سمير أمين.. رحيل المفكر الاقتصادي المصري البارز
توفي، الأحد، في فرنسا المفكر المصري سمير أمين، أحد أبرز دارسي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العالمية.
وأكد حزب التجمع المصري اليساري نبأ وفاة أمين الذي عاش سنواته الأخيرة في العاصمة السنغالية داكار، عن عمر يناهز 87 عاما.
ونعت وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم الراحل، ووصفته بـ”أحد المفكرين العظماء الذي أثرى مجاله بإنجازات ستظل علامات مضيئة في التاريخ”.
كما نعى الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، حبيب الصايغ، المفكر البارز قائلا “فقدت مصر اليوم أحد أهم مفكريها الاقتصاديين”.
وأكد الصايغ أن الثقافة العربية بمفهومها الواسع الجامع “خسرت خسارة فادحة برحيل الدكتور سمير أمين، المفكر الذى انحاز إلى الفقراء، وساهم في تنمية اقتصاديات دول فقيرة في أفريقيا، وتصدى لمقولات عديدة سائدة عن التنمية والتحديث وخطط المؤسسات المالية الدولية”، وفق ما نقلت وسائل إعلام مصرية.
ولد أمين في مدينة بورسعيد بورسعيد، شرقي مصر، عام 1931 لأب مصري وأم فرنسية، وأتم بها دراسته الثانوية، ثم سافر إلى فرنسا لاستكمال دراسته، حتى الحصول على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة السوربون.
من أبرز أعماله: دراسة في التيارات النقدية والمالية في مصر، في مواجهة أزمة عصرنا، التراكم على الصعيد العالمي، التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة، الأمة العربية “القومية وصراع الطبقات”، الطبقة والأمة في التاريخ وفى المرحلة الإمبريالية، حوار الدولة والدين، في نقد الخطاب العربي الراهن.. وغيرها.
___________________________________________________________________________
يجدر بنا ونحن بصدد عرض كتاب (في نقد الخطاب العربي الراهن) لسمير أمين، الصادر في طبعة شعبية من (الهيئة المصرية العامة للكتاب بالاتفاق مع دار العين للنشر 2015م)؛ أن نستظل بمقولة جورج طرابيشي الفاحصة حول إنتاج مُفكِّر اقتصادي ذي شأن على صعيد عالمي بمثل ما هو سمير أمين؛ فهو – برأي طرابيشي – قد تحوَّل إنتاجه من الاقتصاد إلى الأيدولوجيا، أو بعبارة أخرى من العالم إلى رؤية العالم؛ وهو – طبقاً لذلك – ليس مفكراً اقتصادياً فحسب، ولكنه يقدم قراءة ورؤية وحلولاً على الصعيد الاجتماعي والسياسي، راجعاً إلى المفاهيم الماركسية ومضيفاً إليها.
وُلِدَ سمير أمين في العام 1931م، من أبٍ مصريٍّ وأُمٍّ فرنسية، يعملان طبيبين، وحصل على شهادة البكالوريا في العام 1946، ثم تابع تحصيله الجامعي بفرنسا، وحصل على دبلوم العلوم السياسية عام 1952م، ثم مُنِحَ شهادة الحقوق – الاقتصاد في العام التالي، ومن ثمّ دبلوم الاقتصاد في العام 1956م من معهد الإحصاءات بجامعة باريس.
عاصر سمير أمين الفترة الناصرية بمصر، فعمل بالمؤسسة الاقتصادية بالقاهرة في العام 1958م، لكنه غادر في 1962م، ليعمل في قسم الدراسات الاقتصادية والمالية بوزارة المالية بباريس.
خلال العام 1957، انتسب أمين إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، إلا أن الماركسية السوفييتية لم تُثِرْ إعجابه، إذ كان مقرباً من الحلقات الماوية.
عمل أمين مديراً لمعهد الأمم المتحدة للتخطيط الاقتصادي، وقدم بمؤلفاته مجموعة من القراءات مثل العلاقة بين المركز والأطراف، والتبعية، ومحاولة تجديد قراءة المادية التاريخية، وأنماط الإنتاج.
يُشرِفُ سمير أمين اليوم، على برنامج بحوث (استراتيجيا المستقبل العربي والأفريقي)، وينظم المنتدى لقاءات ومناقشات لملفات أزمة التنمية في دول الأطراف.
خطاباتٌ ثلاثة
يسعى سمير أمين – كما يقول في صدر كتابه (في نقد الخطاب العربي الراهن) – إلى نقد الخطابات السائدة عربياً وعالمياً، بإظهار التباس المفاهيم المُستخدمة في هذه الخطابات، وهي:
1- خطاب الرأسمالية.
2- خطاب القومية.
3- خطاب الدين السياسي.
ويقول أمين أيضاً في مقدمة كتابه:
“وبما أن نقدي للخطابين – القومي والإسلام السياسي – هو نقد من اليسار، فقد وجدت ضرورةَ توضيح مقولاتي النقدية فيما يخص خطاب الرأسمالية السائد، وذلك لأن المعارضة القومية والدينية لا تهتمُّ بهذا النقد، وفي النهاية تقبل عملياً بمبادئ الرأسمالية (ولو دون وعي بذلك)”.
وتحت عنوان (نقد الخطاب القومي)، يشير أمين إلى (كتاب مصير الجماعة العربية – نقد فكر سمير أمين) ومؤلفه شمس الدين الكيلاني. ويرى أنّ نقده لهذا الكتاب، لهو أفضل الوسائل لتوضيح المفاهيم الماركسية من جانب، ومن جانب آخر إظهار التباس مقولات خطاب القومية، كما يُشير أيضاً في نقد خطاب الدين السياسي إلى ما بدا له التباساً خطيراً في تقدير الكاتب الباكستاني مُحمّد خان لموقع الإسلام السياسي في خارطة صراعات الراهن بمقال لخان منشور في مجلة “منثلي ريفيو”.
نقد خطاب الرأسمالية
يُفرِّق سمير أمين بين الخطاب الأيدولوجي للرأسمالية الخيالية، والرأسمالية التاريخية القائمة بالفعل.
ويزعم (التصور الخيالي للرأسمالية) – كما يسميه ويُعرِّفه أمين – أنه يعود بالفائدة على جميع الشعوب، ويُكرِّس نشر الديموقراطية وسيادة السلم على صعيد عالمي، وبالتالي فإن نجاح هذا التصور – المزعوم – يمثل نهاية التاريخ.
وبالمُقابل، يلفت أمين إلى أنّ تاريخ الرأسمالية القائمة بالفعل يُكذِّب الاستخلاصات التي يزعم بها خطاب الرأسمالية الخيالية، ويؤكد في ذات الوقت أن تاريخَ الرأسمالية تاريخُ صراعٍ مُستمرٍ بين منطق التراكم الرأسمالي ومنطق المصالح الاجتماعية والوطنية.
يُقسِّم سمير أمين تكوين المنظومة العالمية الحديثة إلى مراحل، انطلاقاً من بزوغ المعالم الأولى للنمط الرأسمالي في القرن السادس عشر، حيث يُرجع ظاهرة الاستقطاب إلى القرن السادس عشر والمرحلة المركانتلية (نزعة للمتاجرة من غير اهتمام بأي شيء آخر. ونشأ النظام المركانتلي التجاري في أوروباخلال تقسيم الإقطاعيات لتعزيز ثروة الدولة وزيادة ملكيتها من المعدنين الذهبوالفضة،عن طريق التنظيم الحكوميالصادر لكامل الاقتصادالوطني)، التي دامت ثلاثة قرون حيث تصاعدت الفجوة الإنمائية بين المراكز (أوروبا المركانتيلية) والتخوم المُسيطر عليها (أمريكا)، ثم أخذ الاستقطاب بالتصاعد منذ بداية الثورة الصناعية، في أوائل القرن التاسع عشر، حتى أصبحت المراكز تنفرد بالتصنيع في مقابل التخوم (آسيا، أفريقيا، أمريكا اللاتينية).
يفيد أمين بأن جميع نماذج النظام الرأسمالي، ظلت ترتكز على نظرة إمبريالية للعالم، بالتوافق مع انتشار الرأسمالية، التي تحمل في طيَّاتها عدم التكافؤ والاستقطاب على المستوى العالمي.
ويُلخِّص أمين المراحل اللاحقة إلى المرحلة الليبرالية القومية للاحتكارات (1880 – 1945)م، التي تميزت بالصراعات بين مختلف الدول الإمبريالية الكبرى؛ أما المرحلة الاجتماعية القومية لما بعد الحرب (1945- 1980) فقد تمّ خلالها تلاؤم استراتيجيات الإمبريالية القومية تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، واضطرت الإمبريالية إلى التراجع والانسحاب من الصين، كما أنّها اضطرت لقُبول تنازلات لصالح حركات التحرر في آسيا وأفريقيا.
يُشبِّه سمير أمين الجوَّ الذي شَهدته نهاية القرن العشرين بالجوِّ الذي بدأ به، قائلاً: (كان بالفعل جميلاً، ولكن لرأس المال)؛ فكما أدى فوز بلدان المراكز الرأسمالية المعولمة إلى انفجار ديموغرافي وزيادة نسبة سكان الأرض من الأصل الأوروبي من 23% في العام 1800م إلى 36% في العام 1900م؛ فإنّ برجوازيات الثلاثية (أمريكا، أوروبا، اليابان) في نهاية القرن العشرين صارت تنعم بانتصارها، ولم يعد يُنظر إلى الطبقات العاملة في بلدان المركز، بوصفها الطبقات الخطيرة كما كانت عليه خلال القرن التاسع عشر، أما بقية شعوب العالم فما عليها إلا أن تنتظر، لكن أمين يشير إلى أن انتصار الرأسمالية في بداية القرن العشرين لم يدم أكثر من عقدين!
ثم ينتقل أمين إلى العام 1968م، ويرى أن الأزمة التي نبعت منذها، كانت أزمة انحراف ثم انهيار الأنظمة التأسيسية للتطور السابق، وهي ليست فترة إقامة نظام عالمي جديد، بل هي فترة إقامة فوضى يصعب التحكم فيها، ويشير إلى التناقضات التي ظلت تعمل باطنياً فيها، لافتاً إلى انهيار النماذج الثلاثة للتراكم المُقيَّد الذي أدى إلى أزمة بنيوية منذ العام 1968م، فانخفضت معدلات الاستثمار والنمو إلى نصف ما كانت عليه، وارتفعت البطالة وانتشر الفقر واللا مساواة على الأصعدة الوطنية والدولية؛ فالأرباح التي يُولِّدُها الاستغلال لا تجد منافذ كافية في الاستثمار المُناط بتوسيع المنظومة الإنتاجية.
كما إن القلق الذي تُبديه البلدان السبعة – بحسب أمين – هو تعبير عن هذه الأزمة الكبرى المُتمثِّلة في سقوط السوق النقدية والمالية في العام 2008م، فلحقت ذلك مبادرات وتغيير من لهجة الدول السبع، فصارت تستخدم مصطلح التهجين، بالإضافة إلى مُبادرات البنك الدولي لتوظيف المنظمات غير الحكومية خدمةً لخطابه المعروف بمكافحة الفقر؛ لكنه يرى هذه النبرة والمُبادرات محاولات لتصحيح النظام وإبقائه على ما هو عليه.
نقد خطاب القومية
يعتبر سمير أمين الوحدة العربية ضرورة تاريخية، إلاّ أنّه يختلف مع جُلِّ التوجُّهات القومية العربية في مجال استراتيجية العمل لتحقيق الهدف، ويعيب عليها إغفالها العلاقة الحاسمة – برأيه – التي تربط النضال من أجل إنجاز الوحدة العربية بالصراع الطبقي، فالخُروج من الرأسمالية المعولمة – لديه – شرطٌ لإنجاز الوحدة العربية، بالإضافة إلى استبدال العلاقات الاجتماعية رأسمالية الطابع بعلاقات ذات طابع اشتراكي في إدارة شؤون المجتمع المحلي.
وفي هذا الصدد، اختار أمين مناقشة أطروحات الكاتب القومي اليساري شمس الدين الكيلاني، بدلاً عن مناقشة أطروحات المشاريع الناصرية والبعثية التاريخية.
ويعيب أمين أيضاً على الخطاب القومي العربي، اعتماده على سمات يفترض أنها تُثبت وجود (الأمة العربية)، مثل سمات: اللغة، والدين، والمرجعيات الثقافية النخبوية، وحركات الهجرة التاريخية، ويعتبر هذه السمات وقائع حقيقية في حدِّ ذاتها، لكنها غير كافية لتُكوِّن قومية واحدة، فليس من العسير بيان مجموعة أخرى من الوقائع التي يُمكن من خلالها استخلاص أطروحة قوميات قطرية محلية، والمنهجان – برأيه – يَشتركان في طابعهما التبسيطي، إذ يعتبر الوقائع المُستنبطة منهما ضعيفة الطابع دون قدرة على الإقناع، بالإضافة إلى أنها أيدولوجية الطابع وغير علمية.
كما يلفت أمين الانتباه إلى أنّ المُجتمع العربي في عصره الذهبي (القرون الهجرية الثلاثة الأولى)، لم يتسم بكونه وسطاً عربياً إسلامياً مُتجانساً كما تزعم – حسب تعبيره – خرافة العروبة؛ بل اتسم باختلاط وتفاعل عناصر ثقافية ولغوية ودينية من أصول مُتباينة، ويُسمِّي ما حدث في القرون الأولى بعروبة ناقصة، ويشير إلى أنها لم تكن عاملاً سلبياً، بل أصبح هذا التنوع عاملاً إيجابياً في ازدهار الفكر والحضارة.
ويقول سمير أمين بانتفاء الحاجة إلى الإضفاء على مفهوم القومية العربية أكثر مما يحتمل، واختزال تاريخ الشعوب العربية في مجرد إشهار عروبتها، داعياً القوميِّين إلى الخروج من خطابهم الميتافيزيقي المُطلق، حتى أنه يقترب – حسب وصفه – من أصحاب النظريات العنصرية والعرقية.
ويطرح سمير أمين طريقاً بديلاً للطريق المطروح في خطاب شمس الدين الكيلاني (أي الترحيب بأي قوة تقود معسكر النضال من أجل إنجاز وحدة قومية حتى ولو كانت برجوازية)، فيشترط ممارسة الطبقات الشعبية دوراً أساسياً، يتمثل في تشكيل تكتُّل وطني شعبي ديموقراطي بديلاً للتكتُّلات الشعبية الوطنية غير الديموقراطية على نمط الناصرية.
أما الجزء الثاني من خطاب سمير أمين، فهو إنجاز مشروع تحرير يقتضي فك الارتباط وهو – بحسب د. أيوب أبو دية في كتاب (تنمية التخلف العربي في ظلال سمير أمين –– دار الفارابي، 2004) – مفهوم يفترض إخضاع العلاقات مع العالم الرأسمالي لمنطق واحتياجات التقدم الداخلي (على عكس التكيف).
خطاب الدين السياسي
يزعم سمير أمين أن دحر خطة واشنطن الداعية إلى تكريس السيطرة العسكرية الأمريكية على صعيد الكوكب من جانب، ودحر الإسلام السياسي من جانب آخر؛ يزعم أنهما هدفان لا يُمكن الفصل بينهما، ويتوصّل إلى أن الحداثة القائمة بسبب علاقتها بتبلور الرأسمالية العالمية لا يمكن فصلها من نمط التوسع على صعيد عالمي ذي الطابع الاستعماري، ويؤيد القول من جانب آخر بأن تدهور أوضاع المجتمعات الإسلامية، وتفاقم الفقر في صفوف شعوبها، هو السبب الذي يقف وراء دعوة الإسلام السياسي.
ويذهب أمين في تحليله لظاهرة الإسلام السياسي، إلى دراسة نظام الحكم ذي الطابع الخراجي، الذي كان مسيطراً على المجتمعات القديمة، وفيها يُسيطر المستوى السياسي على المستوى الاقتصادي (على عكس النمط الرأسمالي)، وأن النمط المطلوب الفاعل للأيدولوجيا المُناسبة للقيام بهذا الدور هو النمط الميتافيزيقي المُطلق. وقد مثلت العقائد الدينية، الشكل الذي اتخذه الخطاب الميتافيزيقي المطلوب؛ لكن ظهور الرأسمالية (ومعها الحداثة) قد أنتج انقلاباً في العلاقة بين المستويين السياسي والاقتصادي، ما أضفى على الديانة مقاماً ومحتوىً آخرَيْن؛ ونتيجة لذلك، فإن أمين يعتبر الإسلام السياسي ظاهرة حديثة، وليس استمراراً لظاهرة قديمة، كما يدعو إلى عدم الجمع بين ظاهرة إسلام الضواحي الشعبية في أوروبا وأمريكا، والإسلام السياسي في المجتمعات الإسلامية؛ لكون إسلام الضواحي ظاهرة تمثل انتفاضة مهاجرين فقراء شأنها شأن احتجاجات اجتماعية أخرى، كما أن تناول الإسلام السياسي عبر خطاب عام يغفل تنوع الظروف الملموسة والمتغيرة من قطر لآخر؛ يحمل مخاطرة كبيرة.
ومن ثم يتعرَّض أمين إلى مفهوم الإسلامفوبيا، ويُلحق به مفهوماً آخر وهو الصينوفوبيا، ويُرجع هذه الظواهر إلى تكريس الاستعمار للثالوث (أوروبا – أمريكا – اليابان) لنظام عالمي قائم على مبدأ (البارتهيد) الذي يضمن استمرار تداوله ضد جميع شعوب الجنوب، وليس المجتمعات الإسلامية فحسب.
كما يدعو أمين إلى تحريك الفكر الديني، بل يعتبر نفسه بشكلٍ ما، أحد المتحركين على هذه الأرضية بالأساس.
* شاعر من السودان
يجمع كتاب «في نقد الخطاب العربي الراهن»، لمؤلفه سمير أمين، أربع دراسات تسعى إلى نقد الخطابات السائدة مصرياً وعربياً وعالمياً، بالتركيز على إظهار التباس المفاهيم المستخدمة في هذه الخطابات.ويحاول الكتاب، الدعوة إلى شحذ المفاهيم العلمية التي أدخلتها الماركسية في تحليل الظواهر الاجتماعية..
وتجديد معانيها على ضوء التحولات التي طرأت على واقع المجتمع الحديث.يركز الكاتب سمير أمين في فصله الأول المعنون باسم «نقد خطاب الرأسمالية» على إظهار الطابع غير العلمي للمقولات التي روجتها الكتابات السائدة عربياً وعالمياً، المعتمدة على انهيار التجارب الاشتراكية للقرن السابق والانحياز في صف أطروحة «أبدية» الرأسمالية التي لا بديل لها كما يقال.
وفي الفصل الثاني: «خطاب القومية»، أوضح كيف أن القومية تيار سياسي احتل في المسرح العربي مكان المبادرة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي؛ ونظراً لذلك، اتخذ هذا التيار ألواناً مختلفة، أقل أو أكثر جذرية من حيث علاقته بالإصلاح الاجتماعي والدعوة إلى ممارسة الديمقراطية.
ويقدم الكاتب في هذا التيار رمزاً للجناح اليساري الذي يسعى إلى الجمع بين الشعارات القومية، والاعتماد على ما يعتبره «مبادئ التحليل الماركسي» موضحاً المفاهيم الماركسية من جانب، ومظهراً الالتباس في مقولات خطاب القومية من جانب آخر، منتقلاً إلى تحليل كتاب «مصير الجماعة العربية.. نقد فكر سمير أمين»، لمؤلفه سمير الدين الكيلاني.
وضمن الفصل الثالث: «خطاب الدين السياسي»، أشار الكاتب إلى مقال كاتب باكستاني هو أمين خان، والذي ذهب إلى إثبات وجود التلاقي الموضوعي بين أهداف استراتيجيات الولايات المتحدة (السيطرة العسكرية على الكوكب انطلاقاً من «الشرق الأوسط»)، وبين ما ترتب عليه من نتائج صعود الإسلام السياسي في المنطقة،.
أما في الفصل الرابع «ضبط المفاهيم»، فيشرح المؤلف أن نقده للخطابات«القومي والإسلامي والسياسي» نقد من اليسار، لذا وجد ضرورة في توضيح مقولاته النقدية فيما يخص خطاب الرأسمالية السائد؛ ذلك لأن المعارضة القومية والدينية لا تهتم بهذا النقد، وفي نهاية المطاف تقبل عملياً بمبادئ الرأسمالية، معتقداً أن هذا العرض لنقد الخطابات الثلاثة يؤدي بشكل طبيعي إلى العودة لمفاهيم الماركسية وتطويرها.
«في نقد الخطاب العربي الراهن» لسمير أمين… الإسلاميون والقوميون العرب يدورون في فلك الرأسمالية ويروّجون لخطابها
محمد عبد الرحيم
القاهرة ـ «القدس العربي»: عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وضمن سلسلة العلوم الاجتماعية، صدر كتاب «في نقد الخطاب العربي الراهن» للمفكر والاقتصادي سمير أمين، في 143 صفحة من القطع المتوسط.
وإن كان الكتاب بهذا العدد القليل من الصفحات إلا أنه ــ ككتابات أمين ــ يعد بحثاً شاملاً ودقيقاً لإعادة تصحيح المفاهيم، ومناقشة الخطابات السائدة وضبط العديد من المفاهيم المغلوطة عنها، أو الشائعة لدى مروجيها. يضم الكتاب أربعة فصول/دراسات هي … «خطاب الرأسمالية، خطاب القومية، خطاب الدين السياسي، وضبط المفاهيم». فالطابع غير العلمي والترويج لمقولات مستوردة وترديدها في العالم العربي كانهيار التجارب الاشتراكية واعتماد أبدية الرأسمالية وصلاحيتها، والتظاهر بأن خطابات القومية والدين السياسي، مقولات تناهض وتعارض الخطاب الرأسمالي، كلها مقولات هشة، في حقيقتها تنحاز إلى هذا الخطاب وتروّج له، سواء عن علم أو بدون علم، فهي بالأساس خطابات استراتيجية للرأسمالية!
الرأسمالية الخيالية والتاريخية
يفند سمير أمين الفارق ما بين الرأسمالية الخيالية وخطابها الذي يزعم أن انتشارها سيعود بالفائدة على جميع الشعوب، فهي مرحلة العقلانية الإنسانية، وبالتالي فليس عندنا بديل معقول غيرها.
إلا أن هذا يتناقض وتاريخية الرأسمالية، المتمثلة في الصراع الدائم والمستمر بين منطق التراكم الرأسمالي ومنطق المصالح الاجتماعية والوطنية المتناقضة معه، فمع انهيار الاشتراكية ونظم العالم الثالث الراديكالية استعادت الإمبريالية قواها وهجماتها، وما (العولمة) إلا الشكل الجديد للنظام الرأسمالي الحالي، وهو المرادف لمصطلح الإمبريالية. فالأزمة أصبحت ــ في غياب الدولة ــ تكمن في مواجهة الطبقات المسيطرة على الثروة في البلدان الفقيرة، والحلفاء في الخارج، فالهدف هو بناء مجتمع ديمقراطي يراعي مصالح الطبقات الفقيرة.
والديمقراطية وممارستها بشكل تدريجي، من الممكن أن تحقق شكلاً من الاستقلال الوطني، وهي التي لن تتحقق إلا على مدى زمني طويل، فالأمر مرهون بحالة من الوعي. الوعي بخطاب الرأسمالية الغربية وأكاذيبه، فالديمقراطية والمجتمع المدني والحريات الأمريكية تدور جميعها في فلك الرأسمالية المسيطرة وتتعامل معها وكأنها شيء عادي، وربما أمر إيجابي يستحق الدعم والنشر عبر العالم، والوعي بحقيقة الرأسمالية الغربية وبأنها أداة تدمير لا هدم. كذلك يعلّق أمين الأمل على حالة أو فئة أو مجموعة أفكار يتم إعادة صياغتها وفق مفاهيم جديدة مُستحدثة/الاشتراكية والمفاهيم الماركسية، ستكون هي أداة التغيير.
الفكر القومي العربي وخيالاته
يأخذ سمير أمين على هذا الفكر حصره مبدأ التقدم من خلال فكرة الوحدة العربية، والتغني بمقوماتها ــ المغلوطة ــ بحيث أصبحت كالنغمة النشاز، فالرجل يتفق والهدف، لكنه يختلف في الرؤية والتفاصيل. فالتيارات القومية تغفل العلاقة بين مدى إنجاز هذه الوحدة والصراع الطبقي. فهذا الإنجاز موقوف على الخروج التام من أسر الرأسمالية، وهو المتمثل في علاقات ذات طابع اشتراكي في إدارة المجتمع المحلي.
والأمر ليس مرهوناً بالبورجوازيات العربية، بل بالطبقات الشعبية المُعادية في الأصل للرأسمالية. فالسمات التي استند إليها القوميون من اللغة والدين والجغرافيا لم تكن كافية لتحقيق هذه الوحدة، والحديث حولها كمسلمات هو ما أدى إلى نهايات مفجعة، أصبحت تثير السخرية.
فالفصحى كلغة النخبة أصبحت تواجهها العامية وتنوعاتها، وأنها القادرة على التفاعل وإنتاج الخطابات المختلفة والمتناقضة أيضاً! ويأتي الدين من حيث أسلمة المجتمعات، سواء بمصطلحي الفتح أو الغزو العربي ــ إيران ترحب بالفتح، وتتباهي بالقضاء على الغزو، المتمثل في الحفاظ على لغتها ــ مع ملاحظة أن الغزو لم يحقق المزيد من التجانس المجتمعي، بل المزيد من التنوع والاختلاف، أو الخلاف بمعنى أدق، حيث انتقلت آفة «القبَليّة» إلى أماكن ومجتمعات تجاوزتها منذ قرون وآلاف السنين!
فمقولة «القومية العربية أمر ثابت متواصل عبر تاريخ الشعوب الناطقة بالعربية»، هي مقولة ذات طابع إيديولوجي بحت. حتى أن هناك مَن يتطاول ويفترض أن ظاهرة «العروبة» قد سبقت الفتح/الغزو! هذه الثوابت التي يبحث عنها القوميون تتنافى والبحث العلمي. هذا المطلق هو النمط نفسه الذي يدور حوله خطاب الإسلاميين، وهو ما أدى إلى (أن مَن تبقى من القوميين بعد هزيمتهم السياسية، قد مالوا إلى الاندماج مع الإسلاميين في تكتل سياسي موّحَد.. وما كان من الشعوب إلا تكريس انتمائها إلى عقيدة دينية حلّت محل العقيدة القومية.
الإسلام السياسي ووهم رد الفعل
في رؤية مفارقة يُشدد سمير أمين على أن الإسلام السياسي (ظاهرة حديثة) وليست استمراراً لظاهرة قديمة، «فجميع المذاهب والحركات النشيطة في العالم المعاصر هي حديثة، لأنها بكل بساطة لا يمكن فصلها عن واقع الرأسمالية». ويضيف أمين أن الإسلام السياسي المعاصر وكذلك المسيحية الأصولية الأمريكية، ينتميان إلى هذه المجموعة التي تقدم إجابات لا تعتمد على تحديد علمي، وبالتالي تروي أوهاماً خطيرة حول قدرتها على تغيير العالم. ومن ناحية أخرى لا يصح الجمع بين ظاهرة إسلام الضواحي في أوروبا وأمريكا، وظاهرة الإسلام السياسي في المجتمعات الإسلامية، فالأولى لا تعدو كونها انتفاضات مهاجرين فقراء، شانها شأن الاحتجاجات الاجتماعية الأخرى، فهي رد فعل اجتماعي طبقي قبل أن يكون ثقافياً.
والنظر إلى الإسلام السياسي من خلال خطاب عام هو أمر في غاية الخطورة، فهناك فارق كبير بين الإسلام السعودي والباكستاني من جانب والإسلام في الدول الأخرى، فالوهابية ظاهرة خاصة وصورة لنمط غليظ من العقيدة، نتاج مجتمع ظلت تحكمه أشكال عتيقة من الممارسات التي من الممكن أن تكون سابقة على الإسلام نفسه، هذه الممارسات التي أصبحت مذهباً حليفاً للولايات المتحدة، كما ساعدت الثروة النفطية على انتشار هذا المذهب في صفوف الإسلام السُني المعاصر، ترتبت عليه ردّات تدميرية، متمثلة في سلوك رجعي لأقصى حد، اختزل العقيدة في شكلها الطقسي، وأصّل لعنصرية طائفية متعصبة. بينما في باكستان نجد أن السلطات البريطانية اجتهدت في القضاء على حركة التحرر والتحديث التي طالت الهند، فما كان منها إلا اختراع مذهب الإسلام السياسي الذي تبناه أبو الأعلى المودودي، الذي أقيمت على أساسه دولة باكستان.
أما مقولة إن الإسلام في حد ذاته محور المقاومة ضد الكولونيالية، فهو تزييف كبير للتاريخ. فعلى سبيل المثال.. لم تقاوم السلطات الفرنسية الإسلام، عندما كانت في الجزائر، بل اعتمدت على رجال الدين السلفيين، وأعطتهم سلطة تنفيذ الشريعة على أهل البلد، حتى أن الجمهورية الجزائرية هي التي قامت على استحياء بعلمنة جزئية للقوانين.
وبالنسبة لمقولة إن الإسلام السياسي يحارب الولايات المتحدة، فهو ما تروّجه الولايات المتحدة نفسها، لأنه الوحيد الذي يعطي للولايات المتحدة الشرعية لمشروع سيطرتها العسكرية، والمعروف باسم «الحرب على الإرهاب». وبذلك لم يعلن الإسلام السياسي الحرب ضد الولايات المتحدة، بل هي التي اتخذت المبادرة، وما اختيارها للشرق الأوسط كبداية بسبب أن الشعوب التي تسكنه مُسلمة، بل لأسباب أخرى، أهمها .. الثروة النفطية والموقع الجغرافي، الذي يتيح لها استيطان قواعد عسكرية دائمة، قادرة على تهديد الصين وروسيا، إضافة إلى الهند عند الضرورة.
وبالتالي يكون (الإسلام السياسي) قد ساعد وكرّس العودة إلى مفاهيم عصر الإنحطاط.
محمد عبد الرحيم