الرئيسية / حوارات ناصرية / جمال عبد الناصر / عبد الناصر وصوت العرب

عبد الناصر وصوت العرب

grande

الرئيس: أنا عايزك وعايزهم معاك تفهموا إنهم في “صوت العرب” جيش.. أيوه جيش.. ويمكن أكثر أهمية ومسئولية.. إحنا بنحارب به كل يوم. وبننتصر به كتير.. فاهمني يا أحمد.

عبد الناصر وصوت العرب 1

صوت العرب من القاهرة – رسالة القائد جمال عبدالناصر

كلمة الرئيس جمال عبد الناصر أذاعها من صوت العرب بمناسبة مرور العام الأول على بدء انطلاق هذه الإذاعة من القاهرة

كلمة الرئيس جمال عبد الناصر أذاعها من صوت العرب بمناسبة مرور العام الأول على بدء انطلاقها

أيها الإخوة فى العروبة المجيدة:

باسم الله العلى القدير ، وباسم العروبة الخالدة الماجدة ، وباسم الأمة العربية الواحدة أبعث إليكم بتحية عربية من مصر العربية عبر أثير صوت العرب ؛ الذى بعثته أمة النيل عربياً صادقاً فى عروبته ، يهز عمالقة الاستعمار ، ويفضح دسائسهم ويكشف حيلهم ، ويسخر من شيوخ الغدر وعجائز الخيانة فى عالم العروبة والإسلام.

أطلقت مصر صوت العرب من قلبكم – من القاهرة – حرباً على المستعمرين وشوكاً يدمى ظهور الغادرين ، أطلقته مصر يعلن للعالم أجمع إيمان مصر بأن العرب قد عرفوا أنفسهم ، وأدركوا ذواتهم ، واستظهروا قوتهم.. أمة واحدة لا تفصلها الحدود، ولا تمزقها الشهوات ، ولا يقف بينها وبين الحرية تآمر الاستعمار. ولم يمض على صوتكم الحر – صوت العرب – عام واحد حتى كان العرب جميعاً يلتفون حوله ، فقد صدر من مصر العربية ، واثقين من عروبته ، فالعروبة شعاره الأسمى ، يؤمنون به فهو من العرب وبالعرب وللعرب.

وكم سعدنا إذ نرى صوتنا جميعاً – صوت العرب – وقد حقق الوحدة العربية ، إذ جمع العرب حوله.. عقولهم تفكر معه فى مشاكل الأمة العربية الواحدة ، وكفاحهم يتشكل بكفاحه من أجل الحرية العربية الخالدة.

وكان طبيعياً – وصوت العرب يسعى إلى وحدة العرب الأحرار – أن تتآلب عليه قوى المستعمرين الغادرين تريد أن تخنقه ، ولكن صوت العرب بقى – بعون الله وبثقة العرب وبعروبة مصر – بقى صوتاً حراً أبياً ، لأنه صوت الحق العربى الثابت على مر الأيام والدهور.

واليوم إذ يبلغ صوت العرب الوليد العام الأول من عمر الدهر ، وسط خضم هائج تموج فيه الدسائس ويصطرع فيه الاستعمار وتتلاطم فيه مصالح المستعمرين. .

اليوم إذ يقف صوت العرب على عتبة عام ثان ، سيقضيه – بإذن الموفق المعين – فى خدمة العرب . .

اليوم يسعدنى – ووحدة العرب تبدو أقوى ما تكون ضد الاستعمار وضد المستعمرين – أن أحيى الصوت الحبيب فى عيد ميلاده الأول ، أحييه باسم مصر الثائرة من أجل العروبة ، وأحيى فيه العرب الذين التفوا حوله ووثقوا به وأمنوا بعروبته ، أحييكم وأحيى وحدتكم العربية الخالدة.

والسلام عليكم ورحمة الله.
جمال عبدالناصر
عبد الناصر وصوت العرب 2 – موعد مع الرئيس في الجزيرة
موعد مع الرئيس في الجزيرة

ستظل مشاهد فرار الاستعمار من منطقتنا العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، موحية لكل مقاوم عربي يحمل سلاحه الآن في وجه الاستعمار العائد بنفس ثوبه القديم.. شهدت شعوب المنطقة في تلك المرحلة الناصعة بنضالها أعلامها ترفرف للمرة الأولي بعد عشرات السنين من ذل الاستعمار وقهره، وعاشت صحوة التواصل القومي بفضل قياة جمال عبدالناصر الذي رأي مبكرا وبعد شهور قليلة من قيام ثورة 23 يوليو 1952 أن أمن مصر في العرب وأمن العرب في مصر، وانطلاقا من هذه الرؤية وفي عام 1953 كلف ضابط المخابرات فتحي الديب بوضع خطة لتحرير الوطن العربي من الاستعمار، فوضح “الديب” خطته التي قامت علي عدة عناصر كان من أبرزها تأسيس برنامج إذاعي يحمل اسم “صوت العرب”، والذي صار إذاعة مستقلة فيما بعد، ووقع اختيار “الديب” علي أحمد سعيد ليكون مذيعه، ثم مسئولا عنه بعد أسابيع قليلة من إطلاقه في 4 يوليو عام 1953، وتدريجيا أصبح هو الصوت الإعلامي الأبرز لـ”جمال عبدالناصر”، كما أصبحت “صوت العرب” السوط الإعلامي الذي يلهب ظهر الاستعمار ولم يكن أحمد سعيد مجرد مذيع ناقل للأخبار أو البرامج، وإنما كان طرفا رئيسيا في عشرات الأحدا!
ث السياسية التي شهدتها المنطقة العربية آنذاك ولهذا تكتسب هذه الصفحات من مذكراته أهمية بالغة، حيث يكشف فيها حقائق تنشر لأول مرة لتعطي مزيدا من الضوء علي هذه المرحلة المهمة في تاريخنا العربي، وفي الحلقة الماضية كشف “سعيد” عن جانب من حالة الإذاعة بعد قيام الثورة مباشرة والدور السلبي للضابط الرقيب الذي وضعته الثورة في الإذاعة وتفاصيل الحوار الذي دار حول ذلك في أول لقاء جمعه مع ضابط المخابرات فتحي الديب في مبني الإذاعة، حيث توجه “الديب” إليها لإبلاغ “سعيد” باختياره مذيعا لبرنامج جديد هو برنامج “صوت العرب”.. وإلي نص الحلقة الثانية من المذكرات.

واصل “الديب” عرض قرار تأسيس “صوت العرب” علي أحمد سعيد بـ”حماس” بالغ واستمر الحوار بينهما علي هذا النحو:

أحمد: كلامك عظيم وحماسك يطمن.. لكن انت مع احترامي يوزباشي.. يعني جزء صغير من كل كبير، ويستغرق فتحي الديب في ضحكة يراها أحمد سعيد تاريخية وهو يهمس له كمن يخبر بسر لا يريد أن يسمعه أحد.

فتحي: اطمئن يا أستاذ أحمد.. الكبير قوي معايا في كل اللي باقوله.

أحم: يعني إيه.. مش فاهم؟

ويعاود فتحي الديب همسة وهو يضاعف من خفض صوته.

فتحي: الكبير.. الكبير قوي قوي موافق علي أن البرنامج ده يكون حر حتي في نقد قرارات لمجلس الثورة.

أحمد: مش معقول.

فتحي: مش مصدف طب خد اقرأ.

ويخرج فتحي الديب من حقيبته ملفا يميل إلي اللون الأصفر ويعطي أحمد سعيد ورقة منه وهو يشير إلي علامة استفهام أمام الفقرة 3 من البند أولا حيث يقرأ أحمد سعيد “تناول مشكلات الوطن العربي وتحليلها مع التصدي لكل التصرفات الخاطئة للسلطات العربية الحاكمة بما فيها حكومة الثورة بـ”مصر” إذا ما أخطأت ليقتنع المواطن العربي أن هذه الإذاعة هي بالفعل تجسيد حقيقي وتعبير صادق عن آماله وآرائه.

ويمد فتحي الديب يده ليسترد الورقة من يد أحمد سعيد الذي سارع لإلقاء نظرة شاملة علي صدرها ويتمكن من أن يقرأ في أعلاها عبارة: “بسم الله الرحمن الرحيم ـ سري جدا ـ خطة العمل المقترحة لفرع الشئون العربية ـ وعلي يمين كل هذا كلمة أوافق وتوقيع جمال والتاريخ 31/3/1953.

ويتوجه فتحي الديب ودودا منعشا إلي أحمد سعيد.. قائلا:

أظن دلوقت اطمنت.

ويجيب أحمد سعيد في حماس: اتطمنت.. المهم تتطمن سيادتك و… الكبير.. الكبير قوي قوي.

وينفجر فتحي الديب ضاحكا قائلا: للدرجة دي واثق من نفسك.

ويقطع حاجب مراقبة البرامج الثقافية استرسال فتحي الديب وأحمد سعيد في الحديث الطويل بدخول الحجرة الزجاجية معلنا وصول مراقبة البرامج الأستاذ صالح جودت، فيقف فتحي الديب ويعيد أوراقه إلي حقيبته وهو يقول:

بينا يا أستاذ أحمد نقابله.. تعرفني بيه، وأعرفه بمهمتي.. وتشوف رأيه لغاية ما يجي اللواء الرحماني “رئيس الإذاعة”، ويتعرض عليه الطلب الرسمي.. منها كسب وقت، وكسب رأي، وكسب موافقته.. ما أنت برضك مرؤوس له من يوم ركن الجيش.

ويضحك أحمد سعيد:

أنت عارف كل حاجة.. أيوه صحيح، ما أنت مخابرات بقي.

تواصلت الاستعدادات علي قدم وساق لإطلاق البرنامج الجديد ويقول سعيد من جانبي بحثت عما يزودني بفن مخاطبة الجماهير العربية وما يجب فعله في ذلك، فذهبت إلي فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر، والشيخ أحمد حسن الباقوري، وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.. ولما كنت من مريدي الإمام شلتوت، وممن يحضرون لقاء الخميس في داره كل أسبوع، ذهبت إليه مستأذنا قبل بدء اللقا الأسبوعي بنصف ساعة لأسأله عن صيغة التخاطب مع المستمعين العرب، وأذكر ضمن ما قاله لي في ذلك من أشياء كثيرة قوله عن بلاغة اللغة العربية وحتمية الإلمام بأصولها للتأثير علي الجماهير وقت مخاطبتها.

ـ قال الشيخ: اللغة العربية هي لغة الأمة أيا كان دين أفرادها، فأقبل عليها، ومن الناشر لها والمحافظ عليها كتاب الله، وقصار السور منه بالذات، فالإذاعة التي أنت بسبيلها موجهة إلي عموم الناس، وهؤلاء العموم لبساطة علمهم يحفظون ولو كانو أميين من قصار السور ما يمكنهم من أداء الفروض الخمس كل يوم، فليكن حديثك إليهم علي شاكلتها، وكذلك الجزل من الشعر حبذا لو جاءك بما يعلمونه بمدارسهم في المغرب والمشرق وكذلك بما هو بديع وذائع بما نظمه شعراء بلادهم القدامي والمحدثون.

أحمد: والأداء يا مولانا؟!

الشيخ: تسمعني في حيث الصباح ( )

أحمد: الحمد لله.

الشيخ: وتسمع العميد طه حسين في الإذاعة والخطابة والمحاضرات.

أحمد: كثير.

الشيخ: والعزيز المفوه مكرم عبيد.

أحمد: مرتين بس.. مرة في محكمة في قضية سياسية جنائية.. ومرة زمان وأنا طالب في مؤتمر الأحزاب المعارضة ضد حكومة الوفد اللي اتشكلت بعد إنذار الإنجليز للملك يوم 4 فبراير سنة 1942.

الشيخ: (ضاحكا)، جربنا.. يعني جرب أسلوب أحدنا كل يوم.. ثم أعصرنا أو البعض منا حتي تصل إلي المزيج الذي يتذوقه سامعوك ويعجبون به فيقبلون عليك.

أحمد: العفو يا مولانا.. بس فيه مجتمعات زي لبنان مثلا واليمن جاءتني دراسات مبدئية عن مدارك متميزة لأسباب اجتماعية ودينية وكمان مذهبية وثقافية تفرض اختلاف مضمون وصيغة كلام وأسلوب أداء.

الشيخ: الكف واحد.. غير أن أصابعه تختلف طولا واستدارة، والعينان في رأس واحد لشخص واحد وإحداهما مبصرة أو تامة الإبصار بينما الأخري ضريرة أو تندرج قدرتها بين ربع العمي والطشاش.. المهم أن يكرمك الله ويفتح عليك أن تعرف ما ترتاح إليه أسماع الناس من عبارات وتركيبات المفردات، فإذا ما جاءت صياغتك لما هم يتحرقون شوقا لسماعه أقبلوا عليك متأملين بالعقول والجوارح وهذه قمة الداعية.

بعد الشيخ شلتوت ذهبت لنفس الغرض إلي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وبصحبتي اثنين من مريدي العميد هما كروان الإذاعة محمد فتحي وزميله الأستاذ سامي داود الذي طردته من الإذاعة يساريته ودعوته لإقامة تشكيل نقابي للإذاعيين، ويدور حوار شاركنا فيه نحن الثلاثة أفادني العميد فيها عن قيمة العمل الإذاعي أو عن مفهومه للكلمة المسموعة من حيث اختيار المفردات وصياغتها ومدة جملها ونهايات أمرها، أو من حيث إلقائها في السمع لتثير في عموم السامعين مع المتعة والشجن حركة في النفس ونشاطا في الذهن يجعل الكل المستمع في الواحد المطلوب.

ضرب العميد أمثلة كثيرة من القرآن الكريم علي ما قاله في فن مخاطبة المستمع، وكرر رأيه في الإذاعة وأنها مجرد تلقي بالأذن مما يفرض علي العاملين بها أن يدركوا من حيث كون عباراتهم لا يصح استردادها وإعادة ترديدها وسماعها بأن عليهم مع استهواء المتلقين لمضمونها أن يجعلوا مقولاتهم تزخر في صياغتها بتكرار تحبه الأذن وتعشق تكراره عليها متجددا متطورا.

ولما سألت العميد عن أسلوب الأداء الذي يجب أن أتبعه فقال لي وعلي وجهه ابتسامة أنيسة مداعبة:

ـ وفيم تحركك المدرسة التي ابتدعتها وفرضتك بسلام عليكم من القنال؟!.. وفي إشارة من الدكتور طه حسين إلي الرسائل التي كنت أنقلها للإذاعة عن نشاط الفدائيين في منطقة القناة قبل الثورة وكانت تبدأ بعبارة سلام عليكم من القنال.

صدر مني صوت عفوي ارتفعت له ضحكة العميد حتي طغت علي ضحكات محمد فتحي وسامي داود وليصطك سمعي بسرعة بصوت أستاذي محمد فتحي يقول لي:

إيه يا أحمد الصوت اللي طلع منك ده.. لا هو باين صرخة ولا نهقة ولا حتي شخرة.

ويشعر أحمد سعيد بمسام جلده كله تفض عرقا غزيرا بينما كان سامي داود يقول بدماثة:

ـ حلمك علي أحمد يا أستاذ فتحي.. ده الدكتور طه حسين أعلنه ودشنه صاحب مدرسة جديدة في الأداء.

ـ ويحسم العميد الأمر ببضع كلمات مازال يراها أحمد سعيد إلي اليوم أرفع ما أهدي إليه من أوسمة.

ـ قال العميد: أشهد أني من حيث لا تدري النفس أو يدرك العقل وأنا ليس لي من سبيل المعرفة غير حاسة السمع: فكلما كنت أسمع نداءه عقب إلغاء معاهدة 36 بسلام عليكم من القنال وكفاح من أجلكم بالقنال وانتصاركم في القنال: أني أكاد أراه وحوله شباب الفدائيين وهم يجاهدون ويستشهدون وهم ينزلون بجند الاحتلال ما هو هزيمة لهم وانتصار لنا.

ويعترف أحمد سعيد بأن قدرا غير قليل من الزهو قد استبد به لحظات سرعان ما بدأه العميد بقوله حانيا.

ـ غير أن لي رأيا.. لا في الأداء حيث إن تثوير العامة يفترض مع نبرة الحماس ذلك القدر من الإحساس الذاتي بصدق الثورية في معدن الصوت وهو أمر ذاتي يستحيل علي غيره تقليده فيه، وإنما رأيي ينصب علي صياغة في هذا النداء المثلث المعاني.. فهو نداء عاكس وليس بحافز إلا في شقه العام، فالسلام عليكم والكفاح لأجلكم والنصر لكم وكأن الفدائيين من الجند المرتزقة استأجرهم الشعب للدفاع عنه.. فالنداء هنا عاكس لنشاط هؤلاء الجند بينما كان الواجب والجند من أبناء الشعب أن تجيء صيغة حافزة لجموع المستمعين من الشعب..

عبدالناصر لـ “صالح جودت”: الثورة داخلة علي مفاوضات وصراعات.. تفتكر من المصلحة تأخير استعمال سلاح الكلمة التي اشتكي منها تشرشل وأعوانه

كأن يقال: سلام عليكم من القنال وكفاح معكم بالقنال وانتصاركم في القنال.. هكذا يصير النداء حافزا يطلب من كل سامعيه أبناء الشعب المشاركة مع الفدائيين جهادا من تسليح وتمويل وتطبيب.. وذلك لأن اختيار الكلمة ولو كانت حرفا واحدا مجردة مثل الولو قد تجعل للعبارة عندما تترسب في الذهن هدفا غير المرجو أو تقليلا من السحر المطلوب لأثرها بغير المستهدف.. وللأستاذ الجليل أمين الخولي باع غزير في هذا الأمر وهو حفي بكل ما يقصده، خاصة إن علم أنك بسبيل مخاطبة الملايين من العرب.

من رحيق الشيخ شلتوت، والدكتور طه حسين، امتص أحمد سعيد ما يصقل موهبته من فن مخاطبة الجماهير العربية، وبينما هو يواصل تسلحه لمهمته الجديدة تقع مفاجأة يتذكرها تفصيليا:

يقول أحمد سعيد: بينما أنا علي هذا الوضع فوجئت برجل المخابرات فتحي الديب ظهر يوم 15 يونيو 1953 يدعو صالح جودت مراقب البرامج الثقافية والأركان ومساعده في الإعداد لبرنامج “صوت العرب” ويدعوني للذهاب معه إلي مبني مجلس الثورة بـ”الجزيرة” للقاء بعض أعضائه لمناقشتهم في بعض شئون البرنامج الجديد، حيث يلتقي ثلاثتهم مع زكريا محيي الدين نحو عشرين دقيقة يدخل عليهم بعدها جمال عبدالناصر ليبادرهم بعد تحية طويلة بحوار مهم حول عملية الاستعدادات ودار كالتالي:

الرئيس: السلام عليكم.. أهلا يا أستاذ صالح.. أهلا يا أستاذ أحمد.. إزيك يا فتحي وبعد أن رد ثلاثتهم علي تحية الرئيس ومجاملته سمعوه يقول:

ـ أنا متابع نشاطكم في الإعداد للبرنامج.. ومقدر تماما جهودكم في جمع المعلومات.. وعارف إن العملية معقدة تمام زي الإعداد لحملة عسكرية.. خاصة أن عملكم مع عقول ونفوس وظروف ناس مختلفة المصالح والمدارك كمان.. وده اللي مخليني أصبر علشان البرنامج يبتدي قوي وناجح من أول يوم.. وكان موقف عظيم منك يا أستاذ صالح وأنت شاعر كبير لك في اللغة كتير إنك تشجع أحمد سعيد علي سؤال الشيخ الباقوري والشيخ شلتوت والأبحاث اللي طلبتوها من الجامعة العربية وبعض الأساتذة والكتاب.. كل ده طمني.. بس الأحداث ضاغطة علينا.. وإحنا كمان بنضغط عليها خصوصا بعد توقيع اتفاقية السودان في 12 فبراير.. وتركيزنا بعدها علي الجلاء عن مصر وده هدف من أهم أهداف الثورة ـ لكن الجماعة في لندن لهم رأي تاني والأمريكان معاهم عشان البترول وإسرائيل ولو أنهم بيدعوا في الظاهر الحياد.. المهم إحنا داخلين علي أيام نحتاج فيها للبرنامج بتاعكم.. فيه مذكرة لـ”تشرشل” وقع نصها في إيدنا متطمنش.. وفيه احتمال تصعيد مواقف في منطقة القناة زي سنة 51 اللي عشتها يا أحمد.. أظن واجبكم انكم تبتدوا في أقرب فرصة ممكنة. أنا عايز البرنامج ده أحد أسلحة الثورة في !
تحقيق استقلال مصر والعرب.. أنتم إيه اللي مأخركم.

ـ ويبادر فتحي الديب الرئيس قائلا:

ـ استكمال معلومات يا سيادة الرئيس.

ـ الرئيس: وليه الاستكمال ده ما يتمش مع بدء العمل.. ثم يا فتحي الاستكمال ده عملية مستمرة عمرها ما تقف يوم وإلا اتجمد العمل.. وبعدين أنا عايز أسمع بتوع الإذاعة.. أمال أنا طلبتهم معاك ليه.. أنت كان الله في عونك.

ـ صالح: الحقيقة يا أفندم إحنا شبه جاهزين.. بس قلنا لو نجهز أكتر يكون أفضل؟.. وكان في ذهننا إن بدء الإرسال يكون يوم 23 يوليو.. يعني بمناسبة مرور سنة علي الثورة.

ويوجه عبدالناصر نظرة تأمل جامد ثم يندفع قائلا في عتاب وحسم:

ـ يا أستاذ صالح الثورة داخلة علي مفاوضات وصراعات.. تفتكر من المصلحة تأخير استعمال سلاح الكلمة اللي اشتكي منها أعوان تشرشل وهيه شوية تصريحات ومقالات علشان احتفل ببدء برنامج إذاعة عربية بعد أكتر من شهر في مناسبة مرور سنة علي الثورة!!.. أنا لما وافقت عليه مش عشان احتفال.. لأه.. عشان اشتغل بيه وأحارب بيه كمان والنهاردة قبل بكرة.

ويرفع أحمد سعيد يده طالبا الإذن بالكلام:

ـ الرئيس: أيوه يا أحمد.

ـ أحمد: بعد إذن الأستاذ صالح جودت.. إحنا صحيح فكرنا في البدء في يوم 23 يوليو لأن فيه استحالة نبتدي قبل 15 أو 18 يوليو حسب وجهة نظر الهندسة الإذاعية فقلنا نبتدي الإرسال يوم 23 يوليو مع المناسبة يعني.

ـ الرئيس: وإيه مشكلة الهندسة عندكم.

ـ صالح: محطات الإرسال كلها مشغولة.

ـ أحمد: وده يا أستاذ صالح بالإضافة إلي أن الموجات المخصصة دوليا لـ”مصر” علي قد البرامج الشغالة حاليا.

ـ الرئيس: يعني مفيش مجال تبتدوا علي طول.

ـ صالح: هندسيا يا سيادة الرئيس.. مفيش خالص.

ـ ويعاود أحمد سعيد رفع يده طالبا الإذن بالكلام.

ـ الرئيس: خير يا أحمد.

ـ أحمد: بعد إذن الأستاذ صالح.. حضرتك قول للرئيس اقتراح المهندس عز الدين فؤاد بالحل المؤقت الوحيد للمشكلة.

الرئيس: ما تقوله انت يا أحمد.

أحمد: المهندس عز الدين اقترح إما إلغاء البرنامج الثاني، وده بيتذاع علي موجتين متوسطة تتسمع في المشرق وموجة قصيرة تتسمع في المغرب.

الرئيس البرنامج الثاني ده بتاع المثقفين.

صالح: أيوه يا أفندم.

الرئيس: لا لا.. إلغاء لبرنامج.. وبرنامج ثقافي رفيع زي ده.

أحمد: لو سمح لي سيادة الرئيس أكمل اقتراح المهندس عز الدين.

الرئيس: أيوه صحيح.. انت قلت إما إلغاء.. طيب وإما إيه.

أحمد: نقله علي محطة متوسطة فقط محدود الاستماع بالقاهرة والمحافظات اللي حواليها دون موجة قصيرة ولحين ميسرة.

الرئيس: ده حل ممتاز ومؤقت.. والقاهرة عامة مركز المثقفين.. بس بشرط تجييني بكرة ومش بعده مذكرة بطلب فتح اعتماد لشراء محطات إرسال قوية علشان برنامج العرب وبرنامج المثقفين كمان.

ويتجه جمال عبدالناصر بحديثه إلي زكريا محيي الدين ورجله فتحي الديب قائلا:

ـ أنا عايز: غير مذكرة بكرة ـ دراسة تفصيلية شاملة عن أوضاع الإذاعة ومحطاتها وتصور المهندسين فيها عن تطويرها في العام فبناء الإذاعة في رأيي ح تبقي من أهم أسلحة المستقبل.

ويعاود عبدالناصر تأمله لـ”صالح جودت” و”أحمد سعيد” قائلا:

الرئيس: أظن مقدرين كويس رأيي في شغلكم.. الإذاعة ح تبقي من أهم أسلحة المستقبل.

صالح: الكلمة يا سيادة الرئيس لها فعل السحر.

أحمد: كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين.

يبتسم جمال عبدالناصر متجها بحديثه إلي أحمد سعيد قائلا:

ـ وقبل القرآن يا أحمد نزل في الإنجيل في البدء كانت الكلمة.. بمعني الإرادة والمشيئة والمعجزة.

ويدرك أحمد سعيد مغزي تعقيب عبدالناصر الذي كان قد وقف قائلا في صيغة أقرب إلي الأمر.

ـ أظن تقدروا بالشكل ده تبتدوا نقول بعد أسبوع أسبوعين بالكتير علي أساس إحلال برنامج

في 4 يوليو 1953 انطلق “صوت العرب” مدويا ليتحول الحلم إلي حقيقة والفكرة إلي واقع

العرب مكان البرنامج الثاني.. ودي عايزة متابعة منك يا فتحي.. وأي مشكلة تصادفك عندك البكباشي زكريا.. أنا مش عايز تعقيدات إدارية تعطل بدء البرنامج أكتر من كده.. وابقوا كملوا دراساتكم أثناء الشغل.

أحمد: ده أكيد ح يحصل يا سيادة الرئيس.. لأن ردود فعل حلقاته ح تفرض تطوير الدراسات نفسها يوم بعد يوم.

الرئيس: بالمفهوم ده أبقي اطمنت.. موفقين بإذن الله.

وينصرف عبدالناصر لنبقي ربع ساعة أخري مع زكريا محيي الدين يشرح لهم احتمالات العلاقات المصرية ـ البريطانية ـ الأمريكية، ويتفق معهم علي تحديد السبت الرابع من يوليو سنة 1953 للبدء في بث برنامج “صوت العرب” لمدة ثمان وعشرين دقيقة بصفة مؤقتة كل يوم.

ويأتي اليوم الإذاعي العربي الثوري الموعود.

وتدق ساعة جامعة القاهرة معلنة تمام السادسة من مساء يوم السبت 4 يوليو 1953 ليتردد في الأثير “صوت العرب” انطلق مدويا ليتحول الحلم إلي حقيقة والفكرة إلي واقع.

ومازلت أذكر مجمل تفاصيل أول حلقة من “صوت العرب”.. إذ بدأ بنشيد ـ أمجاد العرب أمجاد في بلادنا كرام أسياد ـ تلته كلمة رئيس مجلس الثورة اللواء محمد نجيب ثم نشيد النصر لنا

بعد أول حلقة من صوت العرب قال لنا الرئيس: أتابع نشاطكم ومقدر مجهودكم في جمع المعلومات

الذي تلته كلمة أمين الجامعة العربية عبدالخالق حسونة ولينهي البرنامج بحوار مع الموسيقار محمد عبدالوهاب حول دور الأغنية في خدمة القضايا العربية مع نماذج من أعماله: إلاما الخلف بينكموا إلام؟.. وهذه الضجة الكبري علام؟ ـ وفلسطين أخي جازور الظالمون المدي ـ ودمشق سلام من صبا بردي أرق، ولا أجد أبلغ مما قاله فتحي الديب في وصف مشاعره التي هي في الحقيقة مشاعرنا جميعا وهو يستمع إلي حلمه وقد تجسد مدويا داعيا العرب إلي التحرر والوحدة العربية، قال “الديب” في كتابه “جمال عبدالناصر وتحرير المشرق العربي”: “وجاء يوم 4 يوليو 1953، وكانت لاحظاته رهيبة ومرت ساعات النهار طويلة مثيرة للأعصاب، وشعرت شعور الأب الذي ينتظر وليده فيبتعد عن مكان الولادة هروبا من معاناة ألم المخاض.. ولم أجرؤ علي البقاء في الاستوديو ولا بمنزلي فخرجت إلي مكان انفردت فيه بنفسي، وحان الوقت واستمعت إلي دقات قلبي في أذني، وبدأ “صوت العرب” يري النور علي الهواء.. مرددا صوت العروبة بآلامها وآمالها.

عبد الناصر وصوت العرب 3 – قصة ثورة انطلقت من استوديو صوت العرب

قصة ثورة انطلقت من استديو صوت العرب

ولم يكن أحمد سعيد مجرد مذيع ناقل للاخبار أو البرامج وانما كان طرفا رئيسيا في عشرات الاحداث السياسية التي شهدتها المنطقة ولهذا تكتسب هذه الصفحات من مذكراته أهمية بالغة، حيث يكشف فيها حقائق تنشر لأول مرة، لتعطي مزيدا من الضوء علي هذه المرحلة الهامة في تاريخنا العربي.
في الحلقات الماضية تناول أحمد سعد بداية التفكير في صوت العرب ومراحل التأسيس لها، ثم معركة اعادة العاهل المغربي محمد الخامس الي عرشه.

ستظل مشاهد فرار الاستعمار من منطقتنا العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، موحية لكل مقاوم عربي يحمل سلاحه الآن في وجه الاستعمار العائد بنفس ثوبه القديم وشهدت شعوب المنطقة في هذه المرحلة الناصعة بنضالها اعلامها ترفرف للمرة الأولي بعد عشرات السنين من ذل الاستعمار وقهره، وعاشت صحوة التواصل القومي بفضل قيادة جمال عبدالناصر الذي رأي مبكرا وبعد شهور قليلة من قيام ثورة 23 يوليو 1952 أن أمن مصر في العرب وأمن العرب في مصر، انطلاقا من هذه الرؤية وفي عام 1953 كلف ضابط المخابرات فتحي الديب بوضع خطة لتحرير الوطن العربي من الاستعمار، فوضع الديب خطته التي قامت علي عدة عناصر كان من ابرزها تأسيس برنامج اذاعي يحمل اسم صوت العرب، صار اذاعة مستقلة فيما بعد، ووقع اختيار الديب علي أحمد سعيد ليكون مذيعه، ثم مسئولا عنه بعد اسابيع قليلة من اطلاقه في 4 يوليو عام 1953، وتدريجيا اصبح هو الصوت الاعلامي الأبرز لجمال عبدالناصر، كما اصبحت صوت العرب السوط الاعلامي الذي يلهب ظهر الاستعمار.

في هذه الحلقة الخامسة من المذكرات يتحدث أحمد سعيد عن بدايات الثورة الجزائرية ودور صوت العرب فيها، وبداية تعارفه علي زعيمها أحمد بن بيللا الذي جاء الي صوت العرب باسم مستعار وإلي نص الحلقة:

مزياني

لم تمض غير ايام قليلة لا تتجاوز الاربعين يوما علي بدء الثورة العفوية التلقائية في المغرب في 20/23 اغسطس سنة 1953 حتي فوجئ أحمد سعيد بحارس مبني الاذاعة بشارع الشريفين وسط القاهرة يبلغه عصر يوم 27 سبتمبر من نفس العام بان شخصا من الجزائر يريد أن يري أي مسئول موجود من اسرة صوت العرب، صعد الضيف ودخل علي أحمد سعيد الذي رأي أمامه شابا باسق الطول تميل بشرته الي السمرة بينما بدت ملامح وجهه أشبه بتضاريس جبال رغم ما تعكسه من بساطة تجعل من يرمق بداخله يشعر بالارتياح له والاقبال عليه.. وعلي الرغم من هذا الارتياح الذي سكن أحمد سعيد لهذا الشاب من الوهلة الأولي، إلا أنه لم يرد بخلده أبدا أن تاريخ الجزائر كله ستعاد كتابته مع هذا الشاب.. فمن هو.. وما القصة التي حملها وجاء بها الي أحمد سعيد..

يقول سعيد: دعوت الشاب الجزائري للجلوس علي المقعد الوحيد أمام مكتبي وقدم الضيف نفسه في لهجة جزائرية متداخلة الحروف بعض الشيء ليدور حوار انقله كما هو في اجندتي الخاصة.. قدم الشاب نفسه قائلا:

مزياني: أنا مزياني مسعود.

أحمد سعيد: أهلا.

مزياني: بمن أتشرف؟

أحمد سعيد: أنا أحمد سعيد.

مزياني: صوت العرب؟

أحمد سعيد: أيوه..

مزياني. أنا قادم توي من الجزائر.. من اسكندرية.. مارسيليا..

أحمد سعيد: أهلا.. أهلا.. إزي اخواننا في الجزائر.

مزياني: الحمد لله سعدنا بالذات بثورة المغرب وتشجيع صوت العرب لشعبها.

أحمد سعيد: ده واجبنا نحو إخواننا.

مزياني: واختكم في الجزائر؟..

أحمد سعيد: يشدوا حيلهم وإحنا معاهم.. ثورة المغرب قرصتهم.. وكمان عمليات المقاومة في تونس.

مزياني: هذا سبب حضوري لكم في مصر.

أحمد سعيد: وصوت العرب جاهزة دايما لخدمة الأحرار والثوار.. بس لازم الأول تروح مكتب تحرير المغرب العربي.. يبدو لي من كلامك وشكلك انك جاي من القطار علينا علي طول في صوت العرب.

مزياني: نعم.

أحمد سعيد: شوف يا سيدي إحنا عندنا اسلوب عمل مع حركات التحرير اللي فاتحة مكاتب في مصر ومعتمدة من الحكومة كأنها سفارات دول مستقلة إن شاء الله.

مزياني: إن شاء الله.

أحمد سعيد: يعني التعامل بس يكون من خلال المكاتب والزعماء العرب اللاجئين اللي بيدبروا من مصر حركات التحرير.

مزياتي: بس أنا عندي سبب يمنع ذهابي عندهم..

أحمد سعيد: لكن ده شرط تنظيمي ورسمي كمان.. بيضمن تلافي مشاكل كثيرة..

مزياني: بكل احترام.. لكن أنا عندي ظروف مؤقتة تمنعني.

أحمد سعيد: طيب ممكن تجيللي الساعة سبعة.. عشان أنا بحضر دلوقت الحلقة اللي ح تتذاع الساعة ستة اليوم من صوت العرب.

مزياني: آسف.. ماني أبغي أعوقك.

ويقف مزياني مسعود مرتكبا وهو يتساءل.

مزياني: كيف أذهب الي الأزهر.

ويدله أحمد سعيد الي ما يريده ويحدد له ارقام الترام التي يمكن أن تحمله الي الازهر وهو يسأله:

أحمد سعيد: أي مكان تحتاجه في الأزهر؟

مزياني: رواق المغاربة..

أحمد سعيد: آه.. فيه جزائريين هناك تعرفهم؟

مزياني: معي لهم رسائل…

أحمد سعيد: علي خيرة الله.. أنا في انتظارك الساعة سبعة.. ضروري تيجي.. يمكن لما أسمعك اكتر اقدر ألاقي حل لحكاية رفضك انك تروح مكاتب جبهة التحرير.

مزياني: إن شاء الله.. إن شاء الله.

تعددت لقاءاتي في “مطعم كازينور” علي النيل بالجيزة بمزياني مسعود حتي كشف لي عن أنه أحمد بن بيللا

ينصرف الشاب الجزائري الباسق الطول مزياني مسعود الي الأزهر ثم يعاود الحضور الي مكتب صوت العرب، ويسعي أحمد سعيد الي اضفاء قدر من الحميمية في التصرفات معه حتي يعرف ماهي قصته بالضبط، فيأخذه الي جلسة عشاء في مطعم علي النيل اسمه كازينور وكان قائما بجوار كوبري الجيزة القديم، غير أن الجزائري الشاب تمسك بغموض موقفه مما دفع أحمد سعيد الي سؤاله عما ينتوي فعله خاصة وأن الاسلوب الرسمي للعمل المصري مع اللاجئين العرب يفرض مرور الجدد واعتمادهم من المكاتب التي تمثل شعوبهم في القاهرة.. فكان جوابه: أنه دبر نفسه مع جزائري يدرس في الأزهر ليبحث له عن امكان تعامله مع قسم الجزائر بمكتب المغرب العربي.

يتواصل الحوار بين أحمد سعيد ومزياني مسعود حتي ينتصف الليل ويبدأ عمال المطعم في إطفاء بعض الأنوار للإيحاء للرواد بأن موعد ساعة اغلاق الكازينو قد حانت وهو ما يعني الانصراف ويلحظ أحمد سعيد بعض القلق علي وجه الشاب الجزائري مزياني مسعود فيبادره سائلا:

أحمد سعيد: إيه.. فيه حاجة..

مزياني: لا .. لا شيء..

أحمد سعيد: طيب بينا نروح.. أوصلك الأزهر.

مزياني: لا.

أحمد سعيد: أمال ح تبات فين.

مزياني: ما أعرف.. أنا من اسكندرية للقطار لك في صوت العرب.

أحمد سعيد: آه.. وفين شنطتك.. الفالين تبعك!!

مزياني: ما معي فالين..

أحمد سعيد: وملابسك؟

مزياني: ما معي ملابس غير ما علي.

أحمد سعيد: طب ما انت لازم تنام.. يبقي لازمك مطرح تسكن فيه.

مزياني: تعرف؟

وقبل أن يجيبه أحمد سعيد انتبه الي أنه يجب أولا أن يسأله:

أحمد سعيد: إنت معك فلوس.. أرجنت.

أحمد سعيد: إنت معك فلوس.. أرجنت.

أحمد سعيد: كام؟

مزياني: الفين فرنك.

أحمد سعيد: يبقي لازم أدور لك علي منامة في حدود خمستاشر عشرين قرش في الليلة بالكتير.

مزياني: الشكر لك.

أحمد سعيد: بس أنت لازم بعد كده تشوف لك حل وتروح مكتب المغرب العربي.. هناك عندهم اعتمادات مالية توفر لك رعاية كاملة.

مزياني: إن شاء الله.. خمسة ستة أيام وأذهب المكتب.

أحمد سعيد: يبقي بينا علي وسط البلد.. فيه بنسيون نزلت فيه من يومين اثنين لاجئين من اليمن بثلاثين قرش في اليوم..

مزياني: لكن أنا أرجو مكان وحدي.

أحمد سعيد: ادعي الأول تلاقي حجرة خالية.

مزياني: ما تعرف غيره.

أحمد سعيد: أعرف سماعي.. لكن البنسيون ده مضمون عن غيره.. ملك لاجئ فلسطيني من حبايبنا. وتكررت لقاءاتي مع مزياني مسعود فيما بين مكاتب صوت العرب وبنسيون سلكت بوسط القاهرة وكازينور علي نيل الجيزة الذي أدمنه الشاب الجزائري.

وعصر يوم من أيام شهر أكتوبر سنة 1953 تسجل آلة تيكرز وكالة الأنباء الفرنسية خبرا عن تمرد جند جزائريين في وحدة لجيش الاستعمار الفرنسي رابضة علي الحدود الشرقية للمغرب، وما إن وصل مزياني مسعود مساء نفس اليوم الي مكتبي حتي عرضت عليه نبأ التمرد مستفسرا منه عن معلوماته عن التواجد الجزائري في الجيش الفرنسي فانطلق مزياني في حديث متدفق عن الجند الجزائري وأوضاعه المتدنية بالمقارنة بالفرنسيين رغم ما أبلوه من حسن قتال وقدموه من عزيز التضحيات من أجل فرنسا في الحرب العالمية الثانية وانه نفسه كان مجندا في الجيش الفرنسي وسبقت فرقته جميع فرق الحلفاء في الاستيلاء علي روما حتي انه منح وساما فرنسيا علقه علي صدره بنفسه الجنرال شارل ديجول، وجد هذا الكلام طريقه الي أذني مما أثار اهتمامي أكثر بمزياني مسعود وارتفعت درجة الاهتمام عندما تداعي الحوار إثر سؤال لي له حول موقف هؤلاء المجندين الجزائريين فيم لو قامت ثورة شعبية في البلاد.. فيندفع الشاب الجزائري الباسق الطول الي حديث طويل حاول خلاله التراجع عن المضي فيه اكثر من مرة لولا مناوراتي الضاغطة عليه حتي افلت لسانه آخر الأمر متحدثا عن إشارات سريعة خاطف!
ة الي ماهو معروف في التاريخ الجزائري المعاصر باسم عملية مكتب بريد وهران.

أدركت بكل ما سبق علمي به عن عملية وهران من الزعيم الجزائري اللاجئ الي مصر محمد خيضر أنني أمام شخصية عسكرية جزائرية تطوي سرا وتخشي أمرا وتحرص علي أن تكون بعيدة تماما عن احتمال أن يراها أحد غير مأمون الجانب لا تريد أن يراها أو يسمع بوجودها في مصر حتي لا يفسد عليها سبب قدومها الي مصر ووجودها كله فيها، وعلي أثر هذا الإدراك بادرت الي ملاحقة مزياني مسعود باسئلة متتابعة داخلها الكثير من العتاب علي تحفظه معي وعدم ثقته بي والبوح بحقيقة حضوره الي مصر وامتناعه عن التعامل مع مكتب المغرب العربي.. فيبوح لي آخر الأمر بانه احد افراد عملية بريد وهران، وأنه هرب من السجن مع زميل له ثم تم ترحيله خفية الي فرنسا فالاسكندرية.. فالقاهرة.

ابلغت فتحي الديب المسئول الأول عن الشئون العربية في المخابرات المصرية لتبدأ عمليات تحر ورصد ومتابعة كاملة للشاب الجزائري الباسق الطول يشترك فيها مسئول الجزائر في مكتب المغرب العربي المناضل اللاجئ محمد خيضر.. ولتنكشف سريعا كل الحقائق حول مزياني مسعود بدءا من أن اسمه الحقيقي هو أحمد بن بيللا الي عضويته لتنظيم شبابي عسكري سري بدأ يتمرد علي أسلوب الكفاح السياسي متطلعا الي تكوين تنظيم مسلح لبدء نضال متصل ضد الاستعمار متخذا من التمرد الفرنسي درسا، ومن التعاظم اليومي لثورة المغرب نموذجا يحتذي خاصة وقد احيا الأمل في نفوس الملايين الجزائريين الذين قتل لهم المستعمرون سنة 1945 اكثر من خمسة وأربعين الف شهيد في المذبحة الكبري المعروفة باسم مذبحة سطيف.

الجامعة العربية تشهد اجتماعا بتدبير من المخابرات المصرية لتوحيد أحزاب المغرب العربي في مواجهة الاستعمار الفرنسي، ومزياني مسعود يقول فيه: لا بديل عن الكفاح المسلح

مر أكثر من شهرين لتكتمل عند فتحي الديب في جهاز المخابرات تفاصيل التنظيم الجزائري الثوري الذي يقوده أحمد بن بيللا، والحالة السياسية العامة هناك ويتم تصعيد كل الدراسات الخاصة بذلك من عام 1954 الي مكتب رئيس الوزراء جمال عبدالناصر الذي يستدعي اليه فتحي الديب ليبلغه بنفس ما استقر عليه من رأي يقوم علي مبدئية قناعته بوحدة العرب نضاليا وتحرريا وأمنيا، وأن لبلاد المغرب الثلاثة خصوصية واحدة بكونها جميعا خاضعة للهيمنة الفرنسية عسكريا واقتصاديا وثقافيا مما يفرض وحدة العمل الثوري تنظيما وتوقيتا ضد الاستعمار الواحد مما يوسع عليه ميادين المواجهة فيبعثر جيشه بينها وهو ما يؤدي الي تضاؤل قدرته في مواجهة ثورتها وتتكاثر خسائره في مقاتلتها مما يدفع شعبه يوما بعد آخر الي رفض افكار الاستمرار في مقاتلة الثورة الجزائرية وصولا الي نبذ العملية الاستعمارية كأسلوب غالب في التعامل مع الشعوب.

يواصل فتحي الديب تثبيت دور برنامج صوت العرب وهو لم يزل وليدا عمره أقل من ثلاثة أشهر ولم يتجاوز ارساله خلالها نصف الساعة كل يوم بفتح ابواب المعرفة والعمل امامه وزملائه في المخابرات المصرية العامة من خلال العديد من الاتصالات التي تمت ما بين صوت العرب وكثير من العناصر الوطنية بدول شمال افريقيا والتي وجدت في هذه الاذاعة منبرا أتاح لها التعبير عن مشاعر شعوبهم من السياسة الاستعمارية الفرنسية وكيف توطدت العلاقات بين أسرة صوت العرب ومكتب المغرب العربي بالقاهرة والذي كان يرأسه وقتئذ علال الفاسي رئيس حزب الاستقلال من المغرب ومحمد خيضر عضو حزب الشعب عن الجزائر وصالح بن يوسف أمين عام الحزب الدستوري الجديد عن تونس.

لقاءات في وصوت العرب

وتفرض ظروف السرية المخابراتية لفتحي الديب في بادئ الأمر أن أدبر له عدة لقاءات مع بعض قيادات لاجئي شمال أفريقيا بالقاهرة، وكان أولها اللقاء الكبير مساء 16 مارس 1954 والذي تم بينه وأشهر هؤلاء القادة في تلك الأيام وهو بطل الريف المغربي الأمير عبدالكريم الخطابي وشقيقه المناضل محمد الخطابي كان الهدف الواضح من هذه الاجتماعات هو البحث في تنظيم الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي بدول شمال افريقيا الثلاث مع استيضاح ما يمكن أن تقدمه مصر الثورة من مساعدات لتحرير الشعب العربي بتلك الساحة ثم تشهد الحجرة الوحيدة المخصصة لاسرة صوت العرب في مبني الاذاعة بشارع الشريفين عدة اجتماعات مع زعماء آخرين.. قدمت فيها فتحي الديب ومساعده عزت سليمان علي انهما موظفان نافذان في الادارة السياسية للجامعة العربية ويعدان رسالتي ماجستير احداهما عن الوجود الفرنسي في بلاد المغرب والأخري عن الاستيطان الفرنسي في الجزائر كان كل هذا يتم من أجل معرفة الطريق الذي سيؤدي الي اشعال الثورة.

خرج فتحي الديب من هذه اللقاءات العديدة المتكررة والتي جرت جميعها تحت مظلة صوت العرب بمخطط شامل للعمل التحريري في بلاد الشمال الافريقي الخاضع للاستعمار الفرنسي يقوم علي وحدته من خلال أسلوبين متكاملين: أولهما علني سياسي ترعاه جامعة الدول العربية، وثانيهما نضالي ثوري تتابعه الشئون العربية للمخابرات المصرية. وكان الاجتماع الذي عقد في جامعة الدول العربية بتدبير من المخابرات المصرية يوم 3 ابريل 1954، هو التتويج الفعلي لكل اللقاءات السابقة بين فتحي الديب وقادة أحزاب المغرب العربي وفي هذا الاجتماع توالي قادة الشمال الافريقي في عرض أحوال بلادهم وقدرات أحزابهم في مواجهة الاستعمار حتي انتصف الليل ويتقرر استئناف لقاءاتهم مساء الغد حيث وقف من بين اعضاء وفد الجزائر هذا الوافد القديم الي صوت العرب الشاب باسق الطول مقدما نفسه باسمه التنكري مزياني مسعود طالبا بشيء من الحدة القلقة بأن يسمح له المجتمعون بالكلام باسم شباب الجزائر، واذ يجيبه المجتمعون الي ما طلب بعد أن وجهوا نظرات تساؤل الي الممثل الرسمي لحزب الشعب محمد خيضر والممثل الرسمي لحزب البيان أحمد بيوضي رد عليها محمد خيضر بهز رأسه كعلام!
ة للموافقة بينما قلب أحمد بيوضي كفه مشيرا الي الحاضرين أن ليس لديه اعتراض، فيندفع مزياني مسعود في حديث باللغة الفرنسية يبدؤه باعتذاره عن استخدامها في مقر الجامعة العربية بسبب ما فرضه الاستعمار علي أجيال الجزائر من فرنسة شاملة جعلت الشعب هناك لا يجيد التعبير عن أفكاره ومشاعره بغير الفرنسية.. ثم ينطلق في تأكيد عزمه وزملائه الذين بعثوا الي القاهرة علي بدء كفاح مسلح يحشدون فيه كل الجزائر حتي النصر.. لأنه وشباب الجزائر كفر بالحزبية التي لم تحقق أي مكسب ولن تحقق طالما بقيت الأحزاب علي النضال السياسي الذين يدعون اليه، وانتقد كل ما استمع اليه من قادة الأحزاب في الاجتماع، وقال إن أحاديثهم تفتقد الي الجدية والاخلاص، وأن كل مساعيهم ترمي الي الحصول علي المال، وقال الشاب الجزائري انه مع إخوة له من أبناء الشعب المخلصين يلتزمون امام ضمائرهم بالعمل النضالي الايجابي بالكفاح المسلح، ولا يطلبون مالا، بل كل ما يطلبونه هو السلاح ليقاتلوا به.

كتبنا رسائل بالحروف اللاتينية لأحمد بن بيللا لنطقها للشعب الجزائري بالعربية تحريضا للثورة

ويشهد الاجتماع سخونة بعد أن نزلت كلمات الشاب الجزائري كالصاعقة، وبعد أن ساد صمت رهيب القاعة للحظات.. حدثت همهمات.. ثم كلمات.. عبرت عن تباينات في الآراء حول مدي إمكانية قيام الجزائر بكفاح مسلح وخاصة عندما ذكر أحمد بيوضي ممثل حزب بيان الجزائري أن الجزائر تعاني من ظروف تجعلها غير مهيأة للنضال المسلح علي عكس الحال في المغرب، غير أن محمد خيضر ممثل حزب الشعب الجزائري انبري لهذا الرأي وصاحبه في تحد صارم جارف مؤكدا القدرة الدائمة للشعب الجزائري علي خوض الثورات.

أوشك الاجتماع أن ينفرط علي خلاف حول الجزائر ووحدة النضال ضد الاستعمار الفرنسي في كل شمال افريقيا لولا نظرة محرضة من فتحي الديب لي رفعت علي اثرها ذراعي أطلب الكلمة، الأمين المساعد للجامعة عبدالمنعم مصطفي هو رئيس الاجتماع، الذي قال فلنستمع إلي أحمد سعيد.. فقلت جملة قصيرة لم تستغرق أكثر من دقيقة مازلت أذكرها بالحرف.. فقلت:

“يا حضرات.. فرنسا حاليا مرهقة حربيا واقتصاديا وبشريا في فيتنام، وزادها ارهاقا ثورة المغرب وأحداث تونس فما بالكم لو اشتعلت الجزائر بثورة شاملة، إنني علي ثقة من دافع استقراء تاريخ الثورات والحروب أن فرص استقلال بلاد شمال افريقيا رهن باشتعال ثورة جزائرية عارمة”.

ويثني علي هذا الرأي الأمين المساعد للجامعة العربية عبدالمنعم مصطفي بعد تبادل نظرات تأييد مع رجلي المخابرات فتحي الديب وعزت سليمان.

ويلتفت عبدالمنعم مصطفي الي الحاضرين محاولا التهدئة بأسلوب دبلوماسي مهذب قائلا: ان الجامعة العربية لن تقدم معونتها لدعم قضايا التحرر في بلاد شمال افريقيا مالم تكن هناك جهة واحدة تضم كافة قوي الأحزاب في هذه البلاد.. تصل وفق ميثاق يرتضيه الجميع بهدف التضامن في الكفاح، ونيل الأقطار الثلاثة للاستقلال التام والانضمام الي جامعة الدول العربية بعيدا عن الدخول مع فرنسا في شبه اتحاد أو ميزة افضلية.. ادي هذا الكلام الي تراجع الجميع في حدتهم الخطابية، وعادوا الي الحديث حول توحيد الكلمة، وتقدم عبدالمنعم مصطفي بمشروع ميثاق كانت المخابرات اعدته من قبل ووافق عليه الجميع وتم التوقيع عليه من ممثلي الاحزاب الذين حضروا الاجتماع وهم من المغرب.. علال الفاسي وعبدالمجيد بن جلون عن حزب الاستقلال المراكشي.. محمد حسن الوزاني وأحمد بن سوده عن حزب الشوري والاستقلال، وأحمد بن الهليج عن حزب الاصلاح بتطوان والمكي الناصري عن حزب الوحدة والاستقلال بطنجة ومن الجزائر محمد خيضر عن حزب الشعب الجزائري.. أحمد بيوضي عن حزب البيان الجزائري، وحضر عضوان من الشباب ممثلين للجنة المركزية المنشقة علي قيادي معالي الحاج في ح!
زب الشعب الجزائري، ومن تونس حضر، صالح بن يوسف ومعه علي البهلواني عن الحزب الحر الدستوري الجديد، ومحمد صالح بدرة عن الحزب الحر الدستوري القديم.

كانت الساعة الحادية عشرة والدقيقة السابعة والخمسين من ليل الرابع من ابريل سنة 1954 والمجتمعون يوقعون ميثاق تحرير المغرب العربي.. كان الميثاق اشبه بعقد قران باركه الله وتم بفضله انجاب ثورة الجزائر لتكون كما يقول العامة في الأمثال عن ابن حمل السبعة اشهر: إن انفعاله سريع وغضبه مشتعل.

وتبدأ صوت العرب استعدادا مكثفا مواكبا لعملية الاعداد لثورة الجزائر، نجد أنفسنا أمام مفارقة غريبة وصفها عالم جزائري هو الدكتور أبوعسران الشيخ استاذ تاريخ الفلسفة بجامعة الجزائر بأنها عملية تعريب متنامية للشخصية الثورية الجزائرية، وبدأت هذه المفارقة عندما تقرر مخابراتيا واعلاميا ان يبدأ التوجيه الثوري للجزائر من صوت العرب بمشاركة أحمد بن بيللا من خلال أحاديث يوجهها لشعبه تعكس مضمونا محددا علميا يمهد ليوم بدء الثورة دون أن يدفع الجماهير الي تحرك انفعالي في غيب التوقيت المحدد وبغير الفعل المرجو ولأن بن بيللا لم يكن يكتب بالعربية اضطررت الي صياغة أحاديثه وكتابتها بالحروف اللاتينية لينطقها باللغة العربية التي أصر جمال عبدالناصر منذ بداية الثورة الجزائرية علي ضرورة الالتزام بها.

عبد الناصر وصوت العرب 4 – هنا صوت العرب

هنا “صوت العرب” هنا “جمال عبد الناصر”

ستظل مشاهد فرار الاستعمار من منطقتنا العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، موحية لكل مقاومة عربي يحمل سلاحه الآن في وجه الاستعمار العائد بنفس ثوبه القديم.. شهدت شعوب المنطقة في هذه المرحلة الناصعة بنضالها أعلامها ترفرف للمرة الأولي بعد عشرات السنين من ذل الاستعمار وقهره، وعاشت صحوة التواصل القومي بفضل قيادة جمال عبدالناصر الذي رأي مبكرا وبعد شهور قليلة من قيام ثورة 23 يوليو 1952 أن أمن مصر في العرب وأمن العرب في مصر، وانطلاقا . من هذه الرؤية وفي عام 1953 كلف ضابط المخابرات فتحي الديب بوضع خطة لتحرير الوطن العربي من الاستعمار، فوضع الديب خطته التي قامت علي عدة عناصر كان من أبرزها تأسيس برنامج إذاعي يحمل اسم صوت العرب، صار إذاعة مستقلة فيما بعد، ووقع اختيار الديب علي أحمد سعيد ليكون مذيعه، ثم مسئولا عنه بعد أسابيع قليلة من إطلاقه في 4 يوليو عام 1953 وتدريجيا أصبح هو الصوت الاعلامي الأبرز لجمال عبدالناصر، كما أصبحت صوت العرب السوط الاعلامي الذي يلهب ظهر الاستعمار، ولم يكن أحمد سعيد مجرد مذيع ناقل للأخبار أو البرامج، وإنما كان طرفا رئيسيا في عشرات الاحداث السياسية ال!
تي شهدتها المنطقة العربية آنذاك ولهذا تكتسب هذه الصفحات من مذكراته أهمية بالغة، حيث يكشف فيها حقائق تنشر لأول مرة لتعطي مزيدا من الضوء علي هذه المرحلة الهامة في تاريخنا العربي.
وفي الحلقتين السابقتين، كشف سعيد بدايات التفكير في إنشاء صوت العرب، والغرض الحقيقي لذلك، واشار في هذا السياق الي الدور السلبي للرقيب الذي وضعته الثورة في الاذاعة، وكيف طمأنه الديب بأن مشروع صوت العرب هو بموافقة من جمال عبدالناصر وباقتراح من المخابرات العامة، وأخيرا استعجال عبدالناصر لإطلاق البرنامج لاحتياجه اليه في المعارك الوطنية ضد الاستعمار.. والي نص الحلقة الثالثة من المذكرات.

يقول أحمد سعيد:

انطلق صوت العرب في السادسة من مساء السبت 4 يوليو 1953 ولمدة 28 دقيقة.. وكان الانطلاق بحق هو ميلاد الحلم.. الحلم الذي لم يكن مجرد فكرة عابرة وإنما جنين تكون، وولد وشق طريقه إلي النمو برعاية دافئة وجادة.. رعاية جعلت الفرد منا كادرا شاملا في معرفته، وقدرته الحركية والسياسية، وكان المناخ يساعد علي ذلك.

مضت أيام يوليو ومن بعدها 19 يوما من شهر اغسطس عام 1953 ونحن في صوت العرب نتحسس طريقنا الي المستمعين بأسلوب غلب عليه الطابع التقليدي الجامد للاذاعات، لكننا كثفنا من جهودنا في استكمال دراساتنا العربية التاريخية والاجتماعية والاقتصادية بالاضافة الي البحث عن الصيغ التفصيلية والتنفيذية للخطاب الإعلامي نصا وأداء.. وفرضت أمانة المسئولية القومية والاعلامية علي أنا ونادية توفيق كأول فريق عمل تحت اشراف صالح جودت أن نجري في البدء دراسات سريعة مكثفة للأمة العربية ككل واحد من ناحية.. وللأمة العربية كجماعات متناثرة الاقامة بين الخليج العربي والمحيط الأطلنطي من ناحية أخري نظرا لوجود بعض التباينات البيئية بينهما، مثل الصحاري ومجتمعات أبنائها المتناثرة والمطاردة بشظف الرزق، ومثل وديان الأنهار ومدنها وقراها وكثافتها بحضارتها القديمة والعصرية السابقة، ومثل مجتمعات الجبال والغابات والأمطار وانزواء سكانها بفعل تقلب الطبيعة وضغوط المستعمرين، ومثل مجتمعات البترول التي ينهب الأجنبي تسعة وتسعين في المائة من ثرواتها تاركا

الواحد الباقي من المائة لقلة ضئيلة تخدمه من حكامها وشيوخها تزكي أولا تزكي بالهزيل منه علي شعوبها التي بدأت تعرف أن في باطن أرضها ثروات منهوبة هائلة، بالاضافة الي وجود جزئيات متشابهة في هوية الجماعات العربية. وجزئيات أخري تتميز بها جماعة عن غيرها من جماعات الوطن علي امتداد الساحة الشاسعة أسيويا وافريقيا، بالاضافة الي الأبعاد العرقية والدينية أيضا والسابقة علي الاسلام والعروبة.

ويتقرر تكوين عدة فرق عمل من الباحثين المتخصصين في علوم التاريخ والاجتماع والآداب والاقتصاد لوضع دراسات مختلفة عن الشعوب العربية قديما وحديثا تيسر عمليات تحديد الخطاب الاعلامي ليس من حيث الصياغات الحرفية وتنوعها حسب الأحداث فقط، وإنما وهذا هو الأهم من حيث الثوابت المناسبة في كل مرحلة نضالية وما يمكن ادخاله عليها بأساليب مرنة التوجه تنمي الجزئيات الكثيرة المتشابهة في هوية المتلقين من جهة بينما تحرص علي أن يجئ تعاملها مع الجزئيات الخاصة بجماعة معينة في إطار المفهوم القومي التحرري العام والترابط المتوارث،. خاصة وأن الغالبية العظمي من العرب قد وقعت منذ القرن التاسع عشر أسيرة استعمار مختلف اللغات والجنسيات والثقافات واساليب الاحتلال وفرض الذات، مما أدي الي نشأة أجيال عربية متباينة في ثقافاتها ونظراتها الي الغير وتعاملاتها مع الأحداث، وذلك كله تفاصيل واقع تجب مراعاتها عند المتلقين الذين ورثوا ايضا كما متراكما من التفاعلات العرقية والاجتماعية والمعرفية فرضت في القرن العشرين اختلافا مؤثرا في تلقيهم لأراء أنصارهم تماما في الكل الوطني أو القومي.

اعتمدت الجهود في استكمال هذه الدراسات علي أسماء وجماعات عربية هامة، ولما كانت الاذاعة وخطابها الاعلامي ولو في مجال الترفيه يعتمد في الوصول الي المتلقين من خلال حاسة السمع اقترحت بحكم سبق علمي بأهمية معرفة الاعلامي لدراسات محددة في علمي النفس والاجتماع.. فتم تكليف دكتور علم النفس عبدالعزيز القوصي ودكتور علم الاجتماع أحمد الخشاب بوضع دراسات تطبيقية متخصصة عن النفسية العربية عامة والتفاعلات الجمعية عند الشعوب العربية، وتلت ذلك دراسات تم تكليف السفارات ومسئولي البعثات التعليمية والطبية في البلاد العربية باعدادها، بالاضافة الي الاتصال المباشر بالعديد من اللاجئين العرب في مصر والناجين بأنفسهم ومبادئهم من سلطات الاحتلال وحكوماته العميلة ودعوتهم الي المساهمة بالرأي في التعرف علي ايقاع الحياة عند مختلف طبقات ومدارك شعوبهم ومفردات الحركة اليومية وتجمعات الناس في الأرياف والبوادي والحضر و ما ورثوه من عادات وما يفرض عليهم من سلوكيات ومستويات مداركهم الفكرية والحسية ونوعية تذوقهم للعمومية المصرية لفنون الشعر والموسيقي والغناء ودرجات حماسهم في الاقبال علي الشعبي المحلي منها.

اعتمدنا الكثير في ذلك علي المتعاطفين من القوميين العرب والأحزاب الوحدوية ومن أبرزهم الدكاترة محمد شفيق غربال وعبدالحميد العبادي وابراهيم سلامة وحسين نصار من مصر، وصائب سلام وكمال جنبلاط وحميد فرنجية من لبنان، ورشيد عالي الكيلاني من العراق، وصالح بن يوسف ومحمد صالح من تونس ومحمد خضير وحسين آية أحمد وأحمد بن بيللا من الجزائر، وعلال الفاسي وعبدالحميد بن جلون من المغرب، وأحمد نعمان ومحمد محمود التبريري من اليمن، وشيخان الحبشي وعمر علي الجفري من جنوب الجزيرة وعدن، كما اسهم في عملية تحديد الخطاب الاعلامي لثورة 23 يوليو في صوت العرب وبطريق غير مباشر الدكتور عبدالرحمن بدوي من خلال تقرير زود به السفارة المصرية في باريس تضمن رأيا في الهوية الاسلامية لأبناء شمال افريقيا في رؤية المستشرق الفرنسي الكبير صاحب الآراء الحرة المنصفة لويس ماسينيون المحاضر بالسوربون بفرنسا والازهر بمصر، كما تضمن رأيا أخر للمستشرق ضابط المخابرات الفرنسية المتعصب ليفي بروفنسال وكان دائم النصح لحكومات الاستعمار بضرب التعليم الديني الاسلامي في الجزائر بالذات ومضاعفة الهجرات الجزائرية الي فرنسا بهدف تغريب الشعب عن !
دينه ووطنه ومصادر رزقه.

“قدم الينا الدكتور أحمد الخشاب دراسة علي ضوء رسالته للدكتوراه من انجلترا عام 1952 في علم الانثروبولوجي وتطبيقاته علي الجماعات العربية والتي أفرد لها فيما بعد باكورة مؤلفاته وخاصة كتابه “دراسات ديموجرافية في سكان العالم العربي” وكذلك دراساته الانثروبولوجية للتخطيط والتنمية الاجتماعية والتي ألقت الضوء علي امكانية التعامل اعلاميا مع مفردات ومختلف مستويات المدارك والثقافات عند الشعوب العربية”.

أما عالم النفس الدكتور عبدالعزيز القوصي والذي كان أول من اكتشف قاعدة جديدة في علم النفس عرفت باسمه وهي نظرية القدرة المكانية أو الادراك المكاني فقد اكتفي بثلاث جلسات مطولة أملي علي رؤيته لأساليب التعامل الاعلامي من خلال البعد النفسي وما يمكن أن يلحق بالانسان العربي من تأثير مكاني وعمق ميراثي وقدرة علي الالمام بالمتغيرات المفروضة والواجبة ورفض السلبي والمعادي والاقبال علي الايجابي العطاء.

واعتبر هذان العالمان الخشاب والقوصي بالاضافة الي الامام الاكبر الشيخ محمود شلتوت وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين وعالم اللغة الجليل أمين الخولي ببعض نصوص محاضراته في كلية الآداب سنة 1953 عن اللغة العربية ومشاكلها وحياتنا اليومية واللغوي الحاصل علي الدكتوراه من انجلترا سنة 1952 الدكتور تمام حسان عمر ودراسته عن الاستخدام الأمثل للغة في التخاطب مع الناس وفضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري أصحاب الفضل الأول في الخطاب الاعلامي الموجه من صوت العرب صياغة وأداء.

تواصلت هذه العمليات البنائية للبرنامج الجديد حتي جاءت أول المعارك العربية التي انطلق معها صوت العرب وهي معركة نفي العاهل المغربي محمد الخامس والتي بدأت إرهاصاتها يوم 3 أغسطس (أي بعد شهر واحد من بدء الارسال اليومي الثماني والعشرين دقيقة) حيث تتابعت أنباء عن خلاف بين سلطة الاحتلال الفرنسي في المغرب ممثلة في المقيم الفرنسي بالرباط الجنرال جيوم والسلطان محمد الخامس بسبب رفض الأخير التوقيع علي الظهائر (المراسيم) التي أرادت بها السياسة الاستعمارية فرض شرعية مزايا استيطانية للفرنسيين علي حساب اصحاب البلاد وحرياتهم وارزاقهم، وفي العشرين من اغسطس بدأت مؤامرة ضد محمد الخامس بتظاهرة عسكرية ضده من العميل الفرنسي باشا مراكش تهاني الجلاوي حشد فيها نفرا من رجاله المسلحين المخدوعين من البربر، في الثالث والعشرين من نفس الشهر نفي السلطان واسرته خارج البلاد (جزيرة كورسيكا ثم جزيرة مدغشقر) ونصب الاحتلال عمه عمر بن عرفة سلطانا ليصدر ما رفض توقيعه السلطان المنفي بإنشاء مجلس تنفيذي لحكم البلاد مكونا من 16 مغربيا و14 فرنسيا بالاضافة الي مرسوم مجالس بلدية يتساوي فيها عدد الأجانب بعدد المغاربة ورغم أ!
ن نسبتهم لم تزد يومها عن واحد الي 57.1 في المائة مما أشعل البلاد بثورة عفوية لم تلبث ان شملت البلاد كلها وخاصة عندما اجتمعت إرادة العنصر البربري مع إرادة العنصر العربي علي رفض بن عرفة سلطانا للبلاد وتهاني الجلاوي رئيسا للوزراء.

وهكذا وجد صوت العرب نفسه أمام ثورة شعبية عفوية مفاجئة وعارمة عليه ورغم أنه لم يزل وليدا يحبو كان عليه أن يقفز سريعا بخطابه الاعلامي حتي يتمكن من مواكبتها وتلبية احتياجاتها من حيث التعبئة النفسية والاستمرارية النضالية وحشد القوي العربية والاسلامية لمناصرتها خاصة وأنه كان الجهاز الاعلامي الوحيد القومي الثوري التوجه وإذا كان يوم 4 يوليو هو يوم مولد صوت العرب، فإن مولده الحقيقي كاذاعة ثورية كان في هذه المعركة وما سبقها كان أشبه بمخاض طويل عسير ينتظر بدفعه الي الوجود.

تطورت الأحداث يوما بعد يوم حتي وقع حدث دام كان أقرب ما يكون الي رد الفعل العفوي لجماهير مغربية فوجئت بغضبها التلقائي يتحول الي استنكار استشهادي بدأ بزغرودة امرأة تحيي سلطان المغرب وهو يمر بموكب نفيه واسرته مسرعا في طرقات الرباط الخالية تماما من جند الاستعمار الفرنسي من المارة، كانت الزغرودة الأولي اشارة بدء دوي من الزغاريد لنسوة تدافعن في النوافذ والشرفات تكريما للسلطان الذي رفض التوقيع علي املاءات تؤدي الي المزيد من القيود لشعبه والتمكين المتصاعد لمستعمريه، الأمر الذي أثار جنون أحد ضباط الحراسة الفرنسية فصوب من مدفعه الرشاش طلقات متتابعة قتلت وجرحت الكثيرات قبل الكثيرين ولتبدأ أول وأغرب ثورة عفوية شعبية دون تنظيم أو تدبير أو تسليح، غير انها لم تلبث ان فرضت نفسها وأمنت استمرارها حتي تحقق لها الانتصار.

هذه العفوية للثورة طرحت أمامنا في صوت العرب سؤالا حول دلالاتها، وحول تأثير هذه العفوية علي خطابنا الاعلامي، وتوصلت الي أن انطلاق الثورة في المغرب كرد فعل عفوي لم يسبق الاعداد لها سلفا يعكس مدي قوة الشحنات المكبوتة لدي شعب وما يمكن ان تفرضه علي قياداته الوطنية وتدفعهم سراعا الي تبني الثورة المفاجئة عند الجماهير وضرورة تنظيمها، وضبط ايقاعها لتحقق اهدافها باقل التضحيات.

وهذا واقع فرض علي صوت العرب، وهو يتلقي مفاجأة الثورة العفوية وكان عليه ان يكثف سريعا من مخزون المعرفة عنده فيما يتصل أولا بخصوصيات شخصية المتلقين في المغرب وفيما يبلور عنده ثانيا تفاصيل تنفيذ الخطاب الاعلامي حرفيا سواء من حيث جزئيات التعبير، وصياغة الخبر، والرأي وأسلوب الأداء النافذ، وكل ذلك من خلال دعوة الي إعمال المتلقين للذهن خاصة وان المستعمرين اختاروا بديلا للسلطان المنفي شيخا من اسرته له مكانة بينما فرضوا علي رأس السلطة رئيسا للحكومة من غلاة زعماء العرق البربري الامازيجي سكان البلاد قبل فتح الاسلام.

واجه صوت العرب عفوية الثورة المغربية منذ يومها الأول وكذلك التدبير التآمري والاستعماري لإثارة الفتنة بين العنصرين الرئيسيين للشعب المغربي بدراسات متتابعة تاريخية واجتماعية واعلامية حرفية وجاءت هذه الدراسات في توقيت بالغ الأهمية علي المستوي القومي، تمثل في أن جمال عبدالناصر كان يوم اشتعال الثورة قد ازداد اقترابه وتمكنه من الموقع الرئاسي لصناعة القرار الثوري القائم في المجال القومي وعلي أولوية مبدأ ان حرية الشعب العربي من المحيط الي الخليج كل لا يتجزأ وأدي هذا الي تدفق هائل في التعامل مع القضية.

وأذكر في محاضرة لي القيتها علي الاذاعيين والاعلاميين المغاربة بتوجيه من الملك محمد الخامس خلال زيارتي الأولي للرباط ضمن وفد برئاسة الشيخ

أحمد حسن الباقوري لتقديم تهنئة شعب مصر ورئيسها جمال عبدالناصر بعودة الملك من المنفي وفوز البلاد بالاستقلال التام إنني قلت في وصف لتعامل صوت العرب مع عفوية الثورة المغربية: “لقد علمتنا الثورة العفوية التلقائية للمغرب ان التعامل مع جماهير يسعي الغير الي تمزيقها وتصارعها من خلال تمييز جماعاتها أو منح مكاسب لقطاع فيها أو عرق منها يفترض في الاعلام الثوري أن يتضمن ثنايا خطابه الاعلامي عناصر معينة ويغلفها أحيانا بدرجات تختلف في تركيزها من مجتمع الي اخر مثل ان الأنا حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إظهار تحد لها وانما يجب التعامل معها من منظور ديمومة المصلحة الجماعية مع الطرف الآخر.

بعد هذا الاجمالي المتتابع يعود أحمد سعيد الي بدايات إنقلاب الاستعمار الفرنسي علي العاهل المغربي محمد الخامس قائلا: فوجئت عصر الرابع من اغسطس وأنا أتبادل وزميلتي الوحيدة في صوت العرب نادية توفيق تناول قطع من الحلوي والشاي هدية من استاذنا الشاعر صالح جودت مراقب البرامج الثقافية والأركان بمناسبة مرور شهر علي بدء الارسال بدخول اليوزباشي فتحي الديب لاهثا صائحا وهو يدفع الينا بثلاث ورقات:

– إقرءوا بسرعة التقرير ده.. جالنا من باريس النهاردة.. ومطلوب رأيكم فيه حالا.. المخابرات حددت موقفها وناقص وجهة نظر المسئولين من أعضاء مجلس الثورة.. عايز لما أروح لهم بعد ساعة نكون عارفين وعارضين كذا فكرة عن إيه اللي يمكن يعمله صوت العرب.

ونلتهم السطور التي بعث بها الملحق العسكري بالسفارة المصرية في فرنسا وتضمنت عرضا مكثفا لخلاف بدأ في الرباط عاصمة المغرب بين الحاكم الفعلي للبلاد المقيم الفرنسي والسلطان محمد الخامس.

ونعرض علي فتحي الديب أن يشرح صوت العرب ابتداء من اليوم الرابع من اغسطس في عرض اخبار هذا الخلاف من خلال صياغة تدعم وجهة نظر سلطان البلاد، ونرفق بعرضنا أربع صياغات لخبر واحد تتراوح في مفهومها ومردودها بين الدعم الموضوعي المجرد، والدعم السلبي، والدعم الايجابي، والدعم الإثاري، ويعود الينا فتحي الديب بوجهة نظر جمال عبدالناصر وزكريا محيي الدين بأن نكتفي مرحليا بصيغة الدعم الموضوعي المجرد علي ان نكثف من متابعتنا لتطورات الخلاف ونسارع في استكمال دراساتنا لتاريخ المغرب والعناصر المكونة للشعب.

ونبدأ علي الفور عمليات متعددة الاتجاهات والاختصاصات.. بدءاً من قادة المغرب اللاجئين في مصر وعلي رأسهم زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي والأكاديميون أصحاب الدراسات العلمية التاريخية والفكرية عن بلاد المغرب خاصة بالاضافة الي شراء كل ما تم العثور عليه في مصر من كتب عربية وفرنسية عن بلاد المغرب الكبير (تونس والجزائر ومراكش) بالاضافة الي دراسات مبدئية مبتسرة زودتنا بها جامعة الدول العربية ووزارة الخارجية المصرية بجانب كم متلاحق اثرانا به تباعا فتحي الديب وزملاؤه المترجمون في الجهاز الوليد للمخابرات العامة المصرية، حتي إذا ما جاءت الأيام من عشرين الي ثلاثة وعشرين من اغسطس ووقع في المغرب الحمل الأول الكبير للثورية العربية كنا في صوت العرب مسلحين تماما بكل ما يمكن أن يؤهلنا بأن نعيش علي مستوي الهدف الأصيل النبيل لصوت العرب كإذاعة للتحرر القومي علي امتداد الوطن..

ويتابع أحمد سعيد رواية تفاصيل المشهد التاريخي لأحداث اليوم الحقيقي لهذا الميلاد الثوري الكبير: هذا اليوم الذي تحول فيه صوت العرب الي سوط يلهب ظهر الاستعمار بالفعل..

– جاءتني الساعة الثالثة عصرا زميلتي نادية توفيق بورقة تيكرز. وكالة الأنباء الفرنسية وعلي وجهها اهتمام غاضب صارخة “الفرنسيون عزلوا السلطان ونفوه” ويرن جرس التليفون لأسمع فتحي الديب يؤكد النبأ ويضيف عليه “فيه ثورة وقتلي في المغرب” وقبل أن أنطق بحرف هتف بحسم “أنا جايلك” مسافة السكة.. أنا بلغت السيد زكريا محيي الدين.. حضر مخك لغاية ما أوصلك.. أكيد التعليمات ح تتغير”.

وأبادر من فوري ابلاغ الزعيم المغربي اللاجئ في مصر علال الفاسي وادعوه الي سرعة الحضور الي الاذاعة ليكون معنا بخبرته بأهل بلده خير مرشد ومعين، ويعقد فتحي الديب فور وصوله الاذاعة مع ثلاثة من أعوانه بالمخابرات عزت سليمان وعاطف سعد وعبدالمنعم النجار اجتماعا مطولا في مكتب صالح جودت مراقب البرامج التي يتبعها صوت العرب حيث تجري فيه مناقشة التطورات الساخنة الدامية للأحداث في المغرب والرأيان اللذان اختارتهما ادارة الشئون العربية بالمخابرات العامة منذ بدء علم مصر بخلافات المقيم الفرنسي مع سلطان المغرب، ويتقرر في نهاية الاجتماع ثلاث خطوات: أولاها: أن يذهب الزعيم المغربي علال الفاسي مع ضابط المخابرات عاطف سعد الي مقر جبهة تحرير المغرب العربي في شارع عبدالخالق ثروت لعمل اتصالات فورية مع المغاربة والتوانسة والجزائريين في مصر من لاجئين وطلاب لحصرهم وتحديد كفاءاتهم وفرز القادر الصالح منهم بهدف الاستعداد لاحتمالات الافادة منهم في شبكة معلومات واتصالات أو أعمال قد تفرضها احداث الصراع في المغرب وتتطلبها المواقف التي قد يتبناها مجلس الثورة في مصر، وثانيها أن يعود عزت سليمان الي مبني المخابرات لم!
تابعة فريق العمل من الشباب الجديد المنكب علي الترجمة من الفرنسية أو الاستماع الي اذاعة باريس وغيرها من العواصم وخاصة لندن وواشنطون وموسكو، في نفس الوقت الذي يذهب فيه عبدالمنعم النجار إلي صديقه الصاغ ثروت عكاشة ليكون تحت إمرته في مساعيه للتزود من معارفه الكثيرين في السفارة الفرنسية بالقاهرة بأية معلومات جديدة عن الصراع في المغرب وأنواع ردود الفعل الفرنسية لاحتمالات المواقف المصرية رسميا واعلاميا وشعبيا، أما ثالث ما تقرر في اجتماع الاذاعة فهو أن يذهب فتحي الديب بصالح جودت وأحمد سعيد الي المبني الذي اتخذه مجلس الثورة مقرا له في جزيرة الزمالك ليكونا بالقرب منه فيما إذا احتاج الي مشورتهما أثناء لقائه هناك مع رئيسه زكريا محيي الدين.

ذهبنا ثلاثتنا الي مبني مجلس الثورة نحو الساعة الرابعة عصر يوم عشرين اغسطس حيث أجلسنا فتحي الديب في حجرة الضابط سمير مصلح سكرتير عضو المجلس المشرف علي المخابرات البكباشي زكريا محيي الدين، وبعد نحو ربع الساعة خرج الاثنان – زكريا وفتحي – عبر حجرة السكرتير واختفيا عنا نحو ربع ساعة أخري وبعدها تم استدعاؤنا الي حجرة مجاورة مطلة علي النيل بها منضدة مستطيلة واثنا عشر مقعدا علمنا من مرافقنا انها حجرة اجتماعات مجلس الثورة، وبعد لحظات فتح علينا باب جانبي عبره البكباشي جمال عبدالناصر ومن خلفه البكباشي زكريا محيي الدين ثم اليوزباشي فتحي الديب. ليدور حوار هام ومدهش مع عبدالناصر بمثابة النقلة النوعية لنا الي المستقبل.

عبد الناصر وصوت العرب 5 – أحمد سعيد يواصل فتح صفحات من مذكراته

أحمد سعيد يواصل فتح صفحات من مذكراته.. ويروى لسعيد الشحات

عبد الناصر قال لى: عاوزك تنول شرف وضع اسمك على قائمة أعداء فرنسا

ستظل مشاهد فرار الاستعمار من منطقتنا العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، موحية لكل مقاوم عربي يحمل سلاحه الآن في وجه الاستعمار العائد في ثوبه القديم وشهدت شعوب المنطقة في هذه المرحلة الناصعة بنضالها أعلامها ترفرف للمرة الأولي بعد عشرات السنين من ذل الاستعمار وقهره، وعاشت صحوة التواصل القومي بفضل قيادة جمال عبدالناصر الذي رأي مبكرا وبعد شهور قليلة من قيام ثورة 23 يوليو 1952 أن أمن مصر في العرب وأمن العرب في مصر، وانطلاقا من هذه الرؤية وفي عام 1953 كلف ضابط المخابرات فتحي الديب بوضع خطة لتحرير الوطن العربي من الاستعمار، فوضع الديب خطته التي قامت علي عدة عناصر كان من أبرزها تأسيس برنامج إذاعي يحمل اسم صوت العرب، صار إذاعة مستقلة فيما بعد.
ووقع اختيار الديب علي أحمد سعيد ليكون مذيعه، ثم مسئولا عنه بعد أسابيع قليلة من اطلاقه في 4 يوليو عام 1953، وتدريجيا أصبح هو الصوت الإعلامي الأبرز لجمال عبدالناصر كما أصبحت صوت العرب السوط الإعلامي الذي يلهب ظهر الاستعمار ولم يكن أحمد سعيد مجرد مذيع ناقل للأخبار أو البرامج، وإنما كان طرفا رئيسيا في عشرات الأحداث السياسية التي شهدتها المنطقة العربية آنذاك، ولهذا تكتسب هذه الصفحات من مذكراته أهمية بالغة حيث يكشف فيها حقائق تنشر لأول مرة، لتعطي مزيدا من الضوء علي هذه المرحلة المهمة في تاريخنا العربي.

وفي الحلقات الثلاث الماضية من المذكرات كشف أحمد سعيد عن كيف أبلغه فتحي الديب بمشروع صوت العرب، والحكايات التي استمع إليها الديب أثناء ذلك عن رقيب الإذاعة الذي وضعته الثورة، ثم خطوات الاستعداد سياسيا وفكريا لإطلاق البرنامج الجديد، حتي جاءت معركة نفي الاستعمار الفرنسي للعاهل المغربي محمد الخامس عام 1954، لينطلق صوت العرب في أول معاركه ضد الاستعمار، وفي الحلقة الماضية تحدث سعيد عن مقدمات ذلك، حتي ذهب وفتحي الديب وصالح جودت إلي مبني مجلس الثورة في الساعة الرابعة يوم 20 أغسطس عام 1954 للقاء جمال عبدالناصر.

وإلي نص الحلقة الرابعة..

يقول سعيد: ذهبنا ثلاثتنا إلي مبني مجلس الثورة نحو الساعة الرابعة عصر يوم عشرين أغسطس حيث اجلسنا فتحي الديب في حجرة الضابط سمير مصلح سكرتير عضو المجلس المشرف علي المخابرات البكباشي زكريا محيي الدين، وبعد نحو ربع الساعة خرج الاثنان ـ زكريا وفتحي ـ عبر حجرة السكرتير واختفيا نحو ربع ساعة أخري.

وبعدها تم استدعاؤنا إلي حجرة مجاورة مطلة علي النيل بها منضدة مستطيلة واثني عشر مقعدا علمنا من مرافقنا أنها حجرة اجتماعات مجلس الثورة، وبعد لحظات فتح علينا باب جانبي عبره البكباشي جمال عبدالناصر ومن خلفه البكباشي زكريا محيي الدين ثم اليوزباشي فتحي الديب. ليدور حوار مهم ومدهش مع عبدالناصر بمثابة النقلة النوعية لنا إلي المستقبل.

جلست أنا وصالح جودت وبعد لحظات فتح علينا باب جانبي عبره البكباشي جمال عبدالناصر ومن خلفه البكباشي زكريا محيي الدين ثم اليوزباشي فتحي الديب بينما نتبادل تحيات مثل هذا اللقاء نظر عبدالناصر إلي ساعة يده ثم بادرني وصالح جودت بقوله وهو يسرع إلي مقعد علي رأس المائدة.. الساعة قربت علي أربعة ونص وأنتم برنامجكم الساعة ستة.. سمعوني رأيكم كإذاعة في اللي بيحصل في المغرب.. أنا عندي مع المبادئ والأهداف محاذير ياما.. قولوا كل اللي فكرتم فيه عشان أقدر أختار وتبتدوا النهارده علي بركة الله.. اسمعك الأول يا أستاذ صالح وبعدين أسمع أحمد.

فيقول صالح:

ـ إحنا متفقين يا أفندم علي أسلوب واحد.

وألمح في عيني عبدالناصر نظرة تعجب لم تلبث أن زالت وهو يقول باسما:

ـ غريبة.. الأستاذ صالح جودت أعرفه شاعر عاطفي حتي في وطنياته.. وأنت يا أحمد من يوم ما سمعتك في الإذاعة بتلغي المعاهدة قبل الحكومة.. يعني كلك ثورة.

ويلتفت عبدالناصر إلي صالح جودت قائلا ومازال وجهه باسما:

ـ أيوه يا أستاذ صالح.. اتفقتم علي إيه.. علي الماية والنار؟.

ويشرح صالح جودت وجهة نظرنا:

فاطمة الزهراء تنقل رسالة محمد الخامس من مدغشقر إلي صوت العرب

ـ نبتدي يا أفندم بصياغة تساؤلية استنكارية لإقدام فرنسا علي عزل السلطان ونفيه. ونشوف رد الفعل الفرنسي.. وعلي ضوء الرد يقرر مجلس الثورة موقف مصر وبالتالي يكون أسلوب حديث صوت العرب.

ويتساءل عبدالناصر وقد تبددت ابتسامته وحلت في عينيه ملامح تأمل:

ـ ده اللي اتفقتم عليه سوا.

ويجيبه صالح جودت:

ـ فرنسا يا أفندم دولة عظمي من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.. وإحنا في صراع مع بريطانيا عشان الجلاء. وأظن دبلوماسيا إحنا محتاجين ولو لتحييدها دوليا.

وتطول لحظات نظرة عبدالناصر إلي صالح جودت ورغم مرور كل هذه السنوات لم أنس هذه النظرة وأظنني لن أنساها في أي وقت.. كان يبدو منها أنه في هذه اللحظة اكتشف شيئا ما دفعه في نفس الوقت إلي اتخاذ قرار جديد.. وهو اقتناعه بأن صالح جودت لن يستمر في دوره.. اندفع عبدالناصر مع نظرته مستفسرا في استنكار بدا صارما رغم هدوء في الأداء:

ـ تفتكر يا أستاذ صالح إن فرنسا اللي اتفقت مع بريطانيا في اتفاقية “سايكس بيكو” علي تقسيم بلاد العرب في آسيا وإفريقيا عندها استعداد النهاردة تعادي بريطانيا عشان خاطرنا؟!.

ويلوذ عبدالناصر بلحظة صمت كست وجهه خلالها صرامة جامدة بينما أطلت من عينيه نظرة عزم جاد وهو يقول:

ـ أستاذ صالح.. الحرية لا تتجزأ.. مش في بلادنا العربية وبس.. في العالم من أوله لآخره.. وعشان كده كفاح الشعوب ووحدته هما ا لضمان الوحيد مش للحصول علي الحرية بس ولكن للمحافظة عليها كمان.

وكأنما أراد صالح جودت أن يذكر عبدالناصر بإشارته عند بدء اللقاء بما لديه من محاذير فانطلق يقول:

ـ فيه يا أفندم ملاحظة تانية جايز تعمل بلبلة عند الناس في مصر بالذات.

ويتساء عبدالناصر متعجبا من حديث صالح جودت الذي استطرد قائلا:

ـ الثورة يا أفندم أول ما قامت طردت الملك ولغت الملكية.. وبعدين جايز بوقفتنا مع سلطان المغرب نبقي بنناقض نفسنا.

وأفاجأ لأول وآخر مرة بعبد الناصر مسفرا عن عجب وغضب يكاد يطغي عليهما ملامح عداء وبدا في تعليقه الأول علي كلام الأستاذ صالح ملامح العداء وفي الوقت أنه كون قرارا جديدا وهو يقول في لوم متدافع حاد:

ـ أستاذ صالح.. إحنا في مصر طردنا الملك لفساده وألغينا الملكية لتحالفها مع الاستعمار من أيام توفيق.. وسلطان المغرب اللي عزله وسجنه ونفاه خارج بلده استعمار زي الاستعمار اللي إحنا عنينا منه.. يعني محمد الخامس ده بطل حر ضحي بعرشه عشان وطنه.. تقدر تقول كده رقي نفسه من رفضه ونفيه من ملك وارث للعرش لزعيم للشعب في قلب كل مغربي.. أمال ثاروا إزاي المغاربة النهاردة ومات منهم عشرات وموكبه خارج من قصره للمطار علي المنفي.. ده سلطان حاكم جدير بكل احترام. نموذج يعني لازم نشجعه ونضرب بيه المثل.. أنا عايز تبتدوا فورا من اليوم حملة تأييد صريحة.. مش بس في صوت العرب.. كمان يا زكريا في المخابرات والخارجية والجامعة العربية.. اعمل لجنة من المسئولين والمختصين واللاجئين من مراكش وكل شمال إفريقيا اللي فيه الفرنساويين تضع التصورات والاحتمالات وأساليب التعامل مع التطورات.

ويستطرد أحمد سعيد في روايته لهذا اللقاء الحاسم في تاريخه الإعلامي مع جمال عبدالناصر قائلا وعيناه تعكسان لمعة إغراق دموع:

وقف عبدالناصر مستديرا صوب فتحي الديب رافعا يده اليمني مشيرا نحوي بسبابتها وهو يهزها في تتابع سريع أقرب إلي التنبيه والتحذير وهو يقول:

ـ وأنت يا فتحي مسئول.. وعندك أحمد سعيد.. سوابقه قبل الثورة مع الفدائيين في القنال تؤهله للمطلوب.. أنا عارف إن ماعندكمش وقت كافي النهاردة.. لكن أنا برضك عايز أسمع حاجة الليلة دي تطمني إنكم علي الخط.. أظن كلامي واضح .

وبينما كنا جميعا نتمتم ونحن نهز رؤوسنا مقرين أن رأيه واضح ومفهوم طاف علينا مسلما حتي إذا ما واجهني شدعلي يدي طويلا وهو يرمقني بنظرة مشجعة جادة قائلا:

عبدالناصر يرفض رأياً لصالح جودت بألا نعادي فرنسا لأنها دولة عظمي ونحتاجها في معركة الجلاء مع بريطانيا ويقول له: تفتكر إن فرنسا اللي اتفقت مع بريطانيا في اتفاقية سايكس ـ بيكو علي تقسيم بلاد العرب في آسيا وإفريقيا عندها استعداد النهاردة تعادي بريطانيا عشان خاطرنا؟!

ـ هما الإنجليز مش كانوا حاطين اسمك علي رأس أعداؤهم اللي بيحرضوا الشعب ضدهم.. أناعايزك كمان تنول شرف إن الفرنساويين يحطوا زيهم اسمك علي رأس أعداؤهم المحرضين علي قتالهم.. عملك الجاي أكبر من القناة وطرد الإنجليز من مصر.. لإننا جزء من كل.. أمن مصر وحريتها ومستقبلها كله رهن بأمن كل العرب وحريتهم وضمان مستقبلهم.. أنا مقتنع من اللي عرفته إنك مدرك تماما أبعاد الحقيقة المصرية.. وكلامي ليك مش شرح واقناع.. لا أبدا.. ده حاجة كده زي الوصية.. ولا حتي وصية.. سميه ضوء أخضر ليك عشان تنطلق من غير تردد أو قلق أو حتي حذر.. حاكم أنا خايف تخنقني المحاذير.

انتهي اللقاء ولم تغادرني أبدا نظرة جمال عبدالناصر لي ولا كلماته وعدت أنا وفتحي الديب وصالح جودت إلي مبني الإذاعة بشارع الشريفين وسط القاهرة وكانت الساعة قد تجاوزت الخامسة بسبع دقائق، بحيث لم يبق علي بدء إرسال حلقة اليوم من صوت العرب غير ثلاث وخمسين دقيقة أتذكرها كأسرع وأصعب ما مر بي في حياتي الإعلامية كلها. فقد كان مطلوبا مني أن أطلق ضمن حلقة اليوم قذيفة إعلامية مثيرة في مضمونها.. قاطعة في مدلولها.. نافذة في تأثيرها، وانتهيت من كتابتها في عشرين دقيقة ورغم سطورها القليلة الخمسة أسرعت بها إلي مكتب صالح جودت حيث كان رجل المخابرات فتحي الديب يجري مع معاونيه مكالمات هاتفية، وقرأ الاثنان ما كتبته ويدور بينهما نقاش سريع حول بعض عباراتها يحسمه أخيرا فتحي الديب قائلا:

ـ بلاش النهاردة تهاجم العملا اللي عينهم الفرنساويين بعد عزل السلطان.. نأجل الهجوم لغاية ما نسمع رأي الزعيم المغربي علال الفاسي في أشخاصهم..وعلي بركة الله يا أحمد.. أنا عايز صوتك زي كلامك يخيش في عقول المغاربة ويدوي في ودان الفرنساويين ويجيب لهم الصمم.

وينطلق أحمد سعيد إلي استوديو صوت العرب في شارع “علوي” ليجد أن زميلته الوحيدة نادية توفيق قد سبقته ببقية فقرات برنامج ذلك المساء، وعقب دقات الساعة تمام السادسة والنداءالمعلن عن صوت العرب والغنائية الايحائية الجماعية “أمجاد ياعرب أمجاد.. في بلادنا كرام أسياد” ينطلق لأول مرة بصوت أحمد سعيد تعليق بكلمات قليلة ذات إيقاع لفظي أشبه بطلقات مدفع رشاش، قال التعليق:

“أيها الأخوة العرب.. أيها الأخوة في مراكش.. اليوم عزل الاستعمار الفرنسي سلطانكم محمد.. ولماذا؟ لأنه أبي أن يوقع ظهائر مراسم تكبلكم بالمزيد من القيود وتفرض عليكم المزيد من الهوان.. وإذا شهدتم موكبه سجينا يمضي به المستعمرون إلي المطار والمنفي اشعلتموها ثورة غضب يجب أن تطول وتدوم حتي تفرضوا عودته حرا إلي بلد حر ونحن هنا في صوت العرب من القاهرة: نحن معكم.. نحن وكل عرب ومسلمي إفريقيا وآسيا والدنيا كلها.. فقاتلوا حتي النصر وصابروا حتي الفوز.. وليكن لكم في تضحية السلطان مثل يحتذي.. وليكن لكم في قول المصطفي إيمان يقتدي.. والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الأمر ما تركته حتي يظهره الله أو أهلك دونه.. ودائما أبدا يظهر الله أمره لمن وفي بالعهد: يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم..” صدق الله العظيم.

وفور الانتهاء من اسم الله العظيم انطلقت أصوات أربعين طفلا جزائريا ينشدون في نغم آثر له دوي ديني عاطفي أبياتا للشاعر الثوري الجزائري مفدي زكريا من قصيدة اسمها “نجمة شمال إفريقيا”:

قرأ أحمد سعيد تعليقه الأول الذي سيكون افتتاحية عظيمة وقوية في مسلسل آلاف التعليقات التي سيقولها فيما بعد وستثير القلاقل في مضاجع الاستعمار.. ويتذكر ما حدث بعد قراءة التعليق الأول.. حيث يسعد بتهنئة فتحي الديب فور انتهائه من إذاعة تعليقه الأول، والذي نقل إليه بعد ساعة تهنئة دينامو الثورة جمال عبدالناصر والمشرف علي المخابرات زكريا محيي الدين، غير أنه يذكر أن أكثر التهاني التي أثارت اهتمامه ليلتها تلك التي تلقاها من زعماء أربعة كانوا ضمن اللاجئين السياسيين في القاهرة المغربي علال الفاسي والجزائري محمد خيضر والتونسي صالح بن يوسف واليمني محمد محمود الزبيري، والذين طالبوه جميعا بأن يمضي في الأسلوب الذي بدأ به ذلك اليوم من حيث صياغة العبارات وايقاع الأداء والمرجعية الدينية في المضمون وكذلك ختام التعليق.

وتمضي الأيام وتتعدد التعليقات وتبدأ عمليات التخريب والتفجيرات في المغرب، ويتقدم السفير الفرنسي في القاهرة باحتجاجات ضد صوت العرب، وتبدأ الحملات الصحفية في فرنسا ضد صوت العرب وضد السلطة الثورية في مصر وبينما يتواصل الوضع علي هذا النحو يتذكر أحمد سعيد واقعة مهمة، تمتد بدلالاتها إلي أيامنا الحالية، حيث تحديات الطائفية والأقليات التي تعمل قوي الخارج علي تأجيجها حتي نظل قابعين في تخلفنا، لا نخرج من قمقه.. أما القصة طبقا لوقائعها كما يرويها أحمد سعيد:

السلطان محمد الخامس حاكم جدير بكل احترام.. نموذج يعني لازم نشجعه ونضرب به المثل

كنت في مكتبي بالإذاعة، وبينما أنا منهمك في الإعداد لإذاعة البرنامج، دخل ديمتري لوقا، وكان يعمل معنا مذيعا في صوت العرب، لكنه لم يستمر أكثر من 6 أشهر، هاجر بعدها من مصر إلي كندا.. أبلغني ديمتري بأن هناك سيدة تطلب مقابلتي.. قلت له.. وحياتك لو ممكن تصرفها بعدما تسمع موضوعها. عاد ديمتري ليبلغني أنها مصممة علي مقابلتك بأي شكل، ومهما كان الثمن. لفت نظري تصميمها، لكن لم يرد في ذهني علي الإطلاق أن باعث تصميمها شيء ما، يتعلق بصوت العرب ورسالته القومية والنضالية.. وبهذه الخلفية طلبت من ديمتري للمرة الثانية إبلاغها اعتذاري:”يا ديمتري شوف هي عايزة إيه” أنت شايف أنا مشغول كتير”.

عاد ديمتري للمرة الثانية، ليحمل لي مفاجأة كبيرة، توقعت أهميتها القصوي بعد جملتين:

قال ديمتري: السيدة اسمها فاطمة الزهراء (فيما بعد ذكرت اسمها بالكامل وهو فاطمة الزهراء أحمد حميري) وتقول إنها من مدغشقر.

كانت كلمة مدغشقر كفيلة بإثارة كل حواس التوقع لدي أحمد سعيد.. حدث هذا إلي درجة أنه هب من مكانه واقفا.. “أنت متأكد يا ديمتري إنها من مدغشقر.. تطلع فورا.. تطلع فورا”.

كان السلطان محمد الخامس في منفاه بمدغشقر، ومجرد ذكر اسم البلد في صوت العرب كان كفيلا بإثارة الانتباه فالبرنامج يتابع تفاصيل ما يحدث في المغرب.

يقول أحمد سعيد: دخلت فاطمة الزهراء، وكانت سيدة سمراء ومن السهل أن تلتقط من وجهها ما يوحي بأن لها جذورا عربية، وقفت مرحبا بها وبحرارة.. وأجلستها أمامي، ليدور بيننا حوار مهم.

قالت: أنا فاطمة الزهراء.. ومن طرف السلطان محمد الخامس وأعمل ممرضة.

قلت: أهلا.. أهلا.. لكن يا تري إيه العلاقة بينك، وبين السلطان، والتمريض.. إيه الحكاية؟.

قالت: أنا ممرضة، والسلطان مريض بالسل وفيه طبيب فرنسي يقوم بعلاجه، والطبيب قال إنه لازم تكون فيه ممرضة تقيم معه بصفة دائمة، لأنه يحتاج إلي عمليات تطهير وتنظيف، وقمت بهذه المهمة 25 يوما حتي أصبح في صحة جيدة.

قلت: عظيم.. عظيم، والحمد لله أن السلطان أصبح بخير.

قالت: في آخر أيام رعايتي له، قويت العلاقة بيني وبين ابنتها السيدة “لا لا عائشة”.. وكان جلالة السلطان حريصا علي قوة العلاقة بيننا، وظننت أن حرصه راجع لأني قمت بمهمتي كاملة.

يقطع أحمد سعيد تسلسل هذه الحكاية مشيرا إلي ملحوظة أنه في هذا الوقت لم تكن وسيلة الاتصال خاصة مع دولة مثل مدغشقر سهلة وميسرة إلي الدرجة التي تعرف من خلالها مرض السلطان، أو أي شيء من هذا القبيل.. ويعود أحمد سعيد إلي باقي الحكاية.

أضافت فاطمة: أعطاني جلالة السلطان في آخر أيامه نقودا، وخاتما ثمينا، ونبهني إلي أن أبيعه في دار السلام بتنزانيا، وثمنه مع النقود الأخري، يوفران قيمة رحلة عمرة أنا ووالدي.

أضافت فاطمة: جلالة السلطان.. قال لي أن أحضر لمصر وأنا في العودة من العمرة، وأحضر لصوت العرب ومعي رسالة لكم.

لم تكن الرسالة التي حملتها فاطمة الزهراء من السلطان محمد الخامس إلي صوت العرب، مكتوبة في أوراق، وإنما محمولة في الأذهان.. محفوظة في عقل فاطمة.. ويقول أحمد سعيد إنه بعد أن سمع الرسالة، أراد أن يعرف كيف حفظتها، ولما سأل فاطمة عن ذلك قالت له إن قوة العلاقة بينها وبين “لا لا عائشة” هي التي سهلت ذلك، فالسلطان قال لابنته الرسالة وأمرها أن تقوم بتلقينها إلي فاطمة. كل يوم في الأيام الخمسة الأخيرة، ويقول أحمد سعيد: لفت نظري قولها الرسالة بطريقة تلميذ يحفظ قطعة محفوظات مكررة عليه في دراسته، إلي الدرجة التي هيئ لك أنك لو قاطعته أثناء قوله له، فربما يعيدها من أول كلمة.

ـ ما هي الرسالة؟.

قالت فاطمة: اهتموا ببربر الغرب الجزائري.. وبربر المشرق المغربي.. دول بينهم صلة رحم.. ولازم مخاطبتهم تكون بالإسلام.

انتهت الرسالة منها علي هذا النحو وسلمت عليها بحرارة شديدة، وسألتها عن مكان اقامتها وموعد مغادرتها، وإذا كانت تريد أي مساعدة وعلي الفور أبلغت جهاز المخابرات بالرسالة، ورد علي عزت سليمان مساعد فتحي الديب. قلت له.. الحدوتة كذا وكذا.. فقال لي إنه سيبلغ الأمر لفتحي.. وكان فتحي أمام مجلس الأمة يسعي إلي الدخول لمقابلة زكريا محيي الدين دون أن يستطيع، حيث كانت الأزمة مشتعلة بين اللواء محمد نجيب وباقي أعضاء مجلس قيادة الثورة والتي انتهت بإقالة نجيب فيما بعد، كان الأعضاء في مبني مجلس الأمة يتداولون ويتشاورون، وكان خالد محيي الدين هو الوسيط بين الطرفين. نجيب من جهة في مقر اقامته بالمرج، وأعضاء مجلس الثورة من جهة أخري في مكان وجودهم بمبني مجلس الأمة بمنطقة جاردن سيتي.

كان فتحي أمام مجلس الأمة يريد الدخول بأي شكل لمقابلة زكريا محيي الدين بالإذاعة لإبلاغه بأن صلاح سالم وكان وزيرا للإرشاد القومي جاء إلي الإذاعة وطلب إذاعة بيان عن الأزمة مع نجيب والبيان كان يحمل هجوما علي نجيب، وبالفعل أذاع البرناج العام البيان، ورآني صلاح وهو في طريقه إلي الخروج فسألني: امتي يبدأ برنامج صوت العرب، فأجبت الساعة السادسة، فقال لي: طيب ذيع هذا البيان.. ولما كان هذا الأمر يتنافي مع رسالة صوت العرب، والهدف الذي قامت من أجله، أبلغت فتحي الديب بذلك، فانتقل إلي مقابلة زكريا محيي الدين حيث كان موجودا في اجتماع مجلس الأمة، للتشاور معه في هذا الموضوع، ولم يسهل دخول الديب سوي ظهور خالد محيي الدين وكان هو الوحيد الذي يدخل ويخرج باعتباره الوسيط بين محمد نجيب وباقي أعضاء مجلس قيادة الثورة، وبينما كان الديب في هذه اللحظات من الانتظار استطاع عزت سليمان أن يرسل له ضابط مخابرات اسمه “عليش” ليبلغه أيضا بموضوع فاطمة الزهراء ليقوم الديب بمهمتين في وقت واحد، هما مهمة.. ما إذا كنا سنذيع البيان الذي أعطاه لنا صلاح سالم أم لا؟.. أما المهمة الثانية فهي نقل رسالة العاهل المغربي محمد الخ!
امس والتي حملتها فاطمة الزهراء.

بعدها بيومين قال لي فتحي الديب إن جمال عبدالناصر حين استمع إلي هذه القصة، أمر باستضافة فاطمة الزهراء استضافة كاملة علي حساب الدولة، وسؤالها عما تريده من أشياء، كما أخبرني الديب بأن زكريا محيي الدين قال لعبد الناصر ما فعله صلاح سالم، فرد عليه عبدالناصر “.. لا.. لا.. صوت العرب تذيع ليه الموضوع. إحنا ليه ننشر غسيلنا الوسخ؟”.

بهذه المسئولية.. كان يتصرف الجميع وبهذه الحالة، كان التدافع القومي يتم بمسئولية وفي الحسبان وجود إذاعة وليدة، وصل في درجة أهميته أن يقوم السلطان محمد الخامس بإيفاد سيدة كانت تمرضه إلي الإذاعة ليعطيها النصح في معركة هو طرفها.. وكان هذا النصح مفتتحا لجولة جديدة في الخطاب السياسي للإذاعة في معركة العاهل المغربي، فبعد أن كنا في صوت العرب نعمل بنصيحة الزعيم المغربي المعارض علال الفاسي بألا نقترب من قريب أو بعيد من البربر في الثورة المغربية.. استدعينا الفاسي وأحمد بيوض وناقشنا معهما مضمون رسالة العاهل المغربي فوافقا عليها و كان هذا بداية مرحلة جديدة في تعاملنا مع الثورة المغربية..وبعملية قيصرية أجراها جمال عبدالناصر برؤيته الصادقة لجوهر الأمن المصري.

وكلما يتجدد الحديث عن الثورة المغربية اترحم علي خمسة أشخاص غير الملك محمد الخامس.. أولهم علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال الذي لجأ إلي مصر إثر مطاردة استعمارية خانقة، فقد كان نعم الناصح المرشد بخبايا النفوذ إلي منحنيات الخصائص المتباينة للجماعات التي يتكون منها الشعب المغربي رغم كثرة خلافاته مع المسئولين المصريين عن دعم ثورة بلاده، وثانيهم عبدالخالق الطريس رئيس حزب الشوري والاستقلال الذي نظم شبكة من أنصاره نساء ورجالا فيما بين مكناس وطنجة ومارسيليا وباريس زودت المخابرات المصرية وصوت العرب بسيل متدفق لا ينقطع من المعلومات التي مكنت للدعم المصري المادي والمعنوي أن يحقق أهدافه إلي الشمال والشرق من المغرب، وثالثهم المهدي بن بركة الذي مضي مع الثورة وبعدها قائدا للشارع المغربي ومحدودي الدخل فيه صانعا من الجماهير العريضة تحالفا لقوي الشعب الكادح مثريا نضال الشعب من أجل الاستقلال بالدعوة إلي التحرير الكامل للإرادة المغربية من خلال تحرير الاقتصاد من السيطرة الأجنبية الاستعمارية والرأسمالية الاستقلالية، مما أعطي الثورة بعدا متكاملا لن تلبث أن تحصد ثماره، كان المهدي هو منظم الثورة المغرب!
ية، وهو الذي نقل جماهيرها من حالة العفوية والتلقائية إلي التنظيم، وأفادنا هذا في صوت العرب.. أما رابع الشخصيات التي أذكرها كلما جاء الحديث عن الثورة المغربية فهي عاطف سعد وهو بكباشي مصري أوفدته المخابرات العامة عقب الاندلاع العفوي للثورة ليعيش سنواتها مع المناضلين المغاربة كحلقة اتصال لهم مع مصر ومدرب علي استخدام بعض الأسلحة وممارسة بعض تكتيكات الكر والفر الذي كان مدرسا لها للأفراد المميزين في القوات المسلحة المصرية، دخل عاطف للمغرب علي أنه مراسل لصحيفة “الجمهورية” وانتقل في الجبال وعمل تدريبات للبربر، قام عاطف بمهام جليلة مثل سد الثغرات في جبهات القتال، وإرسال أنواع معينة من السلاح، كما كان حلقة الوصل مع خامس هذه الشخصيات التي أتذكرها وهو عبدالمنعم النجار الضابط الذي أوفدته المخابرات ملحقا عسكريا بسفارة مصر في عاصمة أسبانيا مدريد ليشرف علي عمليات تزويد مقاتلي الثورة بما يحتاجون من سلاح وذخيرة ويمهد لتوسيع المواجهة مع الاستعمار الفرنسي في كل الشمال الإفريقي وخاصة في الجزائر التي كان فتحي الديب رئيس القسم العربي في المخابرات المصرية قد بدأ يلتقي في القاهرة بمبعوث شبابها الرا!
غب في بدء ثورة تحرير مسلحة تشمل كل التراب الجزائري.

ويتواصل دور صوت العرب في دعم ثورة المغرب حتي اضطرت فرنسا إلي إنهاء نفي السلطان محمد الخامس والذي اشترط لقبول العودة إلي العرش أن تعلن اعترافها بالمغرب دولة مستقلة، ويذكر الملك العائد عزيزا إلي بلده الحر فضل صوت العرب فيمنحه واحدا من أرفع الأوسمة المغربية ويكلف ولي عهده الحسن بحضور حفل اقامه إعلاميو المغرب وفنانوه تقديرا وترحيبا بي حيث ينشد مطرب المغرب الأول سنة 1956 أبياتا للشاعر أبي الطيب المتنبي عن قيمة الرأي الحر والقيم الثورية يقول فيها بنغم رياض السنباطي لقصيدة أحمد شوقي سلو قلبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهو المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة

بلغت من العلياء كل مكان

ثم يكمل إنشادها بأبيات أحمد شوقي التي أنشدتها أم كلثوم:

وما نيل المطالب بالتمني

لكن تؤخذ الدنيا غلابا

وما استعصي علي قوم منال

إذا الإقدام كان لهم ركابا

عبد الناصر وصوت العرب 6 – تــــوأم عبــــد النـــــاصر

تــــوأم عبــــد النـــــاصر

مع تدفق الأحداث التي يرويها الاعلامي البارز أحمد سعيد في مذكراته والتي تنشرها العربي، يبقي لاسم محمد حسنين هيكل رنين خاص حين تقترن به حكاية تعبر عن موقف له ورؤية يسطرها بقلمه، لم يكن هيكل في رأي أحمد سعيد مجرد صحفي حين لازم جمال عبد الناصر، منذ قيام ثورة يوليو 1952 وحتي رحيل قائدها في 28 سبتمبر 1970 وإنما كان مهندس أفكار وعقل فذ يعبر عن الضمير الثوري المتلألئ لعبد الناصر وفور ان سألت أحمد سعيد عما يذكره في مسيرته اثناء قيادته لصوت العرب عن الاستاذ هيكل.. رد بتدفق هائل قائلا:
تفرد

تتحدد قيمة الانسان بعمله في الجماعة وبدرجة الابداع والتفاني فيه ثم يأتي تأثيره في الغير فرداً كان أو مهنة أو جماعة لتبلور وتجسد هذه القيمة بالسلب أو الايجاب ومحمد حسنين هيكل منذ بدء حياته العامة قبل الثورة وهو شخص متفرد: صحفي محقق يصعد تباعا وبضربات سلم الشهرة كمراسل ومحقق وكانت تتميز بتراكم بناء فيه من التطور الذاتي والجمعي ما وضعه علي قمة الأجيال الجديدة من الصحفيين قبل الثورة. وهو أمر لا خلاف عليه مهما كانت حدة زاوية الرأي فيه وفي طرحه الصحفي وأسلوبه في هذا الطرح.

ولعل أهم ما يميز محمد حسنين هيكل ـ من واقع فهمي وإدراكي للكلمة الموجهة الي الناس ـ إعطاؤه القارئ قناعة متنامية بقدرة كافية علي التفكير الذهني ويؤكد في صياغة هذا التفكير بأسلوب فيه مع التركيب اللغوي تدقيق متسلسل بربط نقاط نظام عرض لمعلومات في صورة وثائق رسمية أحياناً وآراء عاكسة لآخرين من الاعلام، واضعا بذلك معايير وأساليب تحليلية للكتابة للجماهير المتطلعة الي المعرفة والتفكير منها وتكوين الآراء والمواقف علي أساسها.

ولا شك أن كل هذا التكوين للعقلية الشخصية لمحمد حسنين هيكل جعل رجل الثورة الأول جمال عبد الناصر يقربه منه ـ ربما كصحفي لامع في البدء وخاصة مع نذر خلافه رغم اعجابه وتقديره واعتماده علي إحسان عبد القدوس وأحمد أبو الفتح، غير أن تقريب عبد الناصر لهيكل تطور مع الأحداث والمواقف وبروز نزعة شخصية التفرد عند الزعيم الي أن أصبح هذا التقريب يدخل في طريق التلازم لشخص عبد الناصر ومواقفه، ثم ليصير مندمجاً ذاتيا الي ما يشبه الالتحان العضوي وإذا كان عبد الناصر في رأي كثيرين ثائرا متكاملا بعض الشئ في مجال التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي من حيث استهداف الأغلب الأعم من قراراته صالح جموع الجماهير الكادحة محدودي الدخل في ظل مواجهة داخلية وخارجية تستهدف تحرير مصر والعرب وكافة الشعوب المستعمرة من منطق أن الأمن المصري جزء من الاستقلال العربي والافريقي والاسلامي فإن هيكل وخاصة في المرحلة التي بدأت مع عام 1953 بالذات مهد ولا شك لعقلية الزعيم طريق التغيير الذي يريده في أعماق عبد الناصر وكان ينمو داخله كهوية خاصة تداخل فيها الواقعي مع المثالي من الأحلام والآمال، وليجيئ اقتراب هيكل منه واطمئنانه إل!
يه وثقته في شغفه الشديد بالعمل الذهني بكد واجتهاد ليجسد له طموحات الأمة كلها في ذات عبد الناصر تدفقا وحيوية وجموحاً متطلعا لبلوغ سمت النجوم ولو من خلال مغامرة عاصفة ورومانسية مسرفة تم تغليفها بعقلانية واعية تماما لظروف مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وصراع القطبين الشيوعي والرأسمالي؟

وهنا يجب أن أذكر أول إشارة حديثة بدأت أدرك معها اقترابا ملموسا بين فكر جمال عبد الناصر سويا ناضجا ومكانة هيكل المتصاعدة عند الزعيم.

ففي أوائل عام 1953 طلب مني اللواء عمر كامل الرحماني الذي عينته قيادة الثورة مديرا للإذاعة أن أضمن برنامجا كنت أعده شهرياً عن منجزات الثورة فقرة بما بدأ ينشره محمد حسنين هيكل في مجلة آخر ساعة عن الفكر العام للثورة من خلال ما هو منسوب الي البكباشي جمال عبد الناصر ـ والذي صدر فيما بعد في كتاب متكامل تحت اسم >فلسفة الثورة<، ويومها تداعي الحوار سريعا مع هيكل بشأن ما يراه مناسبا من الذي صدر وسيصدر في العدد القادم بدا فيه حرص هيكل علي تأكيد أنه ناقل لفكر الرأس المنظمة للعملية الثورية البكباشي جمال عبد الناصر، غير أن مؤتمرا شعبيا حدث بعدها بأيام مكان مسجد خالد بن الوليد بامبابة (وكان من قبل ملهي ليلي صيفي يحمل اسم الكيت كات وأغلقته الثورة وأقامت مكانه المسجد) جعلني أعقد مقارنة سريعة بين خطاب قصير شامل لعبد الناصر في هذا المؤتمر مضموناً وأسلوبا وبين ما علمته من فلسفة الثورة فرضت علي بداية قناعة كاملة بأن هذا الضمير الثوري وجد في عقل هيكل وقلمه ما يمكن أن يعبر بدقة متلألئة عن مبادئه وقناعاته ومواقفه وقراراته.

وإذا حدثت أزمة عدلي علام واعتدائه في بلدته علي قسم الشرطة بالسلام وتقرر محاكمة عسكريا لردع الاقطاعيين اقترحت نقل المحاكمة علي الهواء مباشرة، وكان هذا الاقتراح جريئا الي حد وصفه بالجنون، وكم كان غريبا عقب اصراري وشرحي لإمكانية تحقيق مكاسب إعلامية هائلة من الإذاعة المباشرة أن يطلبني صلاح الدسوقي أركان حرب وزارة الداخلية يومها (محافظ القاهرة فيما بعد) وكان محل ثقة كاملة من الثورة ليبلغني ـ وهو غير مسئول عن الإذاعة ـ بإمكان اجراء الترتيبات الخاصة بإذاعة المحاكمة علي الهواء بناء علي توجيه من محمد حسنين هيكل في اجتماع شارك فيه مع جمال عبد الناصر وزكريا محيي الدين وصلاح الدسوقي نفسه، مما جعلني أقترب من اليقين بأن لتفكير هيكل مكانة خاصة عند الزعيم.

وتوالت الشواهد..

مثل قول الرئيس عبد الناصر لي في أزمة احتجاج بريطانيا علي صوت العرب سنة 1956 وحتي نشر هيكل تفاصيلها بمانشيت أحمر بعرض الصفحة الأولي بصحيفة الأهرام بأنه أخذ برأي هيكل في مواجهة هذا الاحتجاج والإفادة من الصراع الدقيق بين لندن وواشنطن.

ومثل تعليماته بأن لهيكل أن يتصل ويطلب بسرعة تنفيذ توجه أوحي به الرئيس رغم أن قنوات التوجيهات لصوت العرب كانت أيامها محدودة للغاية ومحصورة في رسميين قياديين جميعهم من المخابرات وعسكريين.

ومثل أنه عندما تم ايفادي أواخر 1957 وأوائل 1958 الي سوريا لعمل دراسة عن قيادتها الشعبية وتشمل مسحا عن آراء النواب والقيادات السياسية والفكرية والعمال في الوحدة، وفور عودتي طلب الرئيس جمال عبد الناصر كتابة تقري عن مهمتي من نسختين وعلمت فيما بعد وبالتحديد عن حضور الرئيس لسوريا عقب الاستفتاء ومعه هيكل.. أن النسخة الثانية سلمها الرئيس لهيكل.

هذه الشواهد تعكس أن هيكل لم يكن بالنسبة لعبد الناصر الصحفي الأول أو الأوحد كما يحلو لبعض خصومه أن يصفوه.. وإنما هو الصديق الذي يثق بفكره وقدرته علي التعبير عن كل ما يستقر عليه الفكر الثوري لعبد الناصر. ويمكن أن نصف هذا الوضع في العلاقة بين الاثنين بأنها تلازم قد يصل الي درجة من التوءمة بحيث يستحيل في بعض المواقف الناصرية وليس كلها القول باختلاف التوجهين رغم العداوات الكثيرة القوية التي تعرض لها هيكل عند عبد الناصر وخاصة من مجموعة المشير أحياناً ومجموعة علي صبري غالبا.

وهذه التوءمة الجلية تفرض علي هيكل أن يبادر الي إثراء التاريخ بالكتابة عن عبدالناصر حتي ولو طرح فيها جانبا ما لا يريد قوله عن الزعيم كما يذكر في هذا الشأن.

هناك مطلب آخر من هيكل وقد أدمنا منه تشريح الواقع ـ العربي علي وجه الخصوص ـ ألا يفرض عليه قدره أن يكتب صراحة ـ ودون تذاكي (من الذكاء) في اختيار عبارات والطريق الصحيح والجريء للخروج من مأزق المهانة التي يتحمل فيها معه كل جيله نصيبا من المسئولية عنها.

كم أرجو من هيكل وهو أقرب انسان الي عبد الناصر والي التطورات قبله وبعده أن يقيم المسيرة العربية بجرأة الاعتراف وليس بقدرة التأمل.. هذه مسئولية أراها ترقي الي مستوي الأمانة خاصة أنني علي يقين من أن مهما تواضع كان يشارك في التفكير للقرار الناصري، ذلك ان هيكل الذي سعي دائما جاهدا الي ما يكمن وراء الأحداث لم يقع بمجرد عرضها بكلمات وعبارات منظمة، وإنما عمد الي ترتيبها بأسلوب منهجي جعلها تنبض بما يريد ويفكر في إعطائه لجماهير القراء، ولا شك أن كتابين عن عبد الناصر والمسرية الواجبة للأمة العربية ـ حتي لو جاءا يحملان بعض الانحياز ـ إلا أنهما من متابعتي وقناعتي بهيكل وقدراته ووصوله الي قمة قمم النضج الذهني والتعبيري سيكونان تحت مجهر أي مقياس ربحاً للجماهير وزادا لها علي المدي الطويل.

عبد الناصر وصوت العرب 7 – وقائع حوار الساعتين مع عبدالناصر بمنشية البكرى
Posted on 11-9-1428 هـ
Topic: جمال عبد الناصر

مذكرات “أحمد سعيد يواصل فتح صفحات من مذكراته لسعيد الشحات7”

وقائع حوار الساعتين مع عبدالناصر بمنشية البكرى

ستظل مشاهد قرار الاستعمار من منطقتنا العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، موحية لكل مقاوم عربي يحمل سلاحه الآن في وجه الاستعمار العائد بنفس ثوبه القديم وشهدت شعوب المنطقة في هذه المرحلة الناصعة بنضالها أعلامها ترفرف للمرة الأولي بعد عشرات السنين من ذل الاستعمار وقهره، وعاشت صحوة التواصل القومي بفضل قيادة جمال عبدالناصر الذي رأي مبكرا وبعد شهور قليلة من قيام ثورة 23 يوليو 1952، أن أمن مصر في العرب وأمن العرب في مصر، انطلاقا من هذه الرؤية في عام 1953 كلف ضابط المخابرات فتحي الديب بوضع خطة لتحرير الوطن العربي من الاستعمار، فوضع الديب خطته التي قامت علي عدة عناصر كان من أبرزها تأسيس برنامج إذاعي يحمل اسم صوت العرب صارت إذاعة مستقلة فيما بعد، ووقع اختيار الديب علي أحمد سعيد ليكون مذيعه، ثم مسئولا عنه بعد أسابيع قليلة من اطلاقه في 4 يوليو عام 1953، وتدريجيا أصبح هو الصوت الإعلامي الإذاعي الأبرز لجمال عبدالناصر، كما أصبحت صوت العرب السوط الإعلامي الذي يلهب ظهر الاستعمار ولم يكن أحمد سعيد مجرد مذيع تأمل للأخبار أو البرامج وإنما كان طرفا رئيسيا من عشرات الأحداث السياسية !
التي شهدتها المنطقة العربية آنذاك، ولهذا تكتسب فيها حقائق تنشر لأول مرة، لتعطي مزيدا من الضوء علي هذه المرحلة المهمة في تاريخنا العربي. مرض مفاجئ للدكتور طه حسين وأغنية لمحمد الكحلاوي في برنامج غنائي عن ثروات العرب يؤديان إلي أزمة مع بريطانيا وسفيرها في القاهرة يطلب لقاء عاجلاً مع عبدالناصر

في الحلقات الست الماضية تناول أحمد سعيد بدء التفكير في صوت العرب، ومراحل التأسيس لها، ثم معركة إعادة العاهل المغربي محمد الخامس إلي عرشه، ومعركة استقلال الجزائر. وفي هذه الحلقة يكشف أحمد سعيد عن حوار طويل جري بينه وبين جمال عبدالناصر في مارس 1956 بعد أزمة عاصفة مع الحكومة البريطانية بسبب برنامج لصوت العرب وإلي نص الحلقة السابعة.

يقول أحمد سعيد: وقعت حكومة الثورة مع حكومة بريطانيا اتفاقية تقضي بجلاء متتابع لجميع قوات الاحتلال عن قاعدة قناة السويس منهية بذلك احتلال بريطانيا الطويل لمصر، وحدث أن واجهتنا في “صوت العرب” يوم الثلاثاء 6 مارس 1956 مشكلة مرض مفاجئ ألم بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين مما تعذر معه حضوره إلي الإذاعة وتسجيل حديثه المقرر إذاعته في “صوت العرب” مساء هذا اليوم، وبسبب قلة الأشرطة في ذلك الوقت كنا نضطر آسفين إلي محو ما سبق من تسجيلات وإعادة استخدام الأشرطة في تسجيلات جديدة، مما تعذر معه يومها بث تسجيل قديم لعميد الأدب العربي، وكان أن اختارت الزميلة المسئولة نادية توفيق تسجيلا علي اسطوانة لبرنامج غنائي عن ثروات العرب يشترك فيها المطرب محمد الكحلاوي بالأغنية الوحيدة التي ورد فيها لفظ كلمة البترول والجاز، غير أننا فوجئنا بعد يومين باستفسارات منفعلة من وزارة الخارجية المصرية عن تفاصيل هذا البرنامج الغنائي، أعقبتها تحقيقات رئاسية تولاها علي صبري بوصفه مديرا لمكتب جمال عبدالناصر، وواكبها التحفظ علي الاسطوانة المسجل عليها البرنامج بسبب ما أثارته فقراته الكلامية بالذات من غضب حكومي بريطاني!
انعكس في تصريح ساخط لوزير الخارجية البريطانية لوح فيه مهددا بتجميد عمليات جلاء القوات البريطانية وسائر بنود اتفاقية إخلاء قاعدة قناة السويس بحجة ما عكسته كلمات وردت في البرنامج من روح عدائية لبريطانيا وتهديد وتحريض لقتل جنودها ورعاياها في الخليج وعدن مما يعكس وجود نوايا عدائية مصرية ضد بريطانيا ومصالحها رغم ما تبديه من تفهم للمطالب المصرية ورغبة في فتح صفحات علاقات ود وصداقة. وبينما كان التحقيق الرئاسي مستمرا في مجراه وقررت فيه أن أحمل المسئولية كاملة تقديرا مني واحتراما لموقعي كمدير لصوت العرب: فوجئت صباح يوم الخميس 29 مارس بجريدة “الأخبار” تحمل في صفحتها الأولي ثلاثة عناوين حمراء وسوداء بعرض الصفحة وأعلاها تقول: فضيحة دبلوماسية.. جمال عبدالناصر يكشف عن مؤامرة خطيرة ضد مصر.. وثائق مزورة تسلم إلي وزارة الخارجية البريطانية ـ السفير البريطاني يحتج علي إذاعات لم تحدث.. ويلي هذه العناوين الكبيرة الملونة مقال لمحمد حسنين هيكل (وكان وقتها في مؤسسة الأخبار) يروي فيه قصة أزمة “صوت العرب” والبرنامج البديل لحديث الدكتور طه حسين المعتذر لمرض مفاجئ ألم به، وكيف دخل السفير البريطاني وق!
تئذ سير همفري تريفليان علي جمال عبدالناصر يحمل شريطا مسجلا ونصا مكتوبا
لما احتواه الشريط، مؤكدا أنه تسجيل كامل لما أذاعته “صوت العرب” طوال ساعات إرساله أيام الاثنين 5 والثلاثاء 6 والأربعاء 7 من مارس، وأن فقرات فيه.. خاصة البرنامج الذي أذيع ليل يوم الثلاثاء 6 مارس تحتوي علي تحريض مباشر علي سفك دماء البريطانيين وتدمير مصالحهم المشروعة في الخليج وعدن بالخراب والدمار، ويرد عليه عبدالناصر بأنه تلقي استقباله للسفير معلومات تؤكد بأن اتهام حكومة بريطانيا لإذاعة “صوت العرب” غير صحيح ويخالف تماما ما بثته هذه الإذاعة.

ويدور بين عبدالناصر رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت والسفير البريطاني همفري تريفليان حوار يعكس صفة الوضوح والإصرار الواجب عند من أصبح همه وشاغله وكل قدره تحرير شعوب العرب.

قال عبدالناصر للسفير:

ـ قد يكون في إذاعة “صوت العرب” شيء غير قليل من الحدة في اللفظ والعنف في التعبير.. ولكن أن يحرض كما تقول أو تدعي تسجيلاتكم علي القتل.. فهذا ما يجعلني أنفي صحة ما جئتني به من وثائق بعثوا بها إليك من لندن كما ذكرت.

ويرد السفير البريطاني في قلق وحرج:

ـ ولكن هذه الوثائق تسجيلات لمذيعي صوت العرب؟!.

ويجيب عبدالناصر:

لقد علمت بسبب طلبك العاجل مقابلتي كما بلغني كلام وزير الخارجية في لندن وطلبت معلومات عن الأمر وجاءني تأكيد بأن من الممكن عمل تسجيلات مزورة مزيفة.

ويغرق السفير البريطاني في ارتباك شديد ويحاول أن يبرئ نفسه وحكومته قائلا:

ـ ولكن سيادة الرئيس كيف يمكن أن تكون وثائق لندن مزورة مزيفة؟.

ويجيب عبدالناصر:

ـ هذه ليست مشكلتي، وإنما هي مشكلتكم.

ويتساءل السفير:

ـ إنهم في لندن سيادة الرئيس ينتظرون ردا.. فماذا أقول في لندن؟.

ويرد جمال عبدالناصر

ـ قل لهم كل ما قلته لك.. وإنني أقطع بأن التسجيلات التي يرونها في لندن وثائق لما أذاعه “صوت العرب” مزورة ومزيفة وحتي قبل أن أطلب أو أعرف نتيجة التحقيق فيها ذلك لأن السياسة المرسومة لصوت العرب واضحة.. وهي أن يدعو إلي الحرية في كل مكان، وإلي حق تقرير المصير لكل شعب.

ويدفع عبدالناصر بالشريط الوثيقة والأوراق البريطانية لمحتواه إلي السفير البريطاني الذي يعود إلي مبني السفارة في جاردن سيتي حيث يجتمع بأعوانه ساعات بحثا للاحتجاج الذي تم رفضه لما يشوب وثائقه من تزوير، وليفاجأ في اليوم التالي بتطور مثير وخطير.. فقد تلقي من زميله السفير الأمريكي في ذلك الوقت هنري بايرود شريطا نسخة أمريكية الطبع جاءته بطائرة خاصة من واشنطن تتضمن تسجيلا ترصد به المخابرات الأمريكية كل ما يبثه “صوت العرب” منذ لحظة البدء في الفجر حتي لحظة انتهاء الإرسال في الليل، وإذ يلتف السفير ورجاله حول آلتي تسجيل تدوران معا في وقت واحد بالنسخة الأمريكية والنسخة البريطانية لما أذاعه “صوت العرب” في الأيام المذكورة محل الإدعاء يتبين للجميع أن هناك اختلافات قليلة بين النسختين مما يثير الشبهات ضد التسجيل البريطاني ويؤيد وجهة النظر التي أكدها جمال عبدالناصر.

وتنتهي أزمة بريطانيا مع مصر بسبب صوت العرب، ولكن التحقيق الرئاسي في برنامج الأزمة البديل لحديث الدكتور طه حسين مضي في طريقه حتي انتهي يوم الخميس 29 مارس حيث أثبت في نهايته بمسئوليتي وحدي كاملة عن إجراء التعديل، وفي مساء نفس اليوم فوجئت باتصال من سامي شرف وكان قد استقر به الأمر سكرتيرا لجمال عبدالناصر يخبرني فيه بأن الرئيس يريدني غدا في منزله بمنشية البكري في تمام الساعة الواحدة ظهرا عقب صلاة الجمعة.

في منشية البكري

دارت الهواجس بأحمد سعيد ليلة وتوالت علي فكرة احتمالات التأنيب.. متسائلا بينه وبين نفسه.. ما الذي سيحدث؟ وماذا سيقول له عبدالناصر؟.

يقول أحمد سعيد: تأملي للأحداث وما آل إليه الاحتجاج البريطاني واللعبة التي أجادت واشنطن ممارستها خدمة لمصر ومحاولة للتقرب من عبدالناصر: جعلني أتوقع لوما أقرب إلي عتاب الأحبة.. وقد شاركني هذا الرأي قريب صديق كان مستشارا قانونيا لجمال عبدالناصر (المرحوم محمد فهمي السيد) الذي سمع وهو يطلع علي نتيجة التحقيق وهو يبدي تقديره لتحملي لمسئولية التعديل الأزمة كمدير مسئول عن فريق العمل بـ “صوت العرب” الذي تسبب أحد أفراده في إجراء التعديل دون مشورتي.

وجاء يوم الجمعة.. وحرصت علي أداء صلاتها في مسجد الفتح القريب من منشية البكري حيث منزل جمال عبدالناصر.

وفي تمام الساعة الواحدة أدخلني سامي شرف علي الرئيس في حجرة مكتبه بالدور الأرضي، فوجدته واقفا أمام مكتب يمد يديه معا ليأخذ بينهما يدي اليمني في ترحيب حار أنساني تماما كل أفكار وهواجس البرنامج الأزمة.. ثم أجلسني وقبل أن يجلس أمام مكتبه وهو يقول:

معلهش إني طلبتك في يوم الجمعة.

وقبل أن يجري لساني بعبارات تؤكد استعدادي للتضحية بإجازة أكثر من يوم جمعة واحد أفاجأ برنين جرس التليفون فينهض عبدالناصر فانهض من فوري غير أنه يضع كفيه علي كتفي، ضاغطا عليهما برفق وهو يأمرني بالجلوس.. ويدفعني إليه دفعا، ثم يدور حول مكتبه ويمسك بسماعة التليفون وهو يجلس إلي مكتبه هاتفا:

ـ أهلا حكيم.. لا لا.. ساعة زمن.. آه ثلاثة كويس وأكون خلصت مع أحمد سعيد.

ويقفز في ذهني قوله في التليفيون لعبد الحكيم عامر (أكون خلصت مع أحمد سعيد) كل هواجس اللوم التي عايشتني طوال الليلة الماضية وإن كان ترحيبه ووده قد أنعش في نفسي فكرة عتاب الأحبة.

وفجأة.. يكسو وجه عبدالناصر ملمح الجدية والصرامة ويميل نحوي وقد بقي جالسا إلي مكتبه وعيناه تتفرسني في تأمل نافذ وعميق.. ثم ينفجر ـ وأؤكد ـ ينفجر ـ ولكن في تتابع النبع بمياه منتظمة التدفق في غير ارتفاع صارخ أو تضاؤل فاتر.. فقد تحدث علي امتداد أكثر من ساعتين ما يصل بحساب الدقائق والكلمات إلي ما يتجاوز سبعين في المائة من وقت تحاوره معي في هذا اليوم.. وبعكس ما هو معروف عنه ومشهود له من أنه يستمع أكثر مما يتكلم.

ومن واقع ما سجلته في أجندتي الخاصة عن هذا اللقاء أنقله كما حدث:

الرئيس ـ شوف يا أحمد لي مدة ماشفتك وأنت طبعا عارف إن أنا شخصيا باتابعك.. مش في تعليقاتك وبس.. لأ.. في كتير من اللي بتذيعوه.. ومش باكتفي بالتقارير اليومية والأسبوعية عن ردود أفعال إذاعتكم.. لأ. أنا.. وأقولها لك بصراحة.. (ويبستم ضاحكا) يعني اعتراف.. إني أحب أسمع “صوت العرب” وباستريح أحيانا من برامجكم.. حتي اختياركم للغناء.. فيه خط واضح.. واحترام للعواطف.. و”صوت العرب” علي بعضه بيجعل للحياة في رأيي طعم.. وده يمكن أحد أسباب إقبال الناس في كل مكان علي الارتباط به.. يعني مش سياسة وتحرير وبس.. لأ.. ده حياة.. وبيديها طعم فيه أمل.. وده لوحده أقول خلطة سحرية.

ويبدو أن علت وجهي ابتسامة.. فسألني الرئيس:

ـ شايفك بتبتسم (وتتسع ابتسامته).. ده حقك.. لأن عملك وزملاءك في “صوت العرب” ناجح بكل المقاييس تمام زي ما أنا عايز.. وده بيحملكم مسئولية كبيرة.. مثلا جريمة أي حملة لازم تكون مضبوطة تماما كما المطلوب.. فيه يا أحمد أرواح ممكن تضيع هدر في مظاهرة مش محسوب حسابها نتيجة شحنة حماس وإثارة زيادة في غير وقتها أو مكانها.. وزي ما بيقول المثل لكل مقام مقال.

ويبدو أن قدرا من الزهو الذي داخلني وأنا أسمع جمال عبدالناصر يمدح “صوت العرب” بهذا الاحساس الشخصي منه بدا علي وجهي.. إذ فوجئت به يتوقف عن استرساله قائلا:

ـ طبعا.. إنت فاهم شغلك وتأثيره وخطورته أكثر مني.

وتصدر عني عبارة:

ـ العفو يا أفندم.

ويرد عبدالناصر:

التواضع صحيح مطلوب.. لكن الإيمان بالذات وبإنك علي صواب وماضي في الطريق مطلوب أكثر وأكثر.. خد عندك سيدنا المسيح لو كان عام علي عوم الرومان واليهود وأنكر رسالته ماكانش اتصلب طبعا لكن ماكانتش المسيحية من بعده انتشرت بحواريه.. وكمان رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام لو اهتز لحظة بإيمانية ووحدانية الله وحقيقة نزول جبريل عليه وتكليفه بالرسالة ما كان بدعوته وكمان بصبره وقتاله بقي فيه إسلام ولا مسلمين ملايين ملايين.

وبينما أنا أهز رأسي كدليل موافقة علي رأيه أضاف الرئيس: علي فكرة يا أحمد أنا بقالي مدة ماشفتكش.. من أيام زيارة الأمير فيصل (تاني يوم احتلال بريطانيا لواحة البوريمي 26و 27 أكتوبر 1955).

أحمد: تمام يا أفندم.

الرئيس: عموما.. أنا حبيت أقعد معاك قعدة شخصية عشان أحطك في الصورة مباشرة من غير وسيط وكمان أسمع منك من غير أي حرج أو تعقيد إداري.. لأن تصوري أننا في مصر والمنطقة كلها داخلين علي أيام حاسمة أرجو أنها تكون فاصلة تماما بين التبعية بكل مظاهرها ودرجاتها والحرية بكل دلالاتها وانطلاقاتها.. إنت طبعا في ذهنك كل تداعيات الموقف من يوم تأكيدي في المعرض عن صفقة الأسلحة مع السوفيت (27/9/55 أرض المعارض بالجزيرة ـ معرض صور إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة).

أحمد: أيوه يا أفندم.

الرئيس: وأكيد بيبلغوك في المخابرات والخارجية بكل ردود الفعل رغم إن الموضوع مر عليه كام شهر.. وإزاي إن صفقة الأسلحة فتحت علينا النار.. سواء نار تحرش إسرائيلي أو تحرش غربي فرنسي بريطاني أمريكي.. أو الاثنين مع بعض.. ده غير حملة رجعية وكمان غربية بأننا بنتجه نحو السوفييت.. يعني الشيوعية.. ويدخلوا العرب في قلق علي الدين.

يا سيادة الرئيس ومن بدايات “صوت العرب” بنأكد دايما علي الدور الرئيسي للإسلام في صناعة الأمة العربية ونمو الفكرة القومية.

الرئيس: كويس خالص اهتمامكم بإرجاع الأمر إلي الإسلام وخصوصا تناول إشارات فكر ميشيل عفلق وكراسات حزب البعث عن دور الإسلام والأرسوزي كمان. والتركيز الحاصل علي تناول ثورة الجزائر من المنظور الإسلامي خصوصا بعد رسالة السلطان محمد الخامس من المنفي في مدغشقر والتحاف اللي أوصي به بين قبائل الأطلسي في المغرب والجزائر ودمجهم في العملية الثورية بدين الله والإسلام.. وأنا شايف كمان إن الاهتمام بقضية بوريمي وتبعيتها للمملكة السعودية ح يفيد كتير في نفس الاتجاه.

أحمد: مشكلة الصراع علي البوريمي يا أفندم عاملة تشويش في الرأي العام العربي بسبب تبني الولايات المتحدة وشركات البترول الأمريكية لوجهة النظر السعودية.. وفيه صحف كتيرة في بيروت بالذات عملت حملات مريبة ولولا محدودية توزيعها كانت أحدثت تأثير ضار جدا.

الرئيس: ورغم أي كلام معادي.. هذه فرصتنا إننا نوضح للعرب أن سياستنا.. وكمان نؤكدها.بأن كل قراراتنا نابعة من المصلحة القومية العربية.. ودي الحقيقة الثابتة مش المناورة المرحيلة.. أبدا.. والدليل أننا بنشتري سلاح سوفيتي رغم أننا في خندق واحد مع واشنطن ضد المطامع البريطانية في البوريمي السعودية لدرجة أن فيصل ولي العهد السعودي جاء مصر تاني يوم احتلال بريطانيا للواحة عشان يوقع معنا اتفاقية دفاع مشترك.

أحمد: بالإضافة يا أفندم إلي حلف بغداد وخصوصا بعد انضمام باكستان الرسمي رغم دعم أمريكا له وتصريحات دالاس (وزير خارجية أمريكا) ضدنا بسبب حملتنا وتأكيد كل ذلك لاستقلالنا في قرارنا.

الرئيس: ارجع وأقول يا أحمد.. إن الهاجس اللي عندي إنهم مش ح يقولوا إننا ضد مصالحهم ورغبتهم في الاستئثار بالبترول العربي.. لا أبدا.. ح يركزوا أكثر وأكتر علي المسألة الدينية والخطر الوهمي من صفقة أسلحة من دولة شيوعية.. خصوصا لما تيجي جماعة لها نفوذها الشعبي والرسمي زي جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبكل تأثير علي المواطن السعودي ومعاه المعتمر أو الحاج من أي بلد عربي أو إسلامي وتردد كلام زي كلام الأمريكان واليهود والإنجليز والفرنسيين عن خطر وهمي علي الإسلام من مجرد صفقة سلاح شيوعي.. وأنا قدامي تقرير عن حالة تفاعل الناس مع “صوت العرب” في الموضوع ده رغم إعلانك وحملاتك علي استخدام فرنسا لأسلحة خاصة بحلف الأطلنطي في ضرب ثورة المغرب والجزائر وضرورة الأخذ بكل أسباب القوة.. وفي ذهني لسة الأمثلة اللي ضربتها من أيام سيدنا محمد وكمان أيام صلاح الدين.

أحمد: يا سيادة الرئيس.. فيه دايما عندنا مواقف بتفرض ضرورة استخدام الأسلوب المباشر وخصوصا إذا حطينا في الاعتبار مدارك الجماهير ونوعية الخطاب المؤثر فيها وأهمية الاسلوب المباشر.. وربما الحاد كمان في التعامل معاها.

الرئيس: يعني لازم تفتح علي جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. دي جمعية شريكة تقريبا في الحكم السعودي.. أنا شفت تقارير كتيرة عن أن بعض أبناء الأسرة السعودية بتدي الجمعية نص دخلها.

أحمد: يا سيادة الرئيس.. المشكلة مش في أسلوب مباشر وبس يا أفندم.. المشكلة في أهم مردود لحملتنا علي الجمعية في السعودية.. وأحيانا ويمكن غالبا في حالات زي حالة موقف الجمعية من بعض سياسات مصر إن التنوير وأسلوبه العارض يكون أهم وأنفذ.. لكن جماهيرهم اللي بتسمعهم في المساجد والزوايا لا تتأثر إلا بالأسلوب المباشر.. ثم إن أي حملة ولو تنويرية هادية مادام ضدهم ح تكون محل استغلال بأن حملتنا في “صوت العرب” علي جمعية دينية سعودية لها نفوذها الواسع رسميا وشعبيا ممكن يفيد خصوم سياسات مصر من العرب وغير العرب في إشاعة بلبلة أكثر خصوصا إذا ربطوها بموقف الثورة السياسي من جماعة الإخوان المسلمين في مصر والزعم بأن الثورة ضد أي دعوة نشطة لدين الله.

الرئيس: عل العموم نأمل خير من اتصالات مكثفة تتم اليومين دول مع السعودية.. وأعتقد أنها ح تنجح.. وأكيد ح تساعدك في بيان حرص مصر وثورتها علي الإسلام وعملها مع رعاة بيت الله وقبر الرسول لصالح أمة المسلمين.. ثم يا أحمد ح يوصلك بكره موجز تقرير جمعوا فيه كل ردود فعل صفقة الأسلحة في بريطانيا وفرنسا وأمريكا وإسرائيل رسميا وشعبيا وصحفيا وإذاعيا كمان.. وابقي اطلب الإطلاع علي ملفها الكامل.. فيه نقط كتيرة ح تفيد في صوت العرب.. وكمان إشارات لاحتمالات مواقف أطراف كثيرة في المستقبل أجنبية وعربية كمان.. وكلها في الشق ده بالذات عن مصادر رسمية سياسية وعسكرية زي صاحبك تمبلر (الأردن وحلف بغداد) بقي مارشال دلوقت وعامل تقرير فني عسكري طبعا بيطالب فيه من موقعه كمسئول عن رئاسة أركان جيش الامبراطورية البريطانية بضرورة تنسيق مواقف الغرب عسكري الأداة حسب ما كتب لتأمين ما سماه بمصالح الغرب في المنطقة اليوم وللأبد.. ده اللي بيحلموا به.. وده اللي إحنا وإنتم بالذات في “صوت العرب” عليك حمل مسئوليته يوم ورا يوم لغاية ما يتم القضاء علي أحلامهم.

أحمد: وهل لسيادتك توجيه بشأن سوريا ومحاولات نوري السعيد في العراق ومعاه بريطانيا وأحيانا فرنسا وأمريكا إغراء الشيشكلي بالعمل علي العودة لدمشق خصوصا إن علاقته بالأسرة السعودية كويسة.

الرئيس: اطمئن يا أحمد السعودية معانا في تأمين سوريا ومساندة قياداتها الوطنية والقومية خاصة من ساعة ماعرفوا في الرياض دعم الأسرة الهاشمية في العراق لمحاولة إعادة الشيشكلي.. ودي ورقة في ايد صوت العرب.. لابد من كشف محاولات بريطانيا ومعاها طبعا نوري السعيد لتغيير المسيرة الوطنية القومية للسوريين.. صحيح التحالف اللي أطاح بالشيشكلي هش من الناحية السياسية وفيه صراعات بين جبهاته.. لكن فيه ضباط عندهم حس قومي وعند بعضهم التزام حزبي وعاملين توازن وحاجز ضمان.. وعملية رئاسة شكري القوتلي لسوريا بتأمين استمرار سلبية الثلاثين أربعين عضو في مجلس النواب السوري اللي لهم ميول غربية ومصالح نفعية.. المهم تكون منتبه إلي أن سوريا بيحاول نوري السعيد خلق منها نقطة ضعف في الشرق.. لكن إحنا والسعودية متفقين تماما علي دعم شكري القوتلي وكل أصحاب الاتجاه الوطني معاه.. وده المطلوب منك في “صوت العرب” بشأن سوريا في المرحلة الجاية.

أحمد: إحنا بدأنا فعلا من أسبوع يا سيادة الرئيس..

الرئيس: أنا مقدر تداخل الأحداث وتشعبها اليومين دول بكل احتمالاتها وخطورتها علي أهدافنا خصوصا إن أي كسب نحرزه أو أي نجاح نحققه ولو تثبيت موقف وتمديده ومنع تدهوره بيثير العدو ونتيجته بطبيعة الحال رد فعل ضدنا.. مش ضروري بريطاني فرنسي أمريكي.. ممكن يكون إسرائيل.. وأديك شفت الإنجليز هجموا علي البوريمي واحتلوها. وده يمكن اللي خلي السعودية اللي كانت معايا دايما من يوم الثورة بتقدم رجل وتأخر الثانية مقبلة علينا اليومين دول زي ما أنت عارف لدرجة أنهم بعتوا ولي العهد فيصل تاني يوم الاحتلال عشان يعمل معاهدة دفاع مشترك مع مصر.. صحيح إحنا كسبنا بنط.. لكن لازم نحط في اعتبارنا إن أعداءنا لا يمكن بالسهولة دي ح يسكتوا.. وحسب المعلومات المتوافرة إن الأيام الجاية من سنة 56 ح تكون أيام مش طبيعية بالنسبة لمصر والمنطقة. إحنا أولا كسرنا احتكار السلاح.. وزي ما نقلت وكالات الأنباء إن إيدن (رئيس وزراء بريطانيا قال عن صفقة الأسلحة إنها تمرد يجب القضاء عليه، وكمان إحنا حجمنا لهم حلف بغداد وحاصرناه في العراق، ده غير أننا كسبنا تحالف مصري سعودي ونظام جديد في سوريا مبشر.. يعني عمليات متتالية من تحرر في الت!
فكير والقرار والفعل كمان معاه وموازين ليه ثورات بتتمكن يوم بعد يوم في المغرب والجزائر وتونس غير مظاهرات وعمليات عدن والبحرين.. وده يخليني عايزك دايما في الصورة عشان استعدادك للمواجهة يكون مثمر ونافذ.. إذا كان لازمك أي حاجة.. قول.. أفراد.. دراسات.. سيولة في التقارير.. تدفق في المعلومات. الاعتماد عليك كبير.. “وصوت العرب” النهارده أصبح له ثقله.. وكلمة لها تأثيرها في الشارع العربي وفي صناعة الأحداث وفرضها كمان.

أحمد إن شاء الله يا أفندم يكون “صوت العرب” جدير بالمسئولية.. وقبل أن ينتهي عبدالناصر من كلمته الأخيرة، سمعنا طرقات سريعة علي باب حجرة مكتب الرئيس، وينفتح الباب ويعبره عبدالحكيم عامر محييا قائلا وهو يجلس:

ـ أنا بقي لي ربع ساعة حسب الميعاد.. سألتهم بقي لك أد إيه زانق أحمد سعيد؟ قالوا لي أكثر من ساعتين.. قلت أنقذه.. هوه إحنا مش رفضنا الاحتجاج البريطاني وأثبتت تسجيلات أمريكا إن تسجيلات بريطانيا لـ “صوت العرب” مزورة.

تدخل عبدالحكيم أقرب أصدقاء جمال أشعرني بحرج.. ونبهني إلي شيء كدت أنساه.

كنت أمضيت مع جمال عبدالناصر ساعتين وربع الساعة دون أن أفاتحه في موضوع الساعة بشأن اتهام “صوت العرب” بالتحريض علي قتل جنود ورعايا وأصدقاء بريطانيا في عدن وسائر بلاد العرب.. فيقول وقد انتصب واقفا عند دخول عبدالحكيم عامر قائلا:

ـ سيادتك فكرتني.. ده أنا كنت فاكر من ساعة ما طلبني الأخ سامي شرف لمقابلة سيادتك النهارده إن موضوع اللقاء ح يكون الأزمة البريطانية وسببها.

الرئيس: ده أمر وانتهي.. المهم اللي جاي..

أحمد: أنا جد آسف علي اللي حصل.. خصوصا إنهم هددوا بوقف الانسحاب من القاعدة واستكمال تنفيذ اتفاقية الجلاء.

الرئيس: ده طبيعي وبلاش ده يقلقلك ويخليك وزملاءك تعيشوا في توجس وتشتغلوا بنفوس مسيطر عليها التردد.

أحمد: أنا آسف علي الخطأ.. خصوصا البرنامج كان بديل حديث الدكتور طه حسين كان عنيف جدا بيحرض فعلا..

الرئيس: خلاص يا أحمد.. أسفك مقبول بس برضه كمان مرفوض.

ويتدخل عبدالحكيم عامر في الحوار ومرفوض في نفس الوقت.

الرئيس: مقبول لأنه عن شيء عارفين كلنا إنه وقع فعلا رغم أنك قلت في التحقيق إن ممكن عمل مونتاج للشريط اليومي ودس البرنامج الضيف اللي اتذاع قبل اتفاقية الجلاء وسط برامج يوم 7مارس.. وده اللي عملوه وزوره الأمريكان.. وده يديك فكرة واضحة عن خفايا العلاقات بين الدول.. صحيح هما حلفا.. بس مش دايما.. المصالح والأطماع دايما تحكم. وحدوتة تسجيلات السفينة الأمريكية كارير لـ “صوت العرب” يوم 7 دليل علي الصراعات الخفية بينهم وبين بعض.. ده غير خلافاتهم وشركاتهم علي بترول البوريمي، وغير محاولات أمريكا اللعب علي فرنسا علي ثورة الجزائر. وصلتك طبعا معلومات عنها وعن مساعيهم للاتصال بقادة الثورة الجزائرية.

أحمد: وصلت يا أفندم.

الرئيس: كل ده لازم يكون في خلفيتك انت وزملائك..عايزهم.. مش عارف إزاي.. يكونوا قد المسئولية الكبيرة اللي مطلوب منهم أداؤها.

أحمد: إن شاء الله ح يكونوا يا سيادة الرئيس.

الرئيس: أنا عايزك وعايزهم معاك تفهموا إنهم في “صوت العرب” جيش.. أيوه جيش.. ويمكن أكثر أهمية ومسئولية.. إحنا بنحارب به كل يوم. وبننتصر به كتير.. فاهمني يا أحمد.

ويتدخل عبدالحكيم عامر بوده الحميمي ضاحكا وهو يقول:

ده أحمد مش ح يفهمك وبس.. ده بوصفك له ولصوت العرب بأنه جيش خليته فوقنا كلنا.. ده ما حدش ح يعرف يكلمه بعد كده..

وينتهي اللقاء في تشجيع بالغ الأثر..
عبد الناصر وصوت العرب 8 – ” النكسة

“أحمد سعيد” يختتم لـ “سعيد الشحات” صفحات من مذكراته

النكسة””

تاريخ المنطقة العربية لسنوات طويلة، وعلي الرغم من كل هذه السنوات التي مضت إلا أن آثارها مازالت مستمرة، حيث كانت العلامة الأولي والمؤثرة في تطويق المشروع القومي النهضوي الذي قام في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وعلي الرغم من ارتباط النكسة بفصولها الدرامية بأسماء كثيرة، فإن أحمد سعيد ظل هو الأكثر شهرة بين هذه الأسماء، حيث ارتبطت به البيانات التي أذيعت في البداية عن انتصارات القوات المصرية علي اسرائيل ثم اتضح فيما بعد زيفها.. ومن الطبيعي أن هذا يعد اختصارا مخلا فالرجل كانت تأتيه بيانات عسكرية لا يستطيع وقفها، كما ان اختصار دوره الإعلامي البارز علي ساحة الوطن العربي عند هذا المشهد هو اجحاف وظلم له، فصوته زلزل الاستعمار في كل الوطن العربي.. فماذا يقول في هذه الصفحة الأخيرة والدرامية من مذكراته؟
ستبقي نكسة 5 يونيه 1967 مشهدا مأساويا في نذر كثيرة

كانت الأيام السابقة علي نكسة 5 يونيه تحمل نذرا كثيرة، ومؤشرات علي أشياء سوف تحدث وكان أول مؤشر أحسست منه بالجدية يوم جاء مكتبي حسني عبد المجيد وكان أحد مديري مكتب المشير عبد الحكيم عامر وقال لي: هل الرئاسة أبلغتك؟ قلت: بماذا؟ قال: مفروض أنك تكون جاهزاً، ليلة 25، 26 مايو لأننا سنهاجم إسرائيل ـ وكان ضمن الأشياء التي تبعث علي الجدية وإعطاء هذا الكلام قيمة وجود الاستعراضات العسكرية في شوارع القاهرة بالدبابات والمدفعية في تظاهرة عسكرية.

اتصلت مباشرة بوزير الاعلام محمد فائق للاستفسار منه عما سمعته فأكد لي صحة الكلام، وتأسيسا علي ذلك وضعت الخطة وكونت مجموعة فرق، الأولي بقيادة جلال معوض، والثانية بقيادة فاروق خورشيد، والثالثة بقيادة سيد الغضبان، وكان لكل فرقة مهام عدة من أهمها وجودها في مواقع بديلة لو تم ضرب المبني الرئيسي المعروف للإذاعة والتليفزيون.

أكملنا استعداداتنا مع منتصف الليل ليوم 25 مايو وفي الساعة الواحدة فجراً وكنت أنا ونائبي كمال اسماعيل في الاذاعة، اتصل بي حسني مرة أخري وطلب مني الإلغاء، سألته: لماذا؟ قال هناك تدخل خارجي عالمي أوقف هجومنا.. سألته: نلغي نهائياً.. قال: نهائيا.. فألغيت الخطة كلها بما فيها المحطات الخمس البديلة التي قمنا بتجهيزها بديلا عن الإذاعة في حالة ضربها وفي اليوم التالي توجهت الي مكتب الوزير محمد فائق وحكيت له ما جري ففوجئت بأنه لم يقدم اجابات شافية، بعدها بساعة اتصل بي فائق وقال لي أحمد أفتح علي الآخر، العملية انقلبت سياسية، وهناك مبعوث أمريكي قادم الي مصر، وهناك وفد مصري برئاسة زكريا محيي الدين سوف يذهب الي أمريكا لتهدئة الموقف وبحث اغلاق خليج العقبة.. سألته إذا عن نوع الحملة؟! قال: افتح “بلف” وبلف بالانجليزية ـBfuf تعني التموخ، وهي في الاعلام التجريبي تفيد تضخيم موقف والإيهام بقناعة، وهي سلاح اعلامي خطير لأنه ذو حدين وقد ينقلب علي صاحبه وبالا.

ومع تواصل الحملة حدثت مفاجأة دفعتنا سياسيا واعلاميا الي ذروة الـ Bluff حيث كنا في ذروة حملة اعلامية علي العاهل الأردني الراحل الملك حسين، وأثناء ذلك وصل فجأة الي القاهرة وانضم الي مصر وألف قيادة عسكرية مشتركة بقيادة الشهيد عبد المنعم رياض، كان ذلك يوم الخميس أول يونيو.

وفي يوم السبت 3 يونيو عقد عبد الناصر اجتماعا مع القيادة بناء علي المعلومات التي توافرت له من مصادر أكدت ان إسرائيل أعلنت التعبئة ومعني هذا انها ستقوم بهجوم وهذا يعني خطة مضادة، الغريب والمدهش أنه في يوم 5 يونيو كان المشير عامر يستقبل وفداً عسكريا عراقيا، وكان هو ومن معه في استرخاء الي درجة اصطحابه للوفد العراقي في طائرة في أجواء سيناء ووقع العدوان الجوي والمشير في الجو ووصل الحال الي أنهم وجدوا صعوبة في انزال الطائرة في أي مطار لأن غالبية المطارات ضربت.

واصلت حملتنا التي بدأت في 27 مايو وحتي قبل العدوان تصاعدها علي أساس ان هناك حلا سلميا علي طريقة سنة 1956، وكان هدفنا نقل الجماهير لحال قتال. في الوقت نفسه كانت قواتنا في حال استرخاء لأنه حسب زعم شلة المشير في دفاعها عن نفسها بعد الحرب اننا كنا في مواقع هجومية وفي حال استعداد للهجوم، وان عبد الناصر منعنا منه، والفترة من 27 وحتي 5 لم تكن كافية لنستطيع التحول من الهجوم الي الدفاع، وهذا الزعم من المشير وشلته يفهمه العسكر. أما مشكلتي انا كإعلامي فتتمثل في إنني بدأت حملة إعلامية (بلف Bluff) لتحقيق حل سلمي يحمل بشائر نصر عربي، لكنني فوجئت بالقيادة العسكرية تتصل علي الخط المفتوح وتعطي بلاغات، بيان رقم واحد قوات العدو قامت بكذا ونحن رددنا وأسقطنا كذا، وبيان ثان 30 طائرة اسرائيلية سقطت، وبلاغ تال: أسقطنا 40 طائرة وبلاغ رابع وخامس بلاغات.

وفي الساعة 11.55 صباح يونيو جاء أحد المراقبين في أقسام الاستماع السياسي في حال انفعال وهستيريا وهو يبكي ويقول ماذا تذيعون، كل وكالات الأنباء تقول الجيش الاسرائيلي ضربنا وبدأ يخترق سيناء ويذيعون اشياء مخالفة لكل بلاغاتنا الحربية، وأعطاني ورقة من الاستماع، وجدت فيها موقفا متناقضا جدا، رفعت السماعة لأكلم القيادة العسكرية، في مكتب المشير قلت: الوكالات تقول كذا.. كذا، رد شخص اسمه طنطاوي وقال “متصدقش” قلت: هناك تناقض: قل لي الحقيقة، أنا أمامي خطة منظمة وهذه بيانات غرفة العمليات ولا استطيع أن أغير فيها حرفا، قانونا لا أستطيع، الأمر ليس فيه هزل كل ما أريده أن أفهم، أنا أخاطب جنودا وشعبا وملايين عربية لابد أن يكون لدي علم بماذا أقول، وماذا يسمع الشعب الآن من المحطات الأجنبية حتي أستطيع أن أخاطبه ، قال طنطاوي: أنا لا أفهم في عملكم أنا أعرف ما يأتي الي، وأنا ايضا أبلغت الصحف بذلك وهناك صحيفة “الأخبار” أصدرت ملاحق وكان مانشيتها الرئيسي إسقاط 76 طائرة اسرائيلية، وأمام هذا التضارب وعدم وضوح الحقائق منعت اذاعة بيانات جديدة.

وعلي الرغم من هذه الخطوة التي تعتبر مخالفة للقواعد اثناء الحرب إلا أن المفاجأة كانت في أن أحدا لم يكلمني ولم يسألني لماذا لم أذع البيان رقم 4 وأمام هذا الموقف العجيب.. رفعت السماعة التي توصلني تليفونيا بالوزير محمد فائق لأسأله فقال لي ليس عندي أي تعليمات، بل أضاف: أنا محتار مثلك، قلت له كلم سامي.. قال أليس لديك خط مباشر معه، كلمه أنت.. قلت له أنا حاولت أن أكلمه دون جدوي.. كانت البلد كلها مرتبكة.. خناقة في القيادة.. الرئيس في أسوأ حال، لم يكن أحد ممن حوله يستطيع تقدير الموقف، الجميع في اضطراب، لم أجد سامي إلا حوالي منتصف الليل.

حدثته عما مر من متناقضات طوال اليوم وما معي من بيانات مختلفة عما تذيعه وكالات الأنباء. قال القيادة العسكرية هي التي تتولي الموقف الآن وأمام هذا الارتباك وجدت نفسي أحمل مسئوليتي الإعلامية للحفاظ علي الجماهير، وحددت لنفسي أهدافاً في ذلك هي:

ـ أولاً: المحافظة علي الروح القتالية للجنود

ـ ثانيا: المحافظة علي روح الصمود لدي الشعب وحتي لا يحدث نوع من التمزق والضياع حتي تظهر الحقيقة، وبالتعبير البلدي حتي يظهر لتلك البلد صاحب، خصوصا أن الوضع كان مأساة: جنود مهلهلون في سيناء وجيش معاد بدأ يحتل القدس والمسجد الأقصي وغزة والعريش بدأت صورة الانهيار تتجسد، الجميع ينهار.

وسط كل ذلك جاءني بيان من القيادة العسكرية يقول لي وجه نداء الي الوحدات التي دخلت سيناء بأن تعود.. وبالسؤال عن هذه القوات علمت أن الخطة المصرية كانت تقوم في حالة هجوم اسرائيل علي أن يتسلل الفان من جنود الصاعقة للقيام بعمليات تخريبية داخل اسرائيل لتدمير خطوط الامداد الاسرائيلية ويتعاملون مع فلسطينيين لتأمين تلك المسألة. بالاضافة لذلك لم تكن سوريا دخلت المعركة وطلب مني أن أوجه نداءات لسوريا شعبا وحكومة وجيشا لدخول المعركة للتخفيف علي الجبهة المصرية.. وأصبحت موزعاً ما بين عمل إعلامي عسكري وعمل إعلامي جماهيري.

صدرت تعليمات من القيادة العسكرية لنا بأن نشدد الحملة لأن قواتنا تتمركز في الخط الدفاعي الثاني عند الممرات وهذا يعني أن الأمل مازال موجودا إلا أنه انتهي يوم الخميس بأسر اللواء صالح ياقوت بعد معركة مدرعات ضارية. وأمر موشي ديان بضرب القوات الملتحمة بالطائرات.. بعدها صدر قرار وقف اطلاق النار الذي كان مفروضا أن يصدر يوم الثلاثاء.. ورفضته مصر واسرائيل والقوات الاسرائيلية لم تكن وصلت الي قناة السويس ولا حتي الي الممرات.

اتصل بي فوزي عبد الحافظ سكرتير أنور السادات وكان رئيس مجلس الأمة وقال لي الرئيس أنور يطلب منك توجيه دعوة عبر الإذاعة الي مجلس الأمة للانعقاد، قلت له أبلغ السادات أنني لا أستطيع أن أوجه تلك الدعوة إلا بعد الرجوع للقيادة العسكرية أو الرئيس عبد الناصر أو علي الأقل فائق أو سامي شرف، انتهت المكالمة فكلمني أنور السادات مباشرة: جري إيه يا أحمد أنا طلبت كذا.. كذا، قلت له يا سيادة الرئيس نحن في حالة حرب، وايضا أنا لي قنوات وسألته: وما السبب في الاجتماع؟ قال: الرئيس سيأخذ قرارا بالتنحي وسيستقيل ولازم نوجه الدعوة.. بعدها بعشر دقائق وجدت سامي شرف يتكلم وقال لي نفذ التعليمات الموجودة لديك فقط. أي لا أستجيب للسادات! بعدها بربع ساعة وجدت فائق يقول لي اذع، قلت له: أوجه دعوة للنواب؟ قال: نعم، ووجهت الدعوة ثم أذيع بيان التنحي 7 يونيه 1967.

قالوا لنا افتحوا الخط علي بيت الرئيس، فتحنا علي بيت الرئيس وألقي بيان التنحي، كانت البرامج موحدة، وفي الاذاعة والتليفزيون الذي كان يشمل قناتين فقط، بعد اذاعة البيان انهار الجميع من حولي، كانت كل الاحتمالات مفتوحة بدءا من حدوث انقلاب حتي هجوم الجماهير علي الاذاعة. وكانت خطتي أن تتماسك الجماهير بقدر الامكان وبدأنا نعمل علي هذا الاساس، خصوصا ان الهزيمة أعلنت في أسوأ صورها وهي صورة انسحاب الرمز، والبطل، كانت المشكلة أمامي كيف تبقي الناس متماسكة ونحن نعلن لهم الهزيمة.

خصائص الشعوب

أفادتني دراساتي لخصائص الشعوب العربية نفسيا، وردود أفعالها الجماعية، وركزت في الساعة الأولي علي شعب مصر وطبيعته المسالمة الوفية خصوصا عند الحزن، وفكرت لحظات في الأمر بتقديم تلاوة من آيات قرآنية معينة مثل قول الله تعالي “ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين” ولكنني خفت مع حزني الهائل ان ينعكس علي الناس علي رغم جلال القرآن الكريم وكونه شفاء للنفوس فيبدو أمر الاعلام يومها وكأننا في مأتم مما يعني عند جماهير المتلقين ان ما حدث هو موات لمصر والعرب، وكان أن استدعيت زميلتي نادية توفيق وهي المتخصصة في التسجيلات الغنائية وطلبت منها كشف الأغاني الوطنية ذات الشجن العميق، فاختارت لي أغنيات عدة وصدرتها بأغنية لمحمد فوزي اسمها “بلدي” تحمل كلماتها وألحانها شجناً مثيرا لعواطف الناس حبا لمصر ولأي وطن، وكان لها مفعول السحر فقد كانت لها خاصية ذات تأثير ساحر يلزم سامعها بأن ينكفئ علي بلده وعلي نفسه وعلي آلامه كلها حانيا مشفقا. بعد إذاعة أغنية محمد فوزي بدأ الزملاء في الاذاعة ممن يحفظون القرآن والأحاديث النبوية الشريفة في تذكر آيات وأحاديث الصمود لاستغلال ا!
لعاطفة الدينية في تهدئة أي نوبات غضب أو ثورة لدي الجماهير في الشوارع، ونحن علي هذا الحال دق جرس التليفون وكان المتحدث ـ أخيرا ـ سامي شرف، وقال: إن المشير عامر قادم إليك ليذيع بيانا، امنعه. قلت له: كيف؟ قال في حسم: “تصرف وأنا أحملك المسئولية”. سألته: هل كلمت الوزير؟ قال: “كلمته”.. حاولت الاتصال بالوزير فائق كان انصرف من مكتبه الي بيت الرئيس عبد الناصر.

طلبت من وكيل الوزارة علي خشبة أن يطمئن علي الحراسة الموجودة حول المبني، عاد ليقول لي إن قوامها أربعة عساكر بوليس مسلحين ببنادق من الحرب العالمية الثانية (لي أنفليد) قلت له: هل هؤلاء سيمنعون المشير؟ كان لابد من التصرف بسرعة، خصوصا أنني أصبحت المسئول عن موقف لم يكن في الحسبان ابدا. كان الموقف خطيرا فهناك رئيس تنحي، ورئيس جديد موجود الآن (زكريا محيي الدين) وقائد جيش لديه خلافات عميقة مع مؤسسة الرئاسة وقادم إلينا ببيان لا أعرف فحواه بكل احتمالات ردود فعله عسكريا وجماهيريا وعربيا.

واهتديت الي خطة تمثلت في ادخال صوت المشير علي المحطات البديلة بحيث يسمعه رجال المشير معنا في غرفة التحكم (الكنترول روم) ولكنه لا يذاع علي الجماهير، واتفقت مع مهندس الاستوديو علي اشارة معينة (يدي فوق رأسي) وقتها مباشرة يحول صوت المشير الي الاذاعة البديلة بعيدا عن الأثير. في هذا التوقيت اتصل مدير التليفزيون محمد أمين حماد وسألني عن المشير وبيانه، وهنا تنبهت الي ما ستكون عليه الحال لو أن المشير جاء يفاجئني بأن أحداً لم يتصل به وينبه الي منع اذاعة أي بيان للمشير، وكان أن أخبرته بما لدي من تعليمات وطلبت منه من باب تركيز التعامل مع الجماهير ليلتها أن ينهي ارسال التليفزيون، فتردد قائلا، ولما شرحت له خطورة احتمالات ردود فعل إذاعة بيان المشير بعد إعلان عبد الناصر عن تنحيه، وافقني علي طلبي وأنهي ارسال التليفزيون.

وصل سمير مصلح سكرتير زكريا محيي الدين ومعه بيان بصوت زكريا يطلب اذاعته فوراً.. طلبت أن أسمع البيان فوافق السكرتير وقال لي ملخصه إن زكريا يرفض تولي رئاسة الجمهورية، ولكن أثناء استماعي للشريط اتصل بي الفريق صدقي محمود قائد سلاح الطيران (وكان أحد رجال المشير) وقال لي يا أحمد خد بلاغ مني (أنا أرفض تنحي الرئيس عبد الناصر) وبعده مباشرة اتصل بي سليمان عزت قائد القوات البحرية وقال لي مماثلا.

فكرت في أنني لو أذعت واحدا منها فسوف أفسد تحركات “شلة المشير” وشمس بدران كان وزيرا للحربية، لأن رجال المشير وفق هذه البلاغات يؤيدون بقاء الرئيس مما ينقذ البلد من احتمالات صراع عسكري وتمزق جماهيري.

جربت اذاعة برقية صدقي محمود وبمجرد اذاعتها انفجرت هواتف المبني بالبرقيات من وحدات الجيش كلها تؤيد بقاء عبد الناصر. وقد حدث ما توقعته، فقد تراجع المشير عن الحضور الي الاذاعة.

وأذكر أن الفريق عبد المحسن مرتجي قال لي: ان عبد الناصر ظل يحمل لك جميل السيطرة علي الوضع داخل الإذاعة بالدرجة التي تمنع اذاعة بيان المشير في حال وصوله الي الاذاعة لأنه لو وصل وأعلن بيانا معاكسا لكانت القوات المسلحة ستنقسم وكان من المصلحة منع الكارثة بأي ثمن.

اندفعت الجماهير نحو بيت الرئيس بشكل عفوي وهادر، وعند الواحدة بعد منتصف الليل بدأت التظاهرات تنتظم، في هذا التوقيت اتصل بي سامي شرف وقال أذع كل البرقيات التي تصلك، وأنا بالفعل كنت أذيع كل البرقيات التي تصل من القوات المسلحة عند حدود رتبة (لواء) علي أساس تأمين القوات ومنع رجال المشير من التحرك أي حصارهم بتظاهرة التأييد من جانب قوات الجيش المصري.

تعليقي الأخير

يوم 13 يونيه اتصل بي سامي شرف الساعة 12 ليلا وقال لي الرئيس عبد الناصر يطلب منك فصل الموجات (أي العودة للبرامج العادية).. بقيت مشكلتي أنا كصوت عرب.. ماذا أقول للناس بعدما حدث كيف أواجههم.. ماذا يفعل صوت العرب؟

وجدت أسلوب عبد الناصر هو الأقرب للمعالجة، فالرجل اعترف بخطئه وقال أنا متنح وأتحمل المسئولية كاملة، لكن أنا كصوت العرب لا أملك التنحي ولكن أملك أن أدين من أخطأ، فكان التعليق المشهور تعليق 13 يونيو ، وحمل عنوان.

واجب المائة مليون بعد النكسة.

أما نصه فكان.

من النكسة

يجب أن تتعلم الجماهير..

ومن أسبابها:

يجب أن تعود الي الحياة الحركة المعاصرة للتاريخ العربي..

ومن نتائجها..

يجب أن تنطلق جميع قوي المائة مليون: سياسيا واقتصاديا وعسكريا لفرض المد العربي علي الجذر والحرب المدمرة.

فالنكسة وقعت.. وفرضت نفسها علي المنطق الذي ساد زمانا وطن العرب..

وقام بعدها واجب حتمي يفرض اليوم وعلي كل العقول العربية المائة مليون أن تجد الأجوبة: والأجوبة الصحيحة وحدها: عن عدة أسئلة تفرض نفسها الان.. وتلح في عناد كله حقد، واصرار كله دم:

السؤال الأول

ما هي الأسباب الرئيسية للنكسة: الاسباب السياسية والاسباب العسكرية..ثم لابد أن هناك أسبابا عربية؟

السؤال الثاني:

ماذا يريد اليوم الاستعمار.. متمثلا في أمريكا وبريطانيا، سواء بالنسبة لمخططاتهما الامبريالية، أو بالنسبة لقاعدتهما إسرائيل؟

والسؤال الثالث:

أين تقف منا دول العالم.. سواء دول الكتلة الشرقية أو دول أوروبا وآسيا وكذلك أمريكا اللاتينية؟

والسؤال الرابع:

ما هي الأسلحة التي يمكن أن نخوض بها معركة سياسية أو غير سياسية: نزيل بها آثار العدوان، وننطلق بها في مسيرتنا النضالية القومية؟

هذه هي الأسئلة الأربعة التي تفرضها العقول العربية المائة مليون علي الألسنة العربية المائة مليون وتلتمس من وعيها ومن تجربتها وايضا من النكسة ذاتها أجوبة محددة ودقيقة في صدقها!!

فالواقع العربي اليوم: لا يجب تركه لمجرد التوجيه ضد اليأس.. أو لمجرد الايمان بالقومية.. أو لمجرد جمع ما تبعثر من تناقضات هذه الأمة.. كذلك لا يجب تركه لتلك الدعايات التي تريد أن تقفز عليه وهو ذبيحة النكسة ولتحتويه الكتلة الغربية أو حتي لتحتويه الكتلة الشرقية ملتمسا في الاحتواء لهذه الكتلة أو تلك ما يراد أن يصور له اليوم من أنه حبل النجاة للعرب أو القشة التي يمكن أن يتعلق بها الفريق العربي.

فالواقع الذي قام يا أخي بالنكسة: يفرض أولا وقبل كل شئ تقييما يقوم علي تحقيق شامل لجميع اسباب النكسة. ابتداء من الاسباب العسكرية.. الي الأسباب العربية.. الي الاسباب الادارية الي الأسباب السياسية المتصلة بعواصم دول العالم الكبري في الشرق قبل الغرب.

ولقد أشار جمال عبد الناصر الي بعض هذه الأسباب.. ولكن عجالة النكسة وسرعة رد فعلها عنده لم تتح حتي الآن لكل مسئول عربي.. والمسئول العربي اليوم هو كل مواطن عربي.. أن يدرك أسبابها الكاملة وأبعاد هذه الاسباب في مصر وفي كل عاصمة عربية اشتركت في القتال أو تعاطفت معه أو وقفت تتفرج عليه..

فأسباب النكسة: لا يجب أن نتصور فقط علي أنها عسكرية الجوانب..

وأسباب النكسة ايضا لا يجب أن نبحث عنها فقط في عواصم الغرب من دون الشرق.

وأسباب النكسة كذلك: لا يجب أن نفتش عنها وننقب في مصر فقط أو في سوريا أو في الأردن وأسباب النكسة بالحتم: يجب أن نحفر عنها ونتعمق في أساليب العمل العربي وايضا في أساليب ومخططات الحكم العربي طوال السنوات الماضية وعلي امتداد الساحة العربية.

فالكل:

المائة مليون..

يجب أن يؤمنوا جميعا: إن أرادوا خروجا من النكسة والي النصر:

الكل:

المائة مليون..

يجب أن يؤمنوا جميعا بمسئوليتهم عن النكسة.. لا فرق بين رئيس هنا أو فلاح هناك.. لا فرق بين حاكم هنا أو عامل هناك..

لكل مسئول..

فالكل يملك الأرض

ويجب من اليوم أن يمارس الملكية..

يجب أن يمارس المائة مليون:

يجب أن يمارسوا حقهم في البحث عن أسباب النكسة..

ثم يجب أن يمارس المائة مليون:

يجب أن يمارس حقهم في ضرب وقهر جميع أسباب النكسة..

هناك أسباب سياسية..

هناك أسباب عسكرية..

هناك أسباب عالمية..

ثم هنا ايضا أسباب شعبية.. تتصل بمسئولية الجماهير عن كل الثغرات الواسعة التنظيمية والحكومية وايضا الممارسة الديمقراطية والتي نفذت منها وبسرعة مذهلة قاسية كل الأسباب التي فرضت النكسة

الشعب كله.. يجب أن يفكر..

الشعب كله.. يجب أن يقرر..

الشعب كله.. يجب أن يراقب..

الشعب كله.. يجب أن يحكم ويملك.. وليتحرك دائما يسد الثغرات التي قد تفرض علي أمة العرب نكسة أذل وأخطر..

فالاستعمار اليوم:

أمريكا وبريطانيا:

يدان وقد وجها الي القوة العربية ضربة النكسة: ان يقوما بتصفية العداء القومي الذي أشعلته الجماهير بثورة 23 يوليو، وصولا الي احتواء الغرب للمنطقة العربية من جديد، يتمركز فيها ليتابع نهب ثرواتها البترولية، ولتأمين سلامة أوضاعه الاستراتيجية، وليحفظ لأجيال قادمة قاعدته العسكرية العدوانية اسرائيل.

ولقد فوتت اليد العربية من الخليج الي المحيط: فوتت علي الاستعمار ضربته الثانية الي رمز حركتها القومية الاجتماعية عندما أصرت علي ناصر في عناد هستيري شعبي ورسمي وعن ابعاد الضربة الاستعمارية والاستعمار بطبيعة الحال لم يستسلم. فهو بمنطق القوة، ومن مركز النصر، لن يلبث أن يحاول توجيه ضربة أخري: ان لم تكن في المرة القادمة موجهة مباشرة الي القاعدة العربية الرئيسية مصر: إلا أنه ولاشك سيحاول أن يوجهها الي القاعدة الثورية العربية في اليمن. أو علي الأقل في سوريا أو في العراق أو في الجزائر وألا تتخلوا عن كونكم مائة مليون.. فلا تتمزقوا كافرين بعروبتكم ولتبتلعكم الحتيان الفاغرة الآن أفواهها في محيط الصراع العالمي.

اللهم قد بلغت..

اللهم إني أشهدك..

معان إثارية

في صباح اليوم التالي لإذاعتي هذا التعليق طلبني محمد فائق وزير الاعلام وحدثني عن هذا التعليق وما به من معان اثارية، وقال إن الناس قد تفهمه بشكل خاطئ وتحدث بلبلة في الشارع.. قلت له إن هدفي له غايتان.. إحداهما: محو آثار حملة التمويه الـ “بلف” السابقة علي 5 يونيو خصوصا ان هزيمة مروعة ومهيبة وسريعة لحقت بنا ونحن اعلان المهزومين، والثانية: ان مضمون البيانات العسكرية والخط الإعلامي أثناء الأيام الأولي من الحرب كان يحمل شحنة تفاؤلية أغرقت الناس في أوهام من دون أن نعطي من الزمن ما يسمح بتدفق عرض الحقائق الحربية بصورة تضمن استمرار ثقة الجماهير في الاعلام المصري، خصوصا صوت العرب. وهنا فاجأني بطلب غريب سمعته للمرة الأولي: ان أشركه في التعليق، بحيث يتطلع علي نقاطه وأسلوبه ـ أي يراقبه. رفضت بل ثرت وهددت بالاستقالة مؤكدا في عبارة حادة اللفظ انه لم يعد يشرفني الاستمرار في العمل اذا كان الهدف مواصلة التمويه علي الناس وعدم كشف الحقائق، ووضع اسس لعمل اعلامي سليم من جهة بل وضع قواعد تحول دون الحاق هزيمة مماثلة بالخط القومي وأجهزته المصرية.

استمرت اذاعة صوت العرب في اذاعة الأغاني الوطنية وفي تقديم البرامج التي تحث علي شحن الجماهير حتي كان حديث الرئيس عبد الناصر يوم 23 يوليو والذي قال فيه ان هناك من يصر علي أن المعركة مستمرة. ولابد لنا من التقاط أنفاسنا وأنا سألت عبد المنعم القيسوني عما كان يذاع في اذاعات انجلترا وفرنسا اثناء الحرب وهل كانت كلها وطنية إنه كان يذيع أغاني غرامية لذلك أنا أقول للإذاعة أتركي هذا الخط، وشعرت بان الغضب قد بدأ يظهر علي عبد الناصر لموقفي.

ولكن ما أثار استغرابي أن الفريق مدكور أبو العز وكان قد عاد كقائد للقوات الجوية استدعاني وطلب مني عمل محاضرات حماسية تشد من أزر الضباط والجنود في القوات الجوية والذين يعانون من انهيار نفسي شديد وسألته اذا كان الرئيس عبد الناصر يعلم بذلك فأكد لي أنه هو الذي اختار اسمي وبدأت في عمل تلك المحاضرات وأذكر ان الرئيس مبارك حضر اثنتين منها وفي هذه الفترة كان قد بدأ سخط في مصر بسبب أن “تيتو” رئيس يوجوسلافيا قد حضر بمشروع تفاهم بين مصر واسرائيل وكان هذا يعني اعترافا بدولة اسرائيل وكان هناك ضغط علي موافقة دمشق وبغداد ورفضت بغداد في ذلك اليوم وكانت هناك محاضرة حضرها خمسمائة من القوات الجوية في القاعة التي كانت لصيقة بمنزل عبد الناصر وسألني أحد الضباط فعلا لو فرض أن حاكما عربيا وافق علي هذا المشروع فماذا يحدث فقلت لهم لعلكم لا تعرفون من هو مصطفي عيسوي انه المصري الذي اغتال أحمد ماهر رئيس وزراء مصر عندما قرر أن يعلن الحرب علي ألمانيا وايطاليا واليابان مما يضر بمصالح مصر ونحن في مصر لن نعدم مصطفي عيسوي اخر لو حدث ذلك، وفي عصر ذلك اليوم طلبوا مني أخذ اجازة مفتوحة فقدمت استقالتي وأرسلتها لسامي!
شرف.

بسم الله الرحمن الرحيم

السيد رئيس الجمهورية

سلام الله ورحمته وبركاته أمام ما يتوالي أمامي من تآكل للعمل المطلوب حماية للمبادئ التي عشت أدعو من أجلها، وتيقني من استمرار الاسباب التي أدت الي ما نزل ببلادنا ونضالنا. وتعدد شواهد اهدار الفرص الكفيلة بإخراجنا من المحنة ووأد جميع عناصرها: أجدني وقد استشعرت الغربة في الوطن والنفس والعمل مضطرا الي تقديم استقالتي من ادارة اذاعة صوت العرب، داعيا الله عز وجل أن يخرج مصر والعرب من ظلمات الهزيمة وهوانها بالقضاء علي أسبابها وقبر تداعياتها.. إنه نعم المولي ونعم النصير.

عبد الناصر وصوت العرب 9 -دور عبد الناصر في ثورة الجزائر

أحمد سعيد يروي لسعيــد الشحـــات أسرارا جديدة عن دور عبد الناصر في ثورة الجزائر

الــزعــــــــــيـــم

ستظل مشاهد فرار الاستعمار من منطقتنا العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، موحية لكل مقاوم عربي يحمل سلاحه الآن في وجه الاستعمار العائد بنفس ثوبه القديم، حيث شهدت شعوب المنطقة في هذه المرحلة الناصعة بنضالها اعلامها ترفرف للمرة الأولي بعد عشرات السنين من ذل الاستعمار وقهره، وعاشت صحوة التواصل القومي بفضل قيادة جمال عبدالناصر الذي رأي مبكرا وبعد شهور قليلة من قيام ثورة 23 يوليو 1952 أن أمن مصر في العرب وأمن العرب في مصر، وانطلاقا من هذه الرؤية وفي عام 1953 كلف ضابط المخابرات فتحي الديب بوضع خطة لتحرير الوطن العربي من الاستعمار، فوضع الديب خطته التي قامت علي عدة عناصر كان من ابرزها تأسيس برنامج اذاعي يحمل اسم صوت العرب، صار اذاعة مستقلة فيما بعد، ووقع اختيار الديب علي أحمد سعيد ليكون مذيعه، ثم مسئولا عنه بعد أسابيع قليلة من اطلاقه في 4 يوليو عام 1953 وتدريجيا اصبح هو الصوت الاعلامي الأبرز لجمال عبدالناصر، كما أصبحت صوت العرب السوط الاعلامي الذي يلهب ظهر الاستعمار.
ولم يكن أحمد سعيد مجرد م

في الحلقات الخمس الماضية تناول أحمد سعيد بدء التفكير في صوت العرب، ومراحل التأسيس لها

يقول أحمد سعيد:

عبدالناصر يسأل فتحي الديب عن شاعر امازيغي جزائري، فيقودنا سؤاله الي حوار ثري عن الأمازيغ والعروبة والإسلام في الجزائر

يدين صوت العرب في تحديد صياغات مفردات خطابه الاعلامي المساند للثورة الجزائرية لابن غرداي اول مجموعة أناشيد جزائرية عرفناها في مصر.. وتم استثمار هذه التسجيلات في الخطاب الاعلامي المواك الشعب للثورة التي بدأ الاعداد لها وتلته مباشرة إذاعة تسجيل أحدث أناشيد صبية الكشافة الجزائرية والذي يح اليوم عقب حديث أحمد بن بيللا.. فأجابه فتحي الديب بأن المؤلف أمازيغي الاصل اسمه مف

ابدي عبدالناصر اعجابا لما أصبح متوافرا لدي صوت العرب من معلومات عن الجزائر. وعلي وقع .ابتسامات عظيم.. ثم يشير إلينا أنا والديب الي ضرورة استلهام تفاصيل صياغة الخطاب الإعلامي الموجه للجزائريين من واقع ما سمعه اليوم من كلمات هذا الشاعر الأمازيغي الأصل ويسألني عبدالناصر عن موقع الاسلام والعروبة في كلمات النشيد الذي سمعه الليلة.

بلغ صوت العرب عامه الاول في الثالث من يوليو من عام 1954 ولا انسي فيه ما حييت لقاء من اهم لقاءا مذكرة اقتراحه بتوجيه برنامج اذاعي الي

واشار عبدالناصر الي موقف صوت العرب من ازمة مارس سنة 1954 وكيف تعامل معها صوت العر لمجلس الثورة، غير أن جمال عبدالناصر يبادر الي القول في نبرة حازمة:

– يا فتحي.. ده صوت العرب.. مش صوت مص

أحدثت هذه الكلمات من جمال عبدالناصر رد فعل لدي حول قضية كانت تشغلني وانتهزت يومها الحوراني وصلاح البيطار من سوريا ومثل بيير الجميل وريمون اده وكامل مروة الذين كانوا قد نظموا في دمشق وبيروت مظاهرات ضد ثورة مصر إبان ازمة مارس 1954، استمع جمال عبدالناصر باهتمام بالغ إلي هذا العرض قائلا:

– صوت العرب مسئوليتك يا أحمد من ألفه ليائه.. ولك ان تعمل فيه كل اللي تشوفه يحقق اهدافه، وانا لما اشرت بعلامة عندي البناء مش الهدم.. وحتي لو اضطريت للهدم يبقي من أجل بناء أحسن واثبت وانفع.. وأظن مفهوم يا أحمد.. الحرية مسئولية قبل ما تكون ممارسة.

لم أتمكن من التعقيب علي مفاهيم رئيس مجلس الوزراء جمال عبدالناصر لأن صاحب فكرة صوت العرب رجل المخابرات فتحي الديب سبقني الي قول باسم اجابة عليه عبدالناصر يقول نصل..

قال فتحي الديب ضاحكا..

– يا أفندم.. بعد كلام سيادتك ده أنا مش أعرف أقول لأحمد سعيد تلت التلاتة كام.

ويقول لي: المهم عندي يا أحمد البناء مش الهدم، وحتي لو اضطريت للهدم يبقي من أجل بناء أحسن واثبت وانفع، والحرية مسئولية قبل ماتكون ممارسة

ويعقب جمال عبدالناصر في مرح ظاهر لم يلبث ان سيطر عليه حزم باسم:

– ابقي تعالي قل لي انا بداله تلت التلاته كام..وأنا اخليه يندم انه حوجك لسؤالي.

هممت لحظتها بالمشاركة فيما يدور من حوار لولا طرق علي الباب وانفراجة من سكرتير عبدالناصر الافريقي وخاصة الجزائر حيث توالت ايامها سنة 1954 – ومازالت حتي اليوم من سنة 2003 في كثير من مضمونها الشأن الامازيغي.. علي أنه هم قومي يحتاج الي حكمة بالغة الفطنة في معالجة ومخاطبة جماهيره.

وصية عبدالناصر بالأمازيغ

كان سؤال عبدالناصر حول الأمازيغ ووضعهم وأهميتهم في الشأن الجزائري، وتتابع الحوار ثريا حول تفاصيل ا آخر الأمر فكرة عند جمال عبدالناصر عكست عندي وكما قلت فيما بعد قناعة كاملة بأنني أعمل مع رجل فيه من القدرات ما يؤهله لقيادة جيل وزعامة أمة ومحاولة الوصول الي كثير من الأهداف.

قال عبدالناصر:

– فتحي عاوزك تبلغ أحمد (يقصد أحمد بن بيللا) انه واخوانه لازم يهتموا بضم قبليين للقيادات العليا حتي لو من دون بقية الجزائر.. البحث ده وكل اللي زيه لابد يا فتحي يدروسوه في صوت العرب عشان يعرفوا كويس بيكلموا مين ويقولوا ايه.

ويبتسم فتحي الديب وهو يطمئن الرئيس عبدالناصر بأن هذا البحث وغيره من ا

ويداعب عبدالناصر فتحي الديب قائلا:

– يعني صاحي لشغلك وبلاش أنا اتفلسف.. ويبادر فتحي مبتسما.

– العفو ياريس.. أنا بس بطمن سيادتك.. ويعاود عبدالناصر نصحه بشأن القبلية في الجزائر قائلا.

– فهم أحمد يا فتحي () إن وجود كم جنب منهم في القيادات العليا ح يضمن شيوع الثورة وشمولها كل الشعب ويضمن لوحدة الجزائر حريتها بعون الله.

ترك هذا الحديث تأثيرا خاصا علي أحمد سعيد لم يغادره أبدا حتي هذه اللحظة من حياته.. يقول عنه:

تأكدت قناعتي بزعامة عبدالناصر ووجدت فيه في هذا اليوم ما يمكن أن يجسد ميراث ملايين طال تعطشها قرونا عديدة لنهضة وحدوية يعم خيرها كل الجماهير العربية خاصة وانها تمتلك من القدرات الاقتصادية ما يؤهلها لمكانة رفيعة في دنيا القرن العشرين.

خطاب عبدالناصر

انتهزت إشادة عبدالناصر بموقف “صوت العرب” المحايد في أزمة مارس 1954، وطلبت منه إتاحة الفرصة لاستضافة معارضين عرب لثورة يوليو مثل ميشيل عفلق، واكرم الحوراني،،وصلاح البيطار، وبيير الجميل

خرجنا من عند جمال عبدالناصر وبحوزتنا كلمته التي سيلقيها الي الجماهير العربية في كل مكان، وكانت هي الاولي منه في الاتصال المباشر معهما.. قال عبدالناصر في كلمته: “ايها الاخوة في العروبة المجيدة”.

باسم الله العلي القدير وباسم العروبة ا

اطلقت مصر “صوت العرب” من قلبكم القاهرة حربا علي المستعمرين، وشوكا يدمي ظهور الغادرين اطلقته مصر الاسمي، وهم مؤمنون به، لأنه من العرب وبالعرب وللعرب، وكم سعدنا جميعا اذ نري صوتنا جميعا “صوت العرب” وقد حقق الوحدة العربية، اذ جمع العرب حوله، وعقولهم تفكر معه في مشكلات الأمة العربية الواحدة، وكفاحهم يتشكل بكفاحه من أجل الحرية العربية الخالدة.

وكان طبيعيا و”صوت العرب” يسعي الي وحدة الاحرار ان تتآلب عليه قوة المستعمرين والغادرين، تريد أن تخنقه،. ولكن “صوت العرب” لأنه صوت الحق العربي الثابت علي مر الأيام والدهور.

واليوم اذ يبلغ “صوت العرب” الوليد العام الاول من عمر الدهر وسط خضم هائج تروج فيه الدسائس، ويتصدع من أجل العروبة، وأحيي فيه العرب الذين التفوا حوله، وووثقوا به، وآمنوا بعروبته، احييكم واحيي وحدتكم العربية الخالدة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كانت هذه الكلمة هي أول اتصال مباشر من جمال عبدالناصر بالجماهير العربية عبر الاذاعة، وتركت صدي هائلا بينها لمسناه من ردود الأفعال التي وصلتنا.

تتابع الاعداد الجزائري والدعم المصري استعدادا لبدء الثورة، واختار فتحي الديب مكتبي بالدور الخامس بمبن ويدوش مراد – كريم بلقاس – بن المهيدي – محمد بوصياف ورايح بيطاط) وفاجأني الديب يطلب من بن بيللا وخيضر فك طلاس بين قادة الجزائر في الداخل والخارج علي تنفيذها في العديد من انحاء البلاد ضد المراكز والمنشآت العسكرية الفرنسية في تمام الساعة الواحدة من فجر يوم 30 أكتوبر سنة 1954. ويروي أحمد سعيد كيف امضي ساعات اليوم الموعود بالثورة التي عاشها في صوت العرب وهي مجرد حلم للقادة الجزائريين يريدون دعم مصر لها سلاحا واعلاما منذ زاره في مكتبه علي غير موعد الشاب الجزائري الباسق الطول واسمه التنكري مزياني مسعود في سبتمبر عام 1953.

بدأت يومي مع عصر اليوم بعد محاولات فاشلة للنوم حيث جعلني الترقب اردد لنفسي منذ اسهمت في تبييض نسختين من تكاد تكون الوصف المشترك لجميع كتاب تقارير من جزائريين ومراكشيين وتونسيين واقوال فرنسيين تحررين ثم ان ثمة عناصر اجل و ودعما معلوماتيا متصلا بعناصر كثيرة مطلوبة لانجاح اية ثورة.. ولما لم تكن متوافرة لثورة الجزائر وصناعها الاوائل بالقدرات المناسب معهم لم أكن اعرف الكثير عنهم غير أسمائهم وأعراقهم وأدوارهم القيادية في اطلاق الشرارة الأولي للثورة، مما ج الساعات بدقائقها وثوانيها أملا في وقوع المعجزة في موعدها.. وقلقها بشدة من احتمالات ان تكتشف سلطات الاستعمار ما يريبها ف مسعود (الاسم التنكري لأحمد بن بلللا).. أحاول ان استمد منه بعض الطمأنينة خاصة انه يضم خريطة للجزائر حدد لي عليه الاخرين ومستويات تدريبهم وانواع واعداد اسحلتهم وذخائرهم لاكتشف للمرة الأولي رغم اني قرأت ملخصا لهذا التقرير الامر المنوط به صوت العرب وبدأ في التمهيد له منذ العشرين من أغسطس 1954 يوم ذكري مرور عام علي جريمة الاستعمار في بل يستبد بي مع صباح اليوم الحادي والثلاثين من أكتوبر.. واذ تجاوزت الساعة العاشرة افا!
جأ بفتحي الديب يتصل بي بصوت الشمس لأعاود استرداد حلم اليقظة المرجو، ويمر ليل 31 اكتوبر بطيئا ثقيلا خانقا ليبدأ اول نوفمبر وانا اتمسك بآمال توشك ان تتهاوي وتص رويتير الانجليزية بحروف نبأ يقول ان هجمات وانفجارات وقعت في انحاء متعددة في الجزائر مع الساع

كتبنا أنا والديب وبن بيللا في حجرة صوت العرب البيان الأول للثورة الجزائرية في أربع نسخ

وبينما أنا أقرأ تعليقي في صوت العرب الموجه وفق الحملة الإعلامية – لشعب الجزائر فوجئت بزميلتي ناد عن محاكاة الثورة المغربية وحركة النضال التونسية منهيا التعليق في اقل من دقيقة زمن. لأغلق الميكروفون بعدها ولينطق اللحن المميز الختامي لنشرة أخبار الساعة الثامنة التي كنا قد اطلقنا عليها اسم – كفاح العرب – وتدخل مسرعة نادية هاتفة..

– الجزائر ثارت.. ثارت.. وأدعو نادية توفيق ان تسرع الي قاعة الأخبار العامة بالاذاعة لتأتيني فورا بكل برقية جديدية لوكالات الأنباء لاعلام فتحي الديب قبل اذاعة النبأ واعلان الثورة.

ويتم ما طلبه فتحي من خلال تعليمات صارمة من مراقب الاخبار العامة بالاذاعة عبدالحميد الحديدي () الذي ادرك بخبرته الطو عندما تبين لنادية والحديدي ان مبني اذاعتهما شهدت احدي حجراته وبالتحديد حجرة صوت العرب أول واخر مرحلة من مراحل التفكير والتدبير لثورة الشعب في الجزائر وفق ما اقسم عليه ونظم له الثوار الاوائل من القادة الشبان.

انتظرنا نحو ساعة ونصف الساعة في الاذاعة نتابع خلالها برقيات آلاف التيكرز لمختلف وكالات الأنباء عن الأحداث وردود الفعل الانباء الفرنسية وما نشرته صحف فرنسا المسائية وعلي رأسها فرانس سوار عن الأحداث المتناثرة التي شهدتها ال علي جمال عبدالناصر الذي يبادر بتهنئة فتحي الديب تليفونيا، ويدعوه مبتهجا الي نقل تهانيه لجميع المشاركين من المصريين والجزائريين ايضا.

ويتصل فتحي الديب نحو الساعة التاسعة والخامسة والاربعين دقيقة وبين يدي نسخة من البيان الأول لثورة الاستقلال الجز العلني لحملة تنوير الشعب وانصهاره تباعا في العمليات النضالية حتي يكون الكل الجزائري في الواحد المجاهد، في نفس الوقت الذي يجب علي صو نعتذر عن استكمال البرنامج المذكور انتظارا لوصول انباء مهمة ويكرر المذيع المنوب التنبيه المثير حتي وصلت الاستديو وفي يدي بيان اعلان الثورة الجزائرية.

غير اني افاجأ بمهندس الوردية يدعوني سريعا الي غرفة الكنترول لمكالمة تليفونية عاجلة من مكتب رئيس الوزراء جم بها حتي تصل من داخل الجزائر تفاصيل العمليات فيعاد بثها ولو بعد أيام علي انها بلاغات التنظيم الثوري في الداخل.

واسرع الخطي عائدا الي الاستديو وقد ازدادت قناعتي بعبدالناصر زعيما وقائدا.. لأبدأ في القاء البيان العام باعلان الثورة ف فبراير 1962 عندما اقر ممثل حكومة الرئيس الفرنسي شارل ديجول لممثلي جبهة التحرير الوطني بحق الجزائر في الاستقلال العام ووحدة التراب الجزائري

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول إذاعة ونشر رد «عبدالناصر» على خطاب الرئيس العراقى أحمد حسن البكر

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *