحة، وأحد المرتدين على مبدأ كروية الأرض الذي ساد في العصر الذهبي اليوناني. لم يكن ايراتوسثينيس أحد كبار مثقفي عصره فحسب، بل كان المثقف الأكثر تمثيلاً لتقاليد بيزنطة ومدرسة أنطاكية تحديداً. جهل ايراتوسثينيس بفكرة كروية الأرض بسبب «التجهيل» القصدي الذي تسببت فيه الكنيسة، وقد يبدو طريفاً أن قورن بمصير عالمة الرياضيات والكاهنة المصرية الشهيرة هيباتيا التي أحرقتها غوغاء الكنيسة سنة 415م، فراحت ضحية صراعات القرن الخامس الميلادي (Saliba: 2007, p259). ظل هذا الإرهاب الكنسي البيزنطي قائماً حتى القرن التاسع الميلادي، حين عانى ليو الرياضي من ترويع طلابه له وترهيبه بمصير يشبه هيباتيا إن هو تمادى في طلب العلوم.
في الحقيقة لم يكن من السهل العثور على هذه النصوص العلمية «وتعاطي الفلسفة» (حتى جاء الفتح العربي وتقلّص نفوذ الكنيسة). وكنتيجة لذلك، صار البحث عن النصوص العلمية القديمة جهداً مكلفاً مادياً ومعنوياً، ولنا في ذلك مثال العالم والمترجم الكبير حنين بن إسحاق (ت 873) (وكان نسطورياً من الحيرة) الذي بذل جهداً خارقاً للحصول على أهم أعمال يونانيي العصر الذهبي سواء في بلادنا أو القسطنطينية، فكان يفشل في كثير من الأحيان أو يوفق بصعوبة شديدة (Saliba: 2007, p259).
من هنا، ربما، جاز وصف المرحلة الكلاسيكية المتأخرة «بـالجاهلية» التي أبدع كتاب وأدباء العصر العباسي في القرن التاسع والعاشر في وصفها حين تناولوا ظروف الجزيرة العربية قبل الإسلام. في تصوري أن هؤلاء الكتّاب لم يكتبوا عن أوضاع أزلية سحيقة، في حين أنهم على الأغلب كانوا يصفون أوضاع الجزيرة العربية في العصر-الأزمة، أي ما بعد القرن الثالث ميلادي. وظروف «الجاهلية» عمّت المنطقة برمتها، وصاحبها تفكك سياسي وتدهور اقتصادي مع استثناءات مثيرة سنتطرق إليها.

الجيوب الحضارية للحقبة الكلاسيكية المتأخرة
هناك فرضية أخرى مشهورة هي أن العلوم استمرت في المنطقة بفضل استمرار بضعة مراكز حضارية وسط «صحراء» الجاهلية التي فرضها انتصار الكنيسة. فجيوب مثل حرّان الوثنية (حافظت على عقيدتها الرافدينية القديمة)، والرها (شمال الرفدين) وأنطاكية (الساحل الشامي)، وقنسرين (قرب حلب)، (من الأراضي البيزنطية)، من ناحية، ونصيبين (شمال الرافدين)، وجنديسابور (في الأهواز من أراضي الساسانيين)، والري (شمال إيران)… كلها ظلت مراكز فكرية نشطة، أي إن هذه المراكز وأهلها السريان والفرس أنقذوا التراث اليوناني وسلموه للفاتحين العرب بعد القرن السابع ميلادي. ويمكن اعتبار دراسة جاك طانيوس عن دور مدرسة قنسرين السريانية بريف حلب في إحياء العلوم الفلسفية والكلامية والمنطق من قبل سكانها السريان، مثالاً لهذا التوجه (Tannous: 2018 & Tannous 2009).
لكن المتخصصين في تاريخ العلوم الإسلامية، كصليبا، يشيرون إلى أن هذه المراكز كحران وأنطاكية وجنديسابور لم تُخرج لنا أي عالم أو فيلسوف متمكّن من التعليق أو شرح أو الاستفادة من التراث العلمي اليوناني للحقبة الذهبية. هذا فضلاً عن عجز علماء هذه الحواضر عن إنتاج علوم بمستوى العلوم العالية لتلك الحقبة، مثلهم مثل معاصريهم الروم والفرس (Saliba: 2007, p6). يبدو أن غالبية ما أنتجته هذه المراكز لا تعدو كونها أعمالاً أولية لرسائل في الطب والفلك والرياضيات وبعض العلوم الأخرى مثل أعمال باولوس الإسكندري ورفاقه. عادة ما تُذكر هذه المراكز «كمدارس» في المصادر العربية المعاصرة، وما يصاحب ذلك من تبجيل وتفخيم من غير أن نفهم ماذا قدمت بالضبط. كان صليبا محقاً حين نبه إلى ضرورة التفريق بين مراكز حضارية تظل حاضرة في تاريخنا وذاكرتنا بفضل تراثها الفني والموسيقي والشعري والعقائدي والأدبي التي كانتها هذه المراكز، وبين كونها مراكز للعلوم الوضعية والفلسفة (Saliba: 2007, p258).

النهضة السريانية وقيمة علومها
على رغم ذلك، ولسبب غير مفهوم، تزايد اهتمام السريان بالتراث العقلي والعلمي اليوناني في القرنين السادس والسابع ميلادي. في «السادس»، كان المجتمع السرياني (وهي تسمية إشكالية سنعود إليها في مقالة منفصلة) ما زال منقسماً بين رعايا ساسانيين ورعايا بيزنطيين. ما يمكن ملاحظته أن الاهتمام الفارسي الساساني بترجمة جزء من الأعمال اليونانية بدأ في القرن نفسه أيضاً، أي إن النخبة الفارسية والسريانية أبدت ذات الاهتمام في ذلك الوقت لسبب غير واضح. أما القرن السابع، فقد توحّد فيه سريان المنطقة عبر تحوّلهم إلى شريحة (أهل ذمة) تحت حكم العرب المسلمين. والمثير أن هذا القرن أصبح «العصر الذهبي» للتراث السرياني العلمي والأدبي بكل صوره بما فيها الترجمات وفق جاك طانيوس (Tannous: 2010).

لا السريان ولا الفرس نقلوا التراث اليوناني المعقد للغتهم قبل العربية، والمشروع الأكبر للترجمة بدأ برعاية العرب

لصليبا بحث مهم في هذا الخصوص، قيّم فيه بعض علوم لأهم رموز التراث السرياني في القرنين السادس والسابع ميلادي، سنتطرق إلى اثنين منهم. الأول هو سرجيس الراسعيني (ت 536م) والثاني هو ساويرا سابوخت الذي يعرف أيضاً بسابوخت النصيبيني (ت 667م). لم يدرك الراسعيني الفتح الإسلامي، بينما أدركه وعاش بظله سابوخت. ينسب إلى سرجيس الراسعيني (ت 536م) أول ترجمة لأعمال أرسطو الفلسفية وجالينوس وآخرين من اليونانية إلى السريانية، الأب سرجيس كان سريانياً من مدينة رأس العين في شمال الرافدين (في القطر السوري)، لكنه تلقى علومه باليونانية في مدرسة الإسكندرية الشهيرة. وللأمانة هنا تعتبر ترجمات سرجيس غزيرة، ولربما كان أهم عالم سرياني في القرن السادس ميلادي، ونَسب إليه لاحقاً ألبير أبونا أعمالاً فلسفية.
لكن، مع الأسف، يرى صليبا أنه رغم الأوصاف المفخمة التي كيلت لسرجيس الراسعيني، فأعماله المهمة بعد تحليلها من المختصين أثبتت أن ملاحظاته وتعليقاته بدائية وتنقصها الدقة، ولا تمت بصلة إلى الأعمال المعقدة للتراث اليوناني في العصر الذهبي اليوناني، التي يستشهد بها من دون أن يثبت أنه فهم ما تقول (Saliba: 2001, p43). يضيف هنا الاختصاصي بالآداب السريانية دانييل كنغ أن علماء هذه الحقبة من سريان ويونان كانوا مشهورين بأسلوبهم الاستعراضي إلى حدّ ما، وما يسمى بالإنكليزية «name dropping»، أي طرح أسماء كبيرة لفلاسفة وعلماء من غير قراءة أعمالهم أو فهمها (Philip Wood (ed): 2013, p61).
سابوخت الذي كان الأكثر إثارة بين علماء السريان الذين تناولهم صليبا، بسبب كتاباته حول الاسطرلاب، ولد بنصيبين في شمال الرافدين أيضاً (تقسمها الحدود السورية التركية حالياً، كضحية أخرى لهزيمة المنطقة للحرب العالمية الأولى). ومن ناحية أخرى تشير أعمال سابوخت أنه قضى وقتاً لا بأس به بالرد على ثقافة عصره المتخلفة، التي تفشت فيها التصورات البابلية الشعبية الخرافية حول علاقة حركة الأجرام بقدر الإنسان، وتفسير كسوف القمر بصورة تنين سماوي يأكله! ما يعني أنه بقي يخوض معارك مواطنه العالم الرافديني برديصان قبل خمسة قرون، ولم يتح له التعمق في العلوم اليونانية العليا في المجال ككتاب المجسطي، بينما لا تجد في النصوص العلمية العربية الإسلامية المعقدة التي ظهرت لاحقاً مثل هذا المعارك، فقد اختفت أو تراجعت بقوة التفسيرات الطفولية البابلية وحلت محلها ثقافة أكثر منطقية (Saliba: 2001, p47)..

خاتمة
يستنتج هنا أنه لا السريان ولا الفرس نقلوا التراث اليوناني المعقد للغتهم أولاً قبل العربية، ولا بد أن المشروع الأكبر للترجمة بدأ برعاية الخلافة الإسلامية عقب الفتوحات. لكن يبقى موضوع التراث السرياني المكتوب موضوعاً شيقاً كحلقة مهمة في تاريخنا، لكننا لا يجب أن نسمح بتسرب نظريات تفوّق «عرقي» «وطائفي» مضمرة لأحداث لم تحدث. من المستغرب أنه لا يبدو أن الفرس الساسانيين أظهروا تفوقًا أو ندّيّة علمية مع خصومهم اليونانيين، ولكن ليس غريباً ألا ينجح السريان في التفوق علمياً على أسيادهم البيزنطيين، لأنه لم يمكن لأب سرياني فقير أو مهمّش في دير ناء أو ولاية بعيدة ـــ ويتبع على الأغلب عقيدة هرطوقية محاربة ومحاصرة بأجواء الإرهاب الأرثوذكسي آنذاك ـــ أن يبدع، بينما يلف الجهل، في الحقبة نفسها، أشقاءه الروم الأكثر قوة وثراءً في الإسكندرية وأنطاكيا والقسطنطينية؟
يعتقد غوتاس أن الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي وفّر عن غير قصد حريات جديدة وجدية للسريان، عبر توحيده الجغرافيا السياسية لمجتمعهم وإلغائه سطوة الكنيسة الرسمية عليهم، فكان القرن السابع سريانياً بامتياز نسبة إلى كمية الآداب التي أُنتجت خلاله. ويذهب غوتاس إلى أبعد من ذلك بخصوص ثقافة النخبة البيزنطية وطبيعتها، مؤكداً أن الثقافة العلمية ما كانت لتتقدم في منطقتنا لولا الفتح العربي الإسلامي، لأن الدوغما المسيحية الأرثوذكسية الحاكمة كانت قد انقلبت على التراث الوثني الهيليني بفلسفته وعلومه وشخصياته ومؤسساته، وخاضت معارك عنيفة للقضاء عليه، فظلت تشعر بمزيج من القلق من تراث هؤلاء «الكفرة» والاحتقار له، بوصفه تراث العدو المهزوم. لذا، كان لا بد من ثورة، أو قوة جديدة، تطيح بعرش النخبة الأرثوذكسية الرومية، وصعود نخبة جديدة لا تملك هذه الحساسيات والفوقية الأرثوذكسية تجاه التراث الهيليني الذي دحرته ودمرته قبل ثلاثة قرون. فكان العباسيون العرب، ونخبتهم «الخراسانية» هم هذه القوة التي تأسست في أرض ساسانية «معادية» للروم، وغريبة تماماً عن النفوذ البيزنطي الأرثوذكسي، هي بغداد (Gutas:1998, p18-19). فهل يمكن أن نستنتج أن الحياة العلمية قد «تحررت» من هيمنة الدوغما المسيحية لمصلحة دوغما إسلامية أكثر تحرراً وكانت تعيش مرحلة طفولتها ولم تتكلس بعد لتقف عائقاً أمام تطور العلم، أم أن القصة أعقد من مسألة تبدل عقائد ومدن ونخب وفرس وعرب؟

مقالة في الحضارة العربية الإسلامية [2]: نهضَة الكَتبة

  • 0
مقالة في الحضارة العربية الإسلامية [2]: نهضَة الكَتبة

حينما شاء الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور أن يبني بغداد في مطلع العصر العباسي، جمع ثلاثة من أهم منجمي عصره سنة 762م لتصميم خريطة أبراج سماوية للمدينة الجديدة. كان هؤلاء المنجمون هم: الفارسي نوبخت الأهوازي (ت 775م) الذي سيتولى أولاده مناصبهم كمنجمين وفلكيين عند الأسرة العباسية للمئة عام اللاحقة، وثانيهم ماشاءالله بن أثرى الفارسي (ت 815م) الذي يعرف أيضاً بميشى بن أثرى اليهودي، وكان خراساني الأصل ممن ولدوا وماتوا في البصرة وترك سمعة فلكية جيدة، فكرّمه الغرب لاحقاً بتسمية فوهة بركان على سطح القمر باسمه، أما ثالثهم، فكان إبراهيم الفزاري (ت 777م) وهو العربي الوحيد بينهم (Saliba: 2007, p15).

 

لدينا ملاحظتان هنا. الأولى هي أن كلّاً من نوبخت وماشاءالله كانا على الأغلب يحملان الثقافة الفارسية والسريانية، وذلك لانحدارهما بالأصل من منطقة الأهواز الآرامية، وهناك احتمال كبير أنهما أيضاً كانا من أسر تتوارث هذه العلوم أو صنعة التنجيم. يتوافق هذا مع السردية الشائعة أن الحضارة العربية الإسلامية قامت على أكتاف سكان المراكز الحضارية النشطة للعصر الكلاسيكي المتأخر كالهلال الخصيب، إيران، مصر… إلخ. الملاحظة الثانية هي أن الخلفية الجيو-سياسية والإثنية لكلا العالمين تتفق مع فرضية ديميتري غوتاس أن الثورة العباسية قامت على عناصر ساسانية معادية أو غريبة عن التجربة البيزنطية الأرثوذكسية، ما يقوّي هذه الفرضية (راجع الجزء الأول).
لكن ماذا عن الفزاري وهو العالم العربي الوحيد بينهم، يتساءل هنا جورج صليبا؟ من أين له هذه المعرفة العلمية المتقدمة وهو العربي الذي يفترض أنه لا ينتمي إلى تراث علمي غني، خاصة أننا نتحدث عن حدث جرى في مطلع العصر العباسي، الذي يفترض أنه أطلق للتو مشاريع الترجمة والنهضة العلمية الإسلامية. كيف لحق الفزاري أن يتعلم ويقف على قدم المساواة مع علماء المجتمع الساساني السابق؟ وماذا لو علمنا أن الفزاري قد اقترن اسمه بعالم آخر هو يعقوب بن طارق (ت 796م ببغداد)، وقد ترجما معاً كتاب السندهند الفلكي من السنسكريتية، واشتركا معاً في تأليف كتاب «طريق الأفلاك»، فضلاً عما نسب إلى الفزاري من تصميم أسطرلاب جديد، وتأليفه كتاب زيج سيعرف باسمه. والزيج هو جداول بيانات وأرقام فلكية لمعرفة حركات الكواكب وسير النجوم ليعينهم على استخراج التقويم السنوي لجمع الخراج (راجع «القاموس المحيط»).
ظهور الفزاري كعربي في هذه الحقبة المبكرة، كعالم ومترجم، لا يتوافق والفكرة السائدة عن سيرورة حضارتنا. لكن الفزاري لم يكن العربي الوحيد في هذه الفترة المبكرة وفق السردية الشائعة، إنما كان هناك عربي آخر هو علي بن زياد التميمي الذي ترجم زيج شهريار من الفارسية للعربية (Saliba: 2007, p16)، فضلاً عن آخرين. إن هذه الأعمال والشخصيات العلمية تشير بوضوح إلى أنه في مطلع العصر العباسي أي منتصف القرن الثامن الميلادي، كان هناك أصلاً طبقة علمية عربية ناضجة ومجرّبة، موروثة من العصر الأموي! يخبرنا صليبا أنه لم يمر سوى أقل من قرن قبل أن تظهر ترجمات دقيقة جداً ومعقدة لأصعب نصين علميين يونانيين، كترجمة الحجاج بن مطر (عاش ببغداد حوالى 830م)، لكتابي «العناصر» لإقليدس و«المجسطي» لبطليموس (انتهى من ترجمة الأخير عام 829م) (Saliba: 2007, p17).
كانت هذه الترجمات أيضاً كاملة ومتطورة وبلغة علمية سليمة ويستحيل تحقيقها بجيل واحد أو اثنين، فمن المؤكد أنه كان هناك طبقات من المترجمين قبل حدوث الثورة العباسية لم تصل أخبارها إلى الجمهور غير المتخصص، فصدق مقولة بداية الثقافة العلمية العربية مع صعود الدولة العباسية. لكن لنعد لسؤالنا السابق: كيف ولماذا اهتم عرب القرن السابع أثناء الحقبة الراشدية والأموية بالعلوم؟ ما دوافعهم وما هي المشاكل التي صادفتهم، فأجبرتهم على طرق دروب العلم؟ لنبدأ بالصلاة.

العصر شرارة العلم
«إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا»، سورة النساء،
«حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ»، سورة البقرة.
تفرض الآيتان على المسلمين إقامة الصلوات في مواعيدها خاصة الوسطى (فسّرها أغلب جمهور المسلمين بصلاة العصر). يقول جورج صليبا إن المجتمع الإسلامي الأول في مكة والمدينة لم يجد صعوبة في تحديد موعد صلاة العصر، حيث كان يحدد وقتها بمعادلة بسيطة وهي قياس ظل الإنسان ليعادل طول قامته، ليمتد الوقت المتاح للصلاة حتى يصل طول ظل قامة الرجل مرتين. لكن ما إن استوطن المسلمون دمشق في القرن السابع الميلادي عقب الفتوحات، واجهوا مشكلة معرفة وقت الصلاة فيها، لأنه في بعض أيام السنة لم يكن الظل يعادل طول القامة، كما في الشتاء حيث يكون الظل طويلاً.
سبّب ذلك حرجاً دينياً وفكرياً لهذا المجتمع الفتي المنتصر حديثاً في الهلال الخصيب. هنا أجبرت الصلاة الوسطى وهي فرض ديني بسيط المسلمين على اللجوء إلى العلم، لاكتشاف معادلة علمية جديدة تسمح لهم بمعرفة أوقات الصلاة بدقة أينما أقاموا وفي كل فصول السنة. المشكلة أن العلوم اليونانية للعصر الذهبي وتلك البيزنطية والساسانية لم تواجه مثل هذه المعضلة العلمية، فما كانت لديها أجوبة جاهزة لها.

علوم الديوان لم تكن لتجيب عن أسئلة المسلمين الأولى بخصوص طريقة حساب تحدد وقت صلاة العصر وسك العملة

من هذه اللحظة المبكرة للدولة الإسلامية، بدأت عجلة الجهد العلمي بالتدحرج، ومن حاجة رجال الدين ودعمهم. يمكن أن نتخيل كيف تكاتفت الجهود من القرن الأول الهجري، بين أهل العلم من عرب وسريان وفرس للبحث في الجغرافيا الرياضية التي فتحت لهم أبواباً علمية تشمل الرياضيات وعلم الفلك وحساب المثلثات والمثلثات الكروية القائمة الزاوية وأساليب جديدة في الإسقاط الرياضي (من محاضرة لجورج صليبا في مكتبة الإسكندرية سنة 2010).
ستتراكم هذه الجهود حتى تُوصلنا إلى العالم العباسي حبش الحاسب (الذي عاش حوالى سنة 850م في بغداد)، والذي طور وظائف جديدة للأسطرلاب في قياس المسافة من مكة لأي نقطة على وجه الأرض، والذي تحول بدوره إلى الأسطرلاب المسطح أو أسطرلاب حبش الذي حدد لهم في النهاية مواعيد الصلاة بدقة (Saliba: 2007, p19). طبعاً المتطلبات الإسلامية لم تقتصر على مسألة تحديد موعد الصلاة بدقة، إنما تعدّتها إلى متطلبات دينية أخرى تحتاج العلم، كتقسيم الإرث، وتحديد نسبة الخراج والضريبة كما يحددها الشرع وهذه كلها تحتاج إلى علوم رياضية وحتى فلكية.
يمكن الاستنتاج مما تقدم أن المجتمع الإسلامي وفقهاءه الأولين أدركوا منذ الوهلة الأولى قيمة العلوم، فلم يقمعوها، بل لمن لا يدري، لقد تطور الأمر حتى خرج أغلب العلماء الطبيعيين من صفوف الفقهاء أنفسهم. بمعنى: لم تأت الحضارة وفق سيناريو حب العلم للعلم أو وفق نظرية أن احتكاك (العرب البرابرة بالفرس المتحضرين) هو من أنشأ هذه الحضارة، أو أن العلم جاء رغم أنف الفقهاء، كما تُصوّر لنا السردية الشائعة!

أول الدنانير
سننتقل إلى خطوة أخرى في مسيرة العرب نحو بناء حضارتهم، إذ تنقل لنا كتب التراث عن حادثة مثيرة دفعت النخبة الحاكمة هذه المرة إلى توظيف العلوم لأغراض استراتيجية، وذلك عندما أدركت الخلافة الإسلامية في عصر عبد الملك بن مروان (685م -705م) في دمشق، أن الكرامة العقائدية واستقلالية الخلافة المالية مرهونة بالدنانير البيزنطية ذات الوزن الذهبي المضبوط، التي تُسك في القسطنطينية، ويتم تداولها بين كل الأمم كأساس للتعامل.
بدأت المشكلة حين رفض الإمبراطور البيزنطي جوستنيان الثاني في فترة حكمه الأولى (685م – 695م) قبول الكتابة الإسلامية الجديدة على صدور الطوامير التي كانت تردهم من مصر. صدور الطوامير هذه كانت صحائف من البردي وكان عليها سابقاً مقولات مسيحية، فأمر عبد الملك بمسحها وكتابة «قل هو الله أحد» وذكر النبي مع التاريخ (يرى صليبا أن البسملة التي كتبها عبد الملك على هذه الصحائف هي التي استفزّت الإمبراطور).
رد الإمبراطور بتهديد الخليفة، إن لم يُزل هذه المقولة، فإنه سينقش على النقد البيزنطي ما لا يسر المسلمين. فهم عبد الملك ضعف الخلافة المالي وانكشافها أمام الروم، فاتّخذ قراراً ثورياً بتعليم المسلمين صنعة صهر الذهب وخلط المعادن لسك دينار عربي بدلاً من استعمال النقد البيزنطي، فكان لهم ذلك (كتاب «الأوائل» لأبو هلال العسكري، ص125). أشرف على هذا المشروع ابن عم الخليفة خالد بن يزيد، الذي كان له ولع في الكيمياء، وتم سك أول نقد إسلامي. يضيف ابن النديم هنا معلومة إضافية هي أن نص ابن يزيد كان أول ما ترجم من اليونانية والقبطية إلى العربية (Saliba: 2007, p45).
لتحليل هذا الحدث يبدو لي أولاً أن الإمبراطور كان محقاً على الأغلب في غضبه، لكن في ذات الوقت كانت خطوة عبد الملك في تلبية احتياجات الدولة العربية الإسلامية وتعلم أسرار خلط المعادن وسك العملة خطوة ثورية، إذ حقّقت للمسلمين استقلالاً مالياً ونقداً موزوناً سيتم تداوله عالمياً، ولم تكن هذه الخطوة يسيرة، فقد استغرق إنجازها قرابة أربعة أعوام (يراجع مقال أنيس الأبيض في صحيفة «الحياة» 8 شباط 2014).

تعريب الدواوين، فتح الفتوح
سيكون تعريب الدواوين الخطوة الكبرى نحو خلق ثقافة علمية عربية، وجاء التعريب من حاجة الخلافة السياسية، حسب سردية ابن النديم (ت 990م)، التي عبر عنها ضمناً. تبدأ القصة من عراق الحجاج بن يوسف الثقفي (694م – 714م)، إذ كان هناك نخبة إدارية فارسية متخصّصة بشؤون الديوان لا تقبل أن ينافسها العرب، فلم يقبلوا نقله إلى العربية، فمتى تعرب الديوان، صار متاحاً لأبناء العرب، وزاحموا به الفرس على آخر موقع قوي لهم في هرم الدولة.
يظهر مدى الاحتكار الفارسي لأعمال الديوان عبر حرص كل من زادان فروخ بن بيري كبير الكتبة، وولده مردناشاه على منع الموظف الفارسي المستعرب صالح بن عبد الرحمن (وكان مولى لبني تميم) المقرب من الحجاج من تنفيذ رغبة الوالي بترجمة الديوان. يظهر من سياق حديث فروخ قوة موقفه إذ تباهى أمام صالح بأن الحجاج غير قادر على التفريط به بقوله: «هو إليّ أحوج مني إليه، لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري» (الفهرست، ص 338)، (Saliba: 2007).
لكن تشاء الظروف أن يقتل زادان فروخ بن بيري في ثورة ابن الأشعث حوالى 704م فكان ذلك خسارة لا تعوض بالنسبة إلى الديوان، فيتدارك الحجاج حراجة الموقف ويأتي بصالح ويحقق معه، ليعترف له الأخير بمؤامرة موظفي الديوان، فيمهله الحجاج وقتاً ليعرّب الديوان. تدخلت طبقة موظفي الديوان الفارسية مرة أخرى وسعت لثني صالح ورشوته بمبلغ هائل، لكن صالح أصر على موقفه، فتم للحجاج ما يريد (Saliba: 2007, p45).
ما أُنجز في العراق انتقل إلى الشام عندما أراد عبد الملك تعريب دواوينها من الرومية (أي اليونانية)، وطلب من كاتبه منصور بن سرجون أن يقوم بالمهمة، فتراخى ابن سرجون وتثاقل حتى مات الخليفة. فتأخر تعريب ديوان الشام حتى عصر هشام بن عبد الملك (724م – 743م)، عندما تطوع أبو ثابت سليمان بن سعد مولى حسين وكان كاتباً عند عبد الملك لتعريبه (Saliba: 2007, p45) (الفهرست، ص 339).

ما هي علوم الديوان؟
بالنسبة إلي لم يشرح أحد أهمية تعريب الديوان كجورج صليبا، إذ كانت تمر بنا هذه الخطوة الهائلة في حضارتنا مرور الكرام، ونرددها كالببغاوات دون أن نعي ما تعني. تعريب الديوان الذي قصده ابن النديم ولم يكن واضحاً فيه هو تعريب ديوان الحساب لا ديوان السجلات الحكومية الذي يحفظ أسماء الجند ومعايشهم، كما يخبرنا الجهشياري (ت 943م ببغداد). ديوان السجلات والمعايش هو الديوان الذي أنشأه عمر بن الخطاب (634م – 644م)، وكان أصلاً بالعربية، أما ديوان الحساب المخصص لوجوه الأموال، فكان بالفارسية (كتاب الوزراء والكتاب للجهشياري: ص38)، (Saliba: 2007).
كان يفترض من ديوان الحساب أن يشرف على حساب الخراج ونسبته، فكان يقوم بعمليات تحتاج مهارات حسابية معيّنة لمسح الأملاك والأراضي العقارية، وإعادة مسحها في حال تحولها لإرث. فضلاً عن حساب الوقت في السنة الشمسية من موظف الديوان لمعرفة متى تُجبى الضرائب، وكان على هذا الموظف أن يلمّ بعلوم الفلك لينسّق بين حسابه للسنة الشمسية والقمرية وهو لم يكن أمراً سهلاً، إضافة إلى واجبه في معرفة كيفية إعادة توزيع العطاء عقب توزيع الإرث، وحفر القنوات، والصفقات التجارية وغيرها.
كل هذا كان عملاً شاقاً ويتطلّب تدريباً وتعلّماً، وشملت عملية تأهيل الإداريين إصدار «كراسات» لتعليم العلوم الابتدائية بالعربية، لهؤلاء الموظفين الجدد أو الكتاب كما كان يطلق عليهم. ورغم فقدان أكثر هذه الكراسات، وصلنا بعضها، مثل كتابي أبو الوفا البوزنجي (ت 998م) المعنون: «فيما يحتاج إليه الكتاب والعمال في علم الحساب» و«فيما يحتاج إليه الصانع من أعمال الهندسة» (Saliba: 2007, p56). ويمكن رؤية نسخة بديعة للكتاب الثاني من 40 ورقة مرفقة بالرسومات والأشكال الهندسية التعليمية باللون الأحمر في مكتبة «أيا صوفيا» في إسطنبول.
وحتى نأخذ فكرة أوضح عن نوعية العلوم والمهارات التي كان يحتاجها موظف الديوان الذي تباهى به زادان فروخ، يرجعنا صليبا إلى كتاب «أدب الكاتب» لابن قتيبة (ت 889م ببغداد) الذي عاصر نهاية مرحلة ترجمة الديوان، إذ يقول عن واجبات موظف الديوان:
«لا بد له مع كتبنا هذه من النظر في الأشكال لمساحة الأرضين، حتى يعرف المثلث القائم الزاوية، والمثلث الحاد، والمثلث المنفرج، ومساقط الأحجار، والمربعات المختلفات، والقسي والمدورات، والعمودين، ويمتحن معرفته بالعمل في الأرضين لا في الدفاتر، فإن المخبر ليس كالمعاين، وكانت العجم تقول (من لم يكن عالما بإجراء المياه، وحفر فرض المشارب وردم المهاوي ومجاري الأيام في الزيادة والنقص، ودوران الشمس ومطالع النجوم وحال القمر في استهلاله وأفعاله، ووزن الموازين، وذرع المثلث والمربع والمختلف الزوايا، ونصب القناطر والجسور والدوالي والنواعير على المياه، وحال أدوات الصنائع ودقائق الكتاب» (ص 12-13).
كما يلاحَظ، انشغل موظفو الديوان والكتاب بخط المؤلفات العلمية العملية، لتنظيم إنتاج الثروة وتوزيعها بعدالة وفق فهمهم ومتطلبات شريعتهم. تطور هذا الأمر وأدى ذلك بموظفي الديوان أنفسهم إلى ابتكار علوم جديدة مثل محمد بن موسى الخوارزمي (ت 850م ببغداد)، الذي وضع علم الجبر والذي قال في مقدمة كتابه «المختصر في حساب الجبر والمقابلة» التالي: «ألّفت من كتاب الجبر والمقابلة كتاباً مختصراً حاصراً للطيف الحساب وجليله لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم وفي مقاسمتهم وأحكامهم وتجارتهم وجميع ما يتعاملون به بينهم من مساحات الأرضين وكري الأنهار والهندسة وغير ذلك من وجوهه وفنونه» (من مقدمة الكتاب).

أزمة تعريب الدواوين 
قبل أن نسترسل، يلاحظ صليبا أن العباسيين المتهمين بأنهم جاؤوا بثورة خراسانية فارسية (750م) لم يعادوا أو يوقفوا عملية التعريب التي أضرت بالنخبة الفارسية، بل فتحوا المزيد من الأبواب لتعريب العلوم ورفع شأن الآداب العربية. للمؤرخ المصري المبدع محمد عبد الحي شعبان رأي طرحه بكتاب نشرته جامعة كمبردج عام 1970، يرى فيه أن النخبة الخراسانية كان الكثير منهم من أبناء وأحفاد الجنود العرب الذين فتحوا خراسان في القرن السابع والثامن.
يقول شعبان إن معظم هؤلاء الخراسانيين انحدر من الكوفة، إذ ألقى بهم الحجاج على الجبهة الشرقية لتوسعتها، الأمر الذي اعتبرته التواريخ الشيعية مؤامرة لإضعاف الكوفة كقاعدة الشيعة الأهم في حينها، بتفريق شبابها على الجبهات. لذا، لم تكن عملية نقلهم هيّنة، إذ بذل الحجاج بن يوسف الثقفي جهداً كبيراً لتوطين هؤلاء هناك وتحويلهم لقوة مقاتلة توسعية للإمبراطورية العربية الواعدة (Shaban: 1970). أياً كان التكوين الإثني لرجال الثورة العباسية، فإن ما حصل أن العباسيين جنوا ثمار ما بدأه قبل خمسة عقود والي العراق القوي الحجاج بن يوسف الثقفي، وخلفاء دمشق عبد الملك بن مروان وابنه هشام.

ما ترتّب عن التعريب
فتحت عملية تعريب الدواوين للمجتمع العربي المسلم وكل من فهم هذه اللغة أبواباً واسعة للتراث العلمي السابق في المنطقة، فتطورت العربية بحكم تحولها من لغة قرآن ومعلّقات شعرية وأساطير وملاحم إلى لغة عملية علمية أي لغة دواوين. ويمكن الآن فقط أن نفهم أفضل كيف نجح مترجمو القرن التاسع الميلادي ممن مروا معنا، كالفزاري ويعقوب بن طارق وعلي بن زياد التميمي والحجاج بن مطر وحنين بن إسحاق وبقية رجال عصر المنصور والرشيد والمأمون، في ترجمة هذه العلوم المعقدة للعصر اليوناني الذهبي بلغة عربية سليمة وناضجة.
لم يكن التعريب ضربة صغيرة للنخبة الساسانية/البيزنطية القديمة بل كان الكابوس الذي حاولوا منعه حتى لا يزاحمهم العرب. يخبرنا الجهشياري أن دهاقنة وكتبة بابل (قصد العراق) راعهم تولي الحجاج أمر العراق، فاجتمعوا عند جميل بن بصبهرى وكان حازماً مقدماً فيهم، وناقشوا موضوع التعريب. فقال لهم جميل: «ما أحسن حالكم إذ لم تبتلوا معه بكاتب منكم، وضرب لهم مثلاً مشهوراً: إن فأساً ألقيت بين الشجر، فقال بعض الشجر لبعض، ما ألقي هذا ها هنا لخير، فقالت لهم شجرة عادية، إن لم يدخل في است هذا عود منكم فلا تخفنه» (كتاب الوزراء والكتاب ص 39-40)، (Saliba: 2007).
قصد جميل أن لا خوف من الحجاج إن لم يخن أحد الكتبة طبقته المهنية فيقبل تعريب الديوان. رغم أن نص الجهشياري يحمل زادان فروخ مسؤولية تعريب الديوان، لكن الكتبة العرب (أو المستعربين) المعاصرين كالإداري الأموي الكبير عبد الحميد الكاتب (قتل في مصر 750م)، وهو من أول من ارتقى بالعربية كتابة يمنح هذا الشرف لصالح بن عبد الرحمن الذي حاولت النخبة الفارسية ثنيه ورشوته حتى لا يعرب الديوان للحلاج، فرفض وقال فيه عبدالحميد الكاتب: «لله در صالح، ما أعظم منته على الكتاب» (فهرست، ابن النديم ص338).

الطفرة الحضارية، نظرية صليبا
بالنسبة إلى العرب حول التعريب عدد كبير من أبنائهم وغيرهم من رجال سيف لقلم (ويلاحظ هنا أن الفتوحات تقريباً توقفت)، لكن هذا لا يعني أنه سيخرج تلقائياً من بين هؤلاء المتعلمين الجدد بعلوم الإدارة، علماء يسبقون عصرهم، لأن علوم الديوان التي تقدم ذكرها لم تكن هي نفسها «العلوم العليا» للعصر اليوناني الذهبي التي كانت قد أُهمل أغلبها، والتي ستُمكن حضارتنا من البناء عليها وتطويرها لعلوم جديدة. كما أن علوم الديوان لم تكن لتجيب عن أسئلة المسلمين الأولى بخصوص إيجاد طريقة حساب فلكية تحدد وقت صلاة العصر، وسك العملة وخلط المعادن.

خلق العرب بدخولهم الديوان منافسة أجبرت النخبة الأعجمية القديمة على الاستثمار بتعليم أبنائهم العلوم العليا اليونانية

يرى صليبا أن المنافسة التي خلقها العرب بدخولهم الديوان، أجبرت النخبة الديوانية الأعجمية القديمة من فرس وروم وسريان على الاستثمار بتعليم أبنائهم العلوم العليا اليونانية، والتخصص بحقول جديدة معقدة ونادرة وذلك ليظلوا مفيدين للدولة، باعتبارها رب العمل الأكبر والأضمن. استثمار موظفي الديوان العرب بالعلوم العليا اليونانية عبر أبنائهم لم يكن متاحاً للجميع في البداية، لأن أغلبهم لا يفقه اليونانية، ولم يكونوا بالضرورة من عِلية قومهم، ولم تحتج علوم الديوان، لتلك العلوم العليا عامة.
أما أبناء النخب الأعجمية، فكان الكثير منهم من أسر غنية أو علمية وديوانية عريقة يتوفر بين صفوفها من يتقن قراءة اليونانية أو السريانية أو الفارسية إن لم يكن أصلاً بعضها لغاتهم الأم. كما أن العودة للعلوم العليا كان حقيقة عمل بفكرة شائعة منذ القرن السادس على الأقل، حين أوصى العالم السرياني سرجيس الراسعيني، بأنه من أراد أن يتعمق في فهم مسألة علمية ما، فما عليه إلا العودة لأمهات الكتب العلمية اليونانية تلك (Saliba: 2007, p60).
أجواء المنافسة البيرقراطية والطبقية تلك بين العرب والفرس والسريان قد تكون السبب بظهور ظاهرة الشعوبية، وهو نفور الأعاجم من العرب، الذي قد يكون أصله المباشر تعريب الدواوين. إن كان هذا صحيحاً، فهذا يعني أن هذه الظاهرة كانت نخبوية ولم تكن حالة شعبية عامة بين القوم، وإنما كانت صراعاً على موارد الدولة. شكلت المنافسة التي بدأت في العصر الأموي لا العباسي، في رأي صليبا، سبباً في تطور العلوم ووسيلة لعودة أبناء النخبة القديمة لقمة الهرم الاجتماعي. وفعلاً عاد أبناء هذه النخبة القديمة وتعزز وضعهم مع انتصار الثورة العباسية، واحتلوا بعد جيلين تقريباً مناصب عليا تفوق مكانة مناصب آبائهم القديمة في الديوان. فبرزت ظاهرة الأسر العلمية الإدارية مثل سلالة بختيشوع الذين ظلوا يتوارثون طبابة البلاط العباسي على مدى قرن، ولدينا أسرة نخبوية أخرى هي أسرة نوبخت الفلكية، وهناك أيضاً أسرة أولاد موسى بن شاكر التي صعدت لتنافس – وهم بالأصل أبناء قاطع طريق خراساني مشهور عهد للمأمون بتربية أبناءه في بلاطه فخرجوا علماء – وهكذا.
الأجواء العلمية التنافسية الحادة على مناصب الدولة وريعها في المجتمع العباسي، هي من سرعت بترجمة النصوص القديمة وتحليلها ونقدها وتعديلها. التفسير والتحليل، ومن ثم النقد والتعديل، معناه إنتاج علوم جديدة، وكما يحدث مع كل تجربة حضارية كبرى، هناك طفرات علمية، فكانت مرحلة الطفرة العلمية العباسية (Saliba: 2007).
لكن كما هو متوقع لم تبقَ العلوم العليا حكراً على أبناء النخبة القديمة، فدخل أبناء العرب والبربر والصقالبة والترك والقشتاليين لدراستها وفهمها والإبداع فيها حالهم حال إخوانهم السريان والفرس والآخرين. وهذا يفسّر ظهور الكندي وجابر بن حيان والزهراوي وابن النفيس وابن الهيثم والفزاري وغيرهم، لكن الطريق لم يكن سهلاً في أجواء المنافسة خاصة ممن انحدر من أصول صنفت كهامشية بلا سند.
لنأخذ مثال المترجم العربي الكبير حنين بن إسحاق (ت 873م ببغداد) كما يروي ابن أبي إصيبعة (ت 1270م بصلخد من أرض الشام)، وهو من طبقة العباد النسطورية المسيحية من مدينة الحيرة. العباد جاء كثير منهم من شرق الجزيرة العربية (البحرين الكبرى)، واشتهر هؤلاء بالتجارة والصيرفة.
وردّ حنين على يوحنا بن ماسويه طبيب الخليفة وأحد أهم الشخصيات العلمية ببغداد طلباً لتعلم الطب. رغم الرابطة المسيحية بين الاثنين، رفض ابن ماسويه تطفّل من هم من أمثال بن إسحاق على عالم الطب، فامتنع عن تعليمه. يرجع ابن أبي أصيبعة ذلك إلى كون الأخير من أبناء الصيارفة. الخلفية التجارية لحنين نفرت ابن ماسويه المنحدر من مدينة جنديسابور الفخورة بتراثها الطبي منه. نهر ابن ماسويه حنيناً لأنه ألح عليه بالأسئلة، فصاح به: «ما لأهل الحيرة ولتعلم الطب؟ صر إلى فلان من قرابتك يهب إليك خمسين درهماً تشتري فيها قفافاً بدرهم.. فإنه أعود عليك من هذه الصناعة، ثم أمر به فأخرج من داره، فخرج حنين باكياً مكروباً» (عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص206)
لم يستسلم حنين رغم شعوره بالإهانة، فاختفى عن الأنظار سنتين أو أكثر، قضاها يدرس اللغة اليونانية في بلاد الروم. ولما عاد، عاد متخفياً حتى أثبت للجميع قدراته اللغوية البارعة كمترجم وناقل محترف للعلوم اليونانية الصعبة إلى العربية، فقدّرته بغداد واشتهر بها وأسس بدوره سلالة طبية إدارية من المترجمين ليبدع وينافس الآخرين.

حضارة عربية إسلامية 
قد تعطينا هذه القصة صورة عن طبيعة المنافسة، فبعد قرنين من الفتح لم يعد مجدياً التركيز على من هو عربي ومن هو أعجمي، لأن المنافسة الطبقية والمهنية كانت بين أبناء الطائفة والإثنية الواحدة. طبقة الكتبة الفرس كانت قوة اجتماعية متماسكة نسبياً أمام الأقلية العربية الحاكمة. لكن التعريب والأسلمة، خلطت الأوراق، وظهرت بتعاقب الأجيال مراكز قوى وعصبيات جديدة، عابرة لخط المواجهة الأول بين ما هو فارسي مجوسي وعربي مسلم وسرياني مسيحي. فولد هناك مجتمع جديد يعرف نفسه أولاً بثقافته الإسلامية التي تحكم أخلاقيات ومسار تطوره العلمي كما رأينا عبر هذا السرد. فرضت اللغة العربية التي طورتها علوم الترجمة من الديوان وما بعده لتصير لغة العلم والأدب من إشبيلية لسمرقند، حتى صار لزاماً على كل عالم إن شاء أن يقرأ آخر النظريات العلمية، أو أن يقرأه العالم آنذاك بأن يكتب بالعربية، كما يفسر جورج صليبا هوية هذه الحضارة. الهوية العربية الإسلامية وحملة لواء هذه الحضارة كما رأينا، من قلبها خرج أبناؤها من مسيحيين ويهود ومجوس، وعجم وعرب ومسلمين وثبّتوا أركانها وعمّروا بنيانها.
يعلمنا جورج صليبا ومن قبله ابن النديم مما تقدم ألا بديل لنا عن الدولة، مشروع الدولة النهضوية المستقلة، سابقاً وحالياً. ويلفت انتباهنا إلى دراسة تاريخنا من زاوية تطور علومها لا التعميمات الأدبية والطائفية لتقييم أهمية تلك الحقب والسلالات. ولنا إلى ذلك عودة.
* كاتب عراقي

عن admin

شاهد أيضاً

كتاب الدكتور عبدالخالق فاروق (حقيقة الدعم و أزمة الاقتصاد المصري)

  الدكتور عبدالخالق فاروق من أهم الباحثين الاقتصاديين في مصر وقدم العديد من الأبحاث والكتب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *