رغم فشل جولة وزير الخارجية ورئيس الأركان الروسيين فى إسرائيل وألمانيا وفرنسا، إلا أن روسيا مصممة على المضى قدمًا فى طرح تسوية الأوضاع الإنسانية فى سوريا.
روسيا متعجلة بشكل يثير التساؤلات فى الإعلان عن انتصاراتها المدوية فى سوريا، ودحر الإرهاب هناك، لتؤكد للعالم كله بشكل عام، ولأطراف النزاع السورى على وجه التحديد، أن الحرب قد انتهت فى سوريا، وآن الأوان للبدء فى تطبيع الأوضاع الإنسانية والتسوية السياسية، ولكن الغرب يرى غير ذلك تماما، ويرفض المشاركة فى أى مبادرات روسية طالما لم تنته الحرب، ولم يتم القضاء على الإرهاب، ولم تتحرك التسوية السياسية فى اتجاه تشكيل سلطة فى سوريا.
كما أن قضية اللاجئين تثير الكثير من اللغط بين روسيا والغرب فى هذا الشأن، قال الممثل الخاص السابق لوزارة الخارجية الأمريكية للتحول السياسى فى سوريا فريدريك هوف إن “الكرملين الآن يريد مساعدة دمشق فى إعادة إعمار سوريا، وبالتالى يثير مسألة اللاجئين فى الغرب، وحجة السلطات الروسية هى أن أوروبا الغربية والدول المجاورة لسوريا لن تتحرر من عبء اللاجئين السوريين الثقيل قبل إعادة إحياء اقتصاد سوريا بالكامل.
ولكن روسيا تدرك جيدًا أن كلفة إعادة إعمار سوريا ضخمة، وقدرتها على تلبية هذه الاحتياجات محدودة للغاية، فى ظل عدم اهتمام حليفتها إيران التى لا تريد أن تلعب دورا محوريًا فى هذا الأمر بسبب تردى اقتصادها ووقوعها تحت العقوبات، وبالتالي، فمعضلة الكرملين تتمثل فى كيفية إقناع الدول بضخ أموال حقيقية للاستثمار فى مكان تحكم فيه أسرة وحاشيتها، مشهورتان بفسادهما وعدم كفاءتهما”.
فى كل الأحوال، الأوضاع الميدانية وما يجرى على الأرض، هو الفيصل الوحيد بين تعجل روسيا الغريب، وبين مساومات الغرب وتسويفه.
الجميع يتوقع انهيارا للتحالف الروسى – التركى – الإيرانى الهش أصلا والذى يجمعه فقط العداء للولايات المتحدة، فيما يبحث كل طرف فيه عن مصالحه الخاصة فى هذا الصدد تحديدا، استعرضت صحيفة “نيزافيسيمايا جازيتا” الروسية الصعوبات التى تعترض شركاء الأمس فى مسار أستانا، وخاصة فى ما يتعلق بمدينة إدلب التى تسيطر عليها تركيا وفصائل المعارضة التابعة لها باتفاق مع روسيا، وبصرف النظر عن رضاء إيران والنظام.
لقد أعلنت الولايات المتحدة عن شكوكها فى قدرة روسيا وتركيا وإيران على مواصلة العمل على حل الأزمة السورية، وهو ما صرحت به واشنطن علنا، وبنت عليه موقفها فى رفض المشاركة فى الجولة العاشرة من مشاورات أستانا، والتى نقلتها روسيا من كازاخستان إلى مدينة سوشى الروسية فى محاولة جديدة لوضع الجميع أمام أمر واقع جديد يقضى بأن تُنَاقَش الأمور العسكرية والسياسية فى محفل واحد هو “منتجع سوتشى الروسي”.
علما بأن روسيا أعلنت أن إطار أستانا مخصص للمشاورات العسكرية فقط، ولكنها تتصرف كمنتصر وحيد فى هذه الأزمة، وسعى للتأكيد على أن هناك منصة جديدة موازية لمنصة جنيف.
أما ما يخص مصير إدلب، فقد قال الخبير فى المجلس الروسى للشؤون الخارجية كيريل سيمينوف “يتم التخطيط لعملية عسكرية مباشرة بعد انتهاء الحملة فى جنوب سوريا ويريد الأتراك أن يمنعوا مثل هذه العملية وقد أرسلوا بالفعل مقترحات مضادة إلى الجانب الروسي”.
ويؤكد أن طرح قضية الضغط على إدلب يجرد صيغة أستانا من معناها. إذ أن تركيا تريد حل قضية إدلب ضمن إطار” ثلاثية أستانا”، وليس ضمن “محور” طهران- دمشق- موسكو”.
فى كل الأحوال، سيستمر اللغط حول هذا الموضوع فترة لا بأس بها ستشهد احتكاكا عسكرية وملاسنات بين أطراف الحالف الروسى – التركى – الإيرانى.
ولكنها لن تحسم إلا بحسم مباحثات الأكراد مع النظام تحت إشراف روسى، أو بالأحرى تحت ضغوط روسية، والمعادلة تدور حول التزام روسيا بضمان أن لا تحدث مواجهات بين الأكراد وبين تركيا من جهة، وأن تضغط على النظام لكى يلتزم ويضمن ذلك من جهة أخرى، فى مقابل أن تحتوى تركيا، أو تدجن، المعارضة التابعة لها فى إدلب إلى أن يتم اتخاذ قرار بشأن هذه الفصائل بعد أن تجد موسكو وأنقرة حلا وسطا يضمن مصالحهما ومساحات نفوذهما فى سوريا، حاليا ومستقبلا، ومن دون هذا التوافق، ستنهار الترتيبات الروسية – التركية فى سوريا.
إن روسيا تستثمر التناقضات الأمريكية – الأوروبية، والأمريكية – التركية، فيما تستثمر أنقرة التناقضات الروسية – مع كل من أوروبا والولايات المتحدة.
ويبدو أن المقولات التاريخية تثبت صحتها بدرجات كبيرة بشأن أن وجود الجمهوريين فى البيت الأبيض هو أفضل الفترات لتحقق موسكو مصالحها، ويبدو أن أنقرة أدركت ذلك، فسارت على نفس خطى موسكو.
وفى الواقع، فإن روسيا تعوِّل على مقاربتين مهمتين للغاية الأولى بشأن إسرائيل، حيث تحاول إقناع تل أبيب وواشنطن بأنها ستكون ضامنا لبشار الأسد إذا تركوا قواته تسيطر على الحدود الجنوبية والجنوبية الغربية، وأن بشار لن يتعرض لأمن إسرائيل، كما كان الوضع عليه قبل الأحداث السورية.
والمقاربة الثانية، تتعلق بتركيا، حيث تسعى موسكو لإقناع أنقرة بأن أمنها يمكن أن يتحقق بوصول قوات الأسد إلى إدلب، على أن يلتزم بأمن تركيا واحتواء الأكراد.
هاتان المقاربتان تقضيان بضرورة وجود بشار الأسد فى السلطة، ووجود القوات الروسية فى سوريا، عدا ذلك، فإن روسيا تستعد لأسوأ السيناريوهات، على الرغم من استمرار العقوبات ضدها، وخنقها دبلوماسيا وماليا واقتصاديا.
وربما يكون الغرب لا يريد إلا ذلك، أى يريد أن تكون روسيا واقعة بشكل دائم ومستمر تحت العقوبات من جهة، وفى إطار تحالفات هشة من جهة ثانية، وفى فخ استنفاد متواصل لمواردها من جهة ثالثة.
وبالتالى، لا مانع من المساومة والتسويف وفرض المزيد من العقوبات وطرح المزيد من المبادرات ومناقشتها، لأن نجاح المقاربتين الروسيين، سيكون أحد أكبر الهزائم للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، وسينعكس حتما على دورها ودور أوروبا فى تسوية الأزمة الفلسطينية، وربما تصل الأمور إلى سحب البساط جزئيا من تحت أقدام حلف الناتو فى المنطقة.