الرئيسية / حوارات ناصرية / يسار الناصرية

يسار الناصرية

بقلم : عمر ثروت

 

إن جذور مصطلح “يمين” و “يسار” في القاموس السياسي المعاصر تمتد إلى الثورة الفرنسية، فقد بدأت في الظهور حينما كان يجلس مؤيدي الملك لويس السادس عشر في المقاعد اليمنى للجمعية الوطنية وجلوس مؤيدي الثورة على يسارها، والسبب كان بسيطاً، فعلى حد قول أحد الأعضاء وهو البارون دي جوفيل، فإن مؤيدي الملك كانوا يجلسون في الجهة المقابلة ليبتعدوا عن الضجيج والتجاوزات اللفظية التي كان يصدرها مؤيدي الثورة، وفي اللجنة التشريعية التي حلت محل الجمعية الوطنية في عام ١٧٩١م – أي بعد عامين من الثورة الفرنسية – كان يجلس الثوريين المجددين على يسار المجلس، والمحافظين على الدستور على يمينه.

فأصل المصطلحين يوضح أنهما “وحدة قياس سياسي” في الأساس، يكون اليمين هو المحافظ على ما هو قائم من مفاهيم ومبادئ ونظام، في مقابل اليسار الذي يمثل الرغبة في التطوير والتجديد، وانطلاقاً من هنا تبلورت الحاجة وحدات قياس أخرى مكملة، كي تسمح باستيعاب تدرج الأفكار والتيارات السياسية، كالوسط الذي يعبر عن الإصلاح المعتدل، وأقصى اليمين وأقصى اليسار لوصف التيارات الراديكالية في المحافظة أو الثورية، اضافةً إلى يمين الوسط ويسار الوسط، اللذان يحددان مسار الإصلاح إذا كان بطابع التجديد أو طابع المحافظة، فاليمين ليس مرادفاً للرأسمالية أو الليبرالية كما هو شائع لدي المتهمين بالشأن العام، كما أن اليسار لا يعني الاشتراكية والتقدمية كما هو منتشر في الأوساط السياسية.

وما نريد أن نصل إليه أن مصطلحي “يمين” و “يسار” هما وحدتي قياس سياسي، لقياس اتجاه حركة التيارات الفكرية والسياسية، هل تسير في اتجاه التجديد الشامل أم المحافظة الصارمة، وهذين المصطلحين يمكن لهما أن يُستعملا على في أي نطاق سياسي أياً كان أفقه، فقد يستعملا على فصيل اجتماعي/سياسي معين، أو على المجال السياسي كله بشمول مختلف التيارات السياسية والفكرية.

والتيار القومي العربي “الناصري” شأنه شأن أي تيار يحوي اتجاهين، اتجاه محافظ غير مجدد، يمكن أن هنا أن نطلق عليه “يمين الناصرية”، خطابه السياسي لم يتغير كثيراً عن الخطاب الذي صاحب تجربة عبد الناصر، كما لم يكن لهذا اليمين بصمة في بلورة رؤى اجتماعية/سياسية للمستقبل، فهذا اليمين الناصري المحافظ غاية حركته هو الدفاع عن التجربة الناصرية، والتغني بانتصاراتها مع تبرير اخفاقاتها، فتحولت بوصلة اتجاه حركته صوب الماضي، وأصبح التاريخ هو ميدان معاركه، وكأن اليمين الناصري ردة فعل تمثل حالة إنكار لكا ما جرى في المجتمع من بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣م وحتى اليوم.

ومع الأسف اليمين الناصري هو الأغلبية العددية في التيار القومي العربي “الناصري”، و لم لا فهو ابن مجتمعه المصري المحافظ المعاند للتغيير، والراضي بالموجود.

في المقابل، هناك اتجاه ناصري آخر، اتجاه تجديدي، يضع الحاضر في اعتباره، والمستقبل في مركز الحركة، مما يفتح أفقه للتجديد بالإضافة والحذف للأدبيات الناصرية التقليدية، والتنقيح للأفكار والأطروحات المألوفة، والمراجعات للخطاب القومي، لنا أن نطلق على هذا الاتجاه يسار “الناصرية”، قد يكون ابن المشروع القومي، وامتداداً للتجربة الناصرية، ولكن ببصمته الخاصة الذي ينطبع عليها أدوات زمانه ومفردات عصره، يدرس التاريخ بموضوعية، فالتاريخ هو ذخيرة الانطلاق نحو المستقبل، يفكك تجاربه بموضوعية ليأخذ العبر من أخطاء الآباء والأجداد، بل يمتد أفقه إلى رحاب التجارب الإنسانية جمعاء، وانطلاقا مما سبق يكون مستقبل التيار القومي العربي الناصري في يساره، حين يشتد عوده وتقوى حركته، فيمين الناصرية المحافظ أقرب إلى حلقات الذكر منه إلى حركة تولد أفكار ورؤى تبني المستقبل، مهما زادت أعداده أو تعددت أحزابه.

هل يمكننا اليوم دعوة قوى الشعب العامل للتحالف من أجل النهضة الوطنية والوحدة القومية العربية؟

قد يتسق هذا الخطاب السياسي مع الخط العام للتجربة الناصرية، فهي تجربة انتاجية طموحة، والتنمية الإنتاجية  كانت عنوانها – وقدرة القطاع العام على دفع فاتورة حرب أكتوبر ١٩٧٣م خير دليل – أما قوى الشعب العامل فكانت شريكاً أصيلاً لهذه المنظومة وجنت ثمارها، والأهم أن التجربة الناصرية كانت تعبر عن طموحاتها وآمالها بصدق.

وبالنظر إلى الواقع الراهن، نجد أن ترديد نفس الخطاب هو كالحرث في البحر، فالمعادلة الاجتماعية السياسية قد انقلبت، والتركيب الاجتماعي المصري تغيير تماماً، والشخصية المصرية تحولت، فالمجتمع المصري أصلاً غير منتج، فهو يستهلك بأكثر مما ينتج، والأدهى أن لُب ما ينتجه الشعب المصري ريعي في الأساس – تحويلات المصريين في الخارج، السياحة، المساعدات الخارجية، قناة السويس – وبهذا فإن العمود الفقري من إنتاج شعب مصر العربي (و الذي يقل كثيراً عن استهلاكه) ريعي غير إنتاجي، إذاً فإطلاق وصف “عامل” على أي قوى اجتماعية وصف في غير محله، كما محاولة اعتبار أغلبية الشعب كـ”قوى” أي لاعب رئيسي في المشهد العام هو خطأ جوهري، لأنه لم تعد للشعب قوى تؤثر في المشهد العام بل أصبحت على هوامشه، مجرد ختم للتصديق على تسيد قوى لا تعبر عن الأغلبية ولا تمثل مصالحها، وجواز مرور لمصالح شبكة نهب داخلية/إقليمية/دولية غير متحالفة مع الأغلبية الشعبية بل تعاديها.

الأهم من ذلك، أن أزمة الواقع الاجتماعي السياسي أزمة طبقية بامتياز، فقد شكل النظام الاجتماعي السياسي مجتمعاً ذو طبقتين، طبقة أقلية (١٠٪) من المجتمع تملك ثلاثة أرباع الثروة المصرية، وهي طبقة حاكمة بامتلاكها كل أدوات النفوذ والهيمنة على الدولة والمجتمع، وطبقة أغلبية (٩٠٪) تملك الربع المتبقي من الثروة، وهي طبقة محكومة وخاضعة لسيطرة دولة النخبة، وبالتالي النداء الفئوي للمثقفين والجنود والعمال والفلاحين والرأسماليين الوطنيين يكون نداء غير فعال، فالمسألة الملحة ليست فئوية بل طبقية بكل وضوح، فقد نرى محامياً أو عسكرياً أو طبيباً ينتمي للطبقة الاجتماعية الحاكمة، وقد نرى من مواطناً من نفس هذه الفئات ينتمي للطبقة الاجتماعية المسحوقة (الأغلبية)، وبالتالي خطوط الصراع الاجتماعي السياسي يجب أن تكون مرسومة بوضوح، والخطاب الثوري واضح المعالم، بأن الناصرية تعبر عن الأغلبية دون مواربة، وأن رؤية التغيير الاجتماعي الجذري ساطعة البيان، والنخبة الاجتماعية في مرمى النيران.

أما الغاية تكون التوازن الطبقي، وارساء العدل والمساواة في الثروة والحقوق، فالمقصد هو بناء دولة الشعب على حساب دولة النخبة، في نظام اجتماعي يرسخ أهمية الكفاءة والاجتهاد والعلم، على أنقاض النظام النخبوي التوريثي القائم، الذي تُخنق فيه شرايين الترقي الاجتماعي لصالح أبناء الطبقة صاحبة الدم الأزرق، فالمسألة الملحة هي العدل الاجتماعي، والحل هو الثورة الاجتماعية الشاملة.

وبالتالي، الثورة الاجتماعية التي يستدعيها الظرف التاريخي الراهن لن يكون على قدرها إلا يسار الناصرية، وليس يمين الناصرية، بل ولا التيارات الليبرالية أو تيارات الإسلام السياسي أو التيارات الإشتراكية، فهناك ثلاثة قواعد تقوم عليها الثورة التي تبني مستقبل مصري حر ومستقل، التغيير الاجتماعي الجذري (الثورة الاجتماعية) والوحدة العربية، والتحديث ذو الأصالة، فمن غير الممكن أن تقوم لمصر قائمة في ظل النظام الاجتماعي السياسي القائم، ولا يمكن أن تحيا مصر حرة دون وطن عربي موحد وناهض تحت قيادتها، ولا يمكن أن تتقدم الأمة العربية إلا بصيغة تعبر عن شخصيتها الحضارية، و هذه المكونات الثورية الثلاث لا يقدر عليها كلها إلا يسار الناصرية، فكل تيار من التيارات الأخرى إن أقام قاعدة من القواعد الثلاث أفلتت منه أخرى، فلا رأسمالية الليبرالية تتناغم مع الثورة الاجتماعية، ولا أممية الإشتراكية تلتفت للوحدة العربية، ولا انغلاق الإسلام السياسي قادر على التقدم وبناء المستقبل، ولذلك، فيسار الناصرية قدره إما أن يتحمل مسؤوليته التاريخية – كما تحملها الزعيم جمال عبد الناصر من قبل – ويتصدى لتحديات اللحظة التاريخية، (إعادة بناء المجتمع  المصري على أسس جديدة) و (حسم مصر لمعركة الوجود العربي المهدد والانتصار فيها لصالح وطن عربي موحد)، هذا وإلا خرجت الناصرية من التاريخ بسقوط مصر والوطن العربي في بئر العدم.

ويبقى هدف هذه الورقة بالنسبة للتيار الناصري، هو تخليق معادلة جديدة، فبدلاً من التجمعات الباهتة الملتفة حول أفراد – يأمل كل واحد منهم في إرث زعامة ناصر – تكون المعادلة الجديدة في فلق التيار الناصري ليمين ويسار، وهذا بديناميك خاص، يبدأ بطرح رؤية قومية عربية  إشتراكية جديدة تجذب إليها عناصر اليسار المجدد – العناصر التي يتسع أفقها لما هو جديد وما هو بعيد عن الترديد – التي تضع بوصلة اتجاه حركتها نحو المستقبل، في مقابل نفور عناصر اليمين من أي تجديد بتشبثهم بالماضي ومعاركه، ومن هنا يبدأ يسار الناصرية في التكون، و كلما اشتد ساعده واستقطب عناصر جديدة من المجال العام، كلما اقتربت عناصر اليمين من بعضها البعض، وتضامنت لمهاجمة هذا الفصيل المارق المرتد، وفي المحصلة تتشكل أفضل معادلة ممكنة للتيار الناصري ككل، يمين محافظ يعمل كذاكرة تحد من شرود تجديد اليسار حتى لا يتجاوز ثوابت القومية العربية والعدل الاجتماعي والاستقلال في القرار، ويسار مجدد ينفك من سيطرة جمود اليمين وتحجره، ومن هذا المنطلق نطرح البيان القومي (كتاب البيان القومي) بمبادئه السبعة كمبادرة للدفع بهذا الاتجاه، وهو نواة قابلة للنقاش والاضافة والحذف، ورؤية تمثل خريطة طريق صقل مستقبلاً أقوى.

 

 

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول إذاعة ونشر رد «عبدالناصر» على خطاب الرئيس العراقى أحمد حسن البكر

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول …

تعليق واحد

  1. عاطف محمد فرحات

    عرض رائع للتجديد المطلوب و المفروض مع الأتفاق على الفكرة و الطرح القابل للنقاش مع عدم الأختلاف مع يمين التيار الناصرى بكل أطايفه . فلتكن أنطلاقة تجديد لتطبيق فكرة شاملة تراعى مستحدثات العصر و التغيير الواقع بالمجتمع المصرى و العربى و العالمى. بالتوفبق و أنا معكم قلبا و قالبا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *