الرئيسية / حوارات ناصرية / شعراوي جمعة… ذكريات زمن التحوّلات

شعراوي جمعة… ذكريات زمن التحوّلات

 

شعراوي جمعة… ذكريات زمن التحوّلات دروس «الريِّس» (1 – 15)

 

  • 27-05-2017

 

شعراوي جمعة هو من دون شك أشهر وزير داخلية عربي، وأحد الأسماء الكبيرة في عصر الزعيم جمال عبدالناصر. تولى مناصب وزير الداخلية، وأمين تنظيم الاتحاد الاشتراكي، وأمين طليعة الاشتراكيين (التنظيم السري لعبدالناصر)، وأحد القوى الرئيسة في مشهد ما بعد نكسة 1967. كذلك شارك في إدارة اللحظة الانتقالية التالية على وفاة عبدالناصر، قبل أن يدخل في صدام مع الرئيس الجديد آنذاك أنور السادات، ما أدى إلى خروج جمعة من المشهد السياسي في الحركة التي وصفها السادات بـ«ثورة التصحيح» عام 1971. وانطلقت بعدها حملة ضارية ضد الرجل استمرت طوال سنوات وجوده في السجن قبل أن يرد إليه الاعتبار جزئياً بعد خروجه حتى وفاته سنة 1988.

رجل بحجم جمعة، وطبيعة المناصب التي تولاها في نظام يوليو، تجعل شهادته وذكرياته على جانب عظيم من الأهمية، كونها تكشف الكثير مما جرى وتلقي بعض الضوء على أحاديث رجال كبار في عصر التحولات الكبيرة، في وقت تمدّدت مصر حضارياً وثقافياً وسياسياً في محيطها العربي، في سنوات شهدت لحظات تاريخية مشحونة بمشاعر النصر والهزيمة والإحباط وتفرق السبل بالأصدقاء.

«الجريدة» تستعرض في هذه الحلقات بعض جوانب شهادة شعراوي جمعة وذكرياته عن الحوادث الجسام التي كان شاهداً عليها وصانعاً لها أحياناً، وتقوم الحلقات على 450 دقيقة سجلها الوزير الراحل في غضون عام 1986 لدى مركز التوثيق.

والبداية مع استدعاء جمعة بعض الذكريات التي عاصرها في حضرة الزعيم جمال عبدالناصر، فالأخير شغل العالم وأحبه المصريون، بمواقفه التي انحازت إلى البسطاء والمستضعفين في الأرض، وكان رغم إغراءات السلطة رمزاً للنزاهة، وهو أمر يتفق عليه الأعداء قبل الأصدقاء. شخص بكاريزما عبدالناصر، كان محل إعجاب يصل إلى مرحلة التقديس بين رجاله، وشعراوي جمعة لم يكن استثناء ضمن هؤلاء، فرغم فارق السن البسيط بينه وبين عبدالناصر (مواليد 1918)، فإن جمعة (مواليد 1920)، كان يتعامل معه بصفته القائد والمعلم والزعيم والأخ الكبير. يسترجع شعراوي جمعة ذكرياته قائلاً:

ما لا يعرفه كثيرون ممن لم يقتربوا من الرئيس عبدالناصر أنه شخصية محببة جداً، تشعر تجاهه بمشاعر مختلطة، لكنها حقيقية، تجد نفسك تحبه وتهابه، وتحترمه، ولا تخاف منه. تحب أن تناقشه وتتعلم منه، وليس هذا بعدما أصبح القائد والزعيم فحسب، ولكن هذه الصفات موجودة فيه منذ أن كان لا يزال ضابطاً صغيراً.

في سنتي 1949 و1950، كنتُ مدرساً في الكلية الحربية، وكان عبدالناصر مدرساً في مدرسة الشؤون الإدارية. كان هو برتبة مقدم أركان حرب، وأنا برتبة يوزباشي (نقيب)، وكنتُ أستعد في هذه الأثناء للالتحاق بكلية أركان حرب، وهي كلية تمنح درجة توازي الماجستير في العلوم العسكرية، والدراسة فيها صعبة جداً.

كنا نستمر في التحضير لخوض امتحاناتها سنتين، ندرس فيها لغتين على الأقل، ونمتحن جزءاً باللغة العربية وآخر بالإنكليزية، ونمتحن في مواد: تكتيك، وشؤون إدارية، واستراتيجيا، وشرق أوسط، ومواد أخرى كثيرة جداً، وكانت تعطي درجة علمية تؤهل الضباط للعمل العسكري والعمل المدني في مستوياته العليا.

في تلك الفترة كان الجيش ينقسم إلى ثلاثة أسلحة: مدفعية، وصواري، ومشاة، وكان أضعفها وأحدثها سلاح المشاة، وكان عبدالناصر أحد ضباط سلاح المشاة، وفكر في هذه السن المبكرة من حياته العملية في أن يشكل «فرقة» تؤهل الضباط الذين يريدون أن يدخلوا كلية أركان حرب متطوعاً، فجمع نحو 70 ضابطاً. كنا نذهب إليه مرتين أو ثلاث مرات أسبوعياً، ويعطينا دروساً في مادتي «التكتيك»، و«الشؤون الإدارية»، وكان يعاونه في هذه المهمة التطوعية الصاغ عبد الحكيم عامر.

كانت خلايا ضباط الأحرار في طور التكوين، وكانت ثمة حركة كبيرة في توسيع دوائر المنضمين إلى تنظيم الضباط الأحرار، وكنت صديقاً للأخ حمدي عاشور الذي كان ضابطاً معي في الكلية الحربية، وكنا ندرس معاً في كلية أركان حرب، وهو عرفني إلى البكباشي جمال عبدالناصر، وجندني في خلية الكلية الحربية بتنظيم الضباط الأحرار.

لم يكتف عبدالناصر بإعطائنا الدروس ضمن مجموعة السبعين، بل وجدت نفسي بعد انضمامي إلى التنظيم ضمن مجموعة من صغار «الضباط الأحرار»، يعطيهم عبدالناصر دروساً إضافية في منزل الضابط حمدي عاشور الذي كان يقطن في شارع مصر والسودان، وكان اسمه يومذاك شارع الملك.

وكان حمدي عاشور يسكن في الطابق الخامس، ولا يوجد مصعد، وكان عبدالناصر يحضر إلينا في هذا المنزل ثلاث أو أربع مرات أسبوعياً، يشرح لنا المواد المؤهلة للدخول إلى كلية أركان حرب، وكان ينزل بعد أن ينتهي معنا ليذهب إلى مجموعات أخرى يؤهلهم للثورة، وللترقي في العلم والعمل.

أستاذية عبدالناصر

كان يريد ضباطاً أكفاء مؤهلين على أعلى درجة من العلم، ولهم مكانتهم في الوقت نفسه، كي يشركهم معه في العمل التمهيدي لثورة 23 يوليو، وما زلت أذكر سعادته واحتفاءه بالناجحين منا، وكان هو أول المهنئين بدخولي كلية أركان الحرب. نجحنا في القبول بكلية «أركان حرب»، ونُقل عبدالناصر من التدريس في كلية «الشؤون الإدارية» إلى التدريس في كلية «أركان حرب»، والمدرس بهذه الكلية له من السلطات ما يمكن أن يضيع مستقبل أي طالب، يعني إذا قال: هذا الطالب لا يصلح، فلن يدخل الامتحانات، وتضيع عليه المدة التي أداها في الدراسة، ويرفض من الكلية، ولا معقب على كلام المدرس بالكلية.

توزعنا على مجموعات، وتم تسكيني في إحدى هذه المجموعات، وكنت أنا ضابط المشاة الوحيد فيها، وكنت عائداً من إنكلترا وكان تخصصي في «التكتيك»، خصوصاً «تكتيك المشاة – الوحدات الصغيرة»، وكان معي ضابط من سلاح «الفرسان» له صلة بالمشاة، ومجموعة أخرى من بقية الأسلحة، وكان عندنا مشروع على الأرض، وكان قائد المجموعة، أو أستاذها جمال عبدالناصر. كان المطلوب أن نعد مواقع سرية مشاة، وهي عبارة عن 100 عسكري، مقسمة إلى ثلاثة أقسام أو ثلاث فصائل، وكل فصيلة نحو 30 عسكرياً، وهذا عملي وهو تخصصي.

قال عبدالناصر: «شعراوي يطلع يعين على الأرض مواقع الفصائل»، فطلعت وعينت المواقع على الأرض، وتناقشنا فيها ووافق الجميع على ما فعلته، ما عدا ضابط «السواري»، فوجئنا به يقول لعبدالناصر: يا حضرة اليوزباشي أنت بتحابي شعراوي جمعة.

فقال له: أحابيه ليه؟

قال له: لأنك أنت مشاة وهو مشاة أنت بتحابيه وطلعته هو يختار المواقع ويتدرب وتمنعنا من المشاركة في التدريب مثله.

هذا اتهام من طالب لأستاذه، ويستطيع هذا الأستاذ أن يضيع الطالب، ويقضي على مستقبله بكلمة، ولكنا فوجئنا بجمال عبدالناصر يقول: هنتكلم في الموضوع ده بعد الظهر لما نرجع إلى الكلية لمناقشة ما نفذناه اليوم.

وحين دخلنا إلى قاعة الدرس في الكلية قال عبدالناصر لضابط «السواري»: يا فلان أنت اتهمتني بكذا وكذا، ولكن أنا سأوضح لك أنا ليه اخترت شعراوي جمعة، مع إني غير مكلف أني أشرح لك، وقال له: الموضوع كذا وكذا وأنت أخطأت وأنا لن أعاقبك، ولكن كل ما أرجوه هو أن تدرك أنك رجل عسكري يبقى لازم تفكر بما تريد مناقشته، خصوصاً إذا كان الذي تناقشه في مستوى أكبر، أو أعلى منك…

خرج عبدالناصر بعدما أعطانا أحد أهم الدروس، وهو كيف يحتوي القائد المعلم أي شخص. وأذكر أن زميلنا هذا ذهب إلى «الريس» وتأسف له وظل طوال عمره يحمل هذا الجميل للمقدم أو «الأستاذ».

تسييس الشرطة

ظلّ شعراوي جمعة يحمل المشاعر نفسها تجاه عبدالناصر حتى آخر يوم عمل معه في سبتمبر 1970، وهو يتذكر لحظة تكليفه بمهمة وزارة الداخلية ولا ينسى تفاصيلها أبداً، إذ يقول:

حين كلفتُ بالوزارة، كان مع التكليف توجيه من الرئيس بأن الواجب الأساسي لي هو «تسييس الشرطة». كان معنى ذلك أن توضع الشرطة أفراداً وإمكاناتٍ في خدمة الجماهير، يعني وضع شعار: «الشرطة في خدمة الشعب» موضع التطبيق العملي، وأن ينفذ بكل صدق وبإحساس. وأذكر الرئيس عبدالناصر وهو يقول لي: «أنت ماسك تنظيم طليعة الاشتراكيين، وأمين التنظيم في الاتحاد الاشتراكي، بالإضافة إلى وزارة الداخلية، وأنت تمثل أمامي سكرتير الحزب، ومن الضروري أن نربط بين شقي النظام السياسي والأمني».

كنت أدرك أن الشرطة في الحقيقة تمثّل دائماً وباستمرار عنواناً للنظام، فهي على احتكاك يومي مع الجماهير، وهي التي يناط بها تقديم خدماتها المختلفة للناس، وهي تعبر بصدق عما إذا كان هذا النظام ثورياً أو غير ثوري. كان لا بد من تقدير موقف سريع، كي أضع خطة التحرك في ضوء هذا التوجيه، وقررت أن يكون التحرك في دوائر ثلاث:

الدائرة الأولى: أن أبدأ بالتحرك مع الضباط وبينهم، وثمة نواحٍ عدة لهذا التحرك، أولاً: الوعي السياسي، ولذلك كان إنشاء معهد تدريب الشرطة، وخُصِّص جزء من المحاضرات للتدريب السياسي والوعي السياسي، وثانياً: العامل الإنساني، كي يشعر كل ضابط داخل الشرطة بأن ظهره مَحمٍ وهو يقوم بواجبه لتحقيق العدالة، يعني لا استثناءات ولا وساطة ولا محسوبية، وكل إنسان يُكافأ بالعمل الذي يؤديه، فإذا جمعنا العدالة مع العامل الإنساني والوعي السياسي، أمكن للضباط أن يتحركوا بنجاح نحو الهدف الذي رسمته.

الدائرة الثانية: وهي ضباط الصف والجنود، وكان هدفي أن آخذ الدائرة الأولى وندخل جميعاً، ضباط الشرطة وأنا، إلى هذه الدائرة المهمة جداً، التي هي في الحقيقة عصب الشرطة، وتتمثل في ضباط الصف والجنود، وأعترف أنه لا أحد في قيادة جهاز الشرطة كان ينظر إلى الشرطي النظرة الصحيحة، بل كانت الجزاءات كثيرة، وكان ثمة إهمال في المعاملة، وغابت الرعاية الاجتماعية، كذلك، لم يكن يتوافر، وهذا مهم جداً، إحساس بالصلة بين القيادة في أعلى درجاتها، وبين الجندي في آخر السلم، أو في نهاية المستويات.

لذلك قررت أن يكون كل اجتماع مع رجال الشرطة في صورة ثلاثة لقاءات، الأول مع الضباط منفردين، ثم لقاء مع ضباط الصف، ومن بعده لقاء مع الجنود منفردين، كي يتحدثوا إلى بعضهم بعضاً وإليّ بصدق وبإخلاص وصراحة من دون حرج أو خوف.

سؤال ونجاح

كان يلح عليَّ في تلك الفترة سؤال ظلّ يؤرقني طويلاً وهو: كيف نتخلص من العقدة بين الضابط وبين الجندي؟ أو بمعنى أصح كيف نقضي على التعالي الوظيفي الذي ينال من كبرياء العسكري، ويجعله باستمرار في حالة خوف ورهبة من الضابط؟ كنت أتصور أن من المفروض أن يحل الحب والاحترام محل هذا الخوف وتلك الرهبة، وأقول بكل تواضع إننا نجحنا في هذا نجاحاً كبيراً.

بعدما استطعت أن أتحرك مع الضباط وأخذتهم إلى دائرة الجنود والأفراد، كان علينا أن نتوجه جميعاً إلى الدائرة الأوسع، الدائرة الثالثة، وهي دائرة الاتحاد الاشتراكي، فنجري أحاديث ونعقد لقاءات مع قيادات الاتحاد الاشتراكي، وكنت خلال زياراتي كوزير للداخلية إلى مقر الاتحاد الاشتراكي أصطحب معي مدير الأمن، وكانت تتمّ اللقاءات بين قيادات الداخلية وقيادات الاتحاد الاشتراكي في إطار متبادل من الاحترام والتقدير، ورتبنا العلاقة بيننا على أساس أن الاتحاد الاشتراكي قد يخدم الشرطة بإيجاد علاقة طيبة بينها وبين الجماهير، وأن تقوم الشرطة بالتخديم على الاتحاد الاشتراكي في أن تؤدي خدمات طيبة لجماهير الاتحاد.

حشود سورية

وأحد المواقف العصية على النسيان التي عشتها مع الرئيس عبدالناصر والتي لا تمحى من ذاكرتي ما جرى في سورية في نهايات سنة 1959. أثناء وجودنا في دمشق، شاهدت ما لم يشاهده إنسان على وجه الأرض، حشود من المواطنين، رجال ونساء وأطفال، يبيتون أمام قصر الضيافة، ثلاثة أيام متتالية، وشاهدت بعيني في حلب وحماة، كيف رفعت الجماهير سيارة جمال عبدالناصر، والناس محتشدة في طوفان من المحبة يحيط به.

في أحد الأيام التي كان فيها الرئيس في دمشق، ونحن برفقته، حضر المارشال تيتو في زيارة إلى سورية. آنذاك، كنتُ أعمل في المخابرات العامة. كنا نجلس في قصر الضيافة، وإذا بحراس تيتو ومخابراته يقولون إنهم لا يصدقون أن هذا الحشد كله لجمال عبدالناصر حقيقي، وقالوا: «أنتم كأجهزة تجمعون الناس وتحشدونهم، لأنه لا يمكن أن تتجمع هذه الجماهير كافة، ويسير عبدالناصر بينهم من دون حراسة».

حاولنا إقناعهم أن هذا الكلام ليس حقيقياً، لكنهم لم يقتنعوا، وفي صباح اليوم التالي، كان من المقرر أن نتحرك فجراً، ونذهب إلى اللاذقية بالسيارات مباشرة، ومنها يغادر المارشال تيتو سورية. وتحركنا نحو 50 كيلومتراً باتجاه اللاذقية، وإذا بعاصفة ثلجية شديدة لم نكن نتوقعها، ولا الأرصاد الجوية توقعتها، واشتدت لدرجة أن السائق لم يستطع السير من كثرة الثلج، وكنا على مشارف قرية تبعد نحو 40 أو 50 كيلومترا عن مدينة حمص السورية، فنزل الرئيس ومعه المارشال تيتو، ونحو أربعة أشخاص آخرين، ودخلنا منزل أحد الفلاحين الذي بادر أهله بإحضار الشاي، وجلسنا نشربه.

فجأة، وتحت هذا الثلج المنهمر، والسيل الكبير، خرجت القرية جميعها، سيدات ورجال وأطفال، لترحب بجمال عبدالناصر وضيفه المارشال تيتو، فقرر الأخير أن نسير في اتجاه حلب بدل التوجه إلى اللاذقية، وانتشر خبر وجود عبدالناصر، إلى أن وصلنا إلى حلب، والجماهير لا يمكن وقف حشودها، ولا يمكن وصف مشاعرها.

قرر المارشال تيتو تأجيل موعد مغادرته إلى اللاذقية، ومكثنا في حلب، والحشود الجماهيرية المتوافدة تزيد على مدار الوقت، نظرنا إلى اليوغسلافيين في أعينهم نظرة ذات مغزى ومن دون تعليق، وأقروا واعترفوا، وقالوا: حتى لو أردتم فلن يمكنكم أن تجمعوا هذا الحشد الضخم. بهذا الفيض من المشاعر وفي مثل هذه الظروف الاستثنائية، كانت تلك الأيام من أمجد تواريخ الأمة العربية، ولسـت أشك لحظة في أن نكسة الانفصال الذي جرت عام 1961 كانت المقدمة الطبيعية لما جرى بعدها بست سنوات في نكسة 1967.

وفاة رياض

في 9 مارس 1969، تٌوفي عبدالمنعم رياض، وكان رئيس أركان حرب القوات المسلحة بعد النكسة، وأحد أكفأ الضباط في العمليات وإدارة المعارك. تلقينا الخبر ونحن جالسون في اجتماع مجلس الوزراء، حيث استلم الرئيس ورقة، نظر فيها ثم أعطاها لفوزي، ثم غادر الأخير بعدها فوراً، فسألنا ماذا حدث؟

واتضح أن عبد المنعم رياض، كان يعاين موقعاً من مواقع العمليات في الضفة، وبعد ذلك سقطت قنبلة وانفجرت إلى جواره، واستشهد. أقيمت جنازة عسكرية شعبية له في اليوم التالي من ميدان التحرير، وحفاظاً على الأمن أمرت بنزول نحو 10 آلاف عسكري من جنود الأمن، لأن الجنازة ستسير من ميدان التحرير إلى جامع شركس، وسيشارك فيها الرئيس وأعضاء مجلس قيادة الثورة والوزراء.

سارت الجنازة في طريقها المرسوم، وتوجهنا من ميدان التحرير إلى أول شارع قصر النيل، وهناك هجمت الجماهير، وذاب الـ 10 آلاف عسكري وسط الجموع الغفيرة التي ملأت الميدان وما حوله من شوارع، وأصبح عبدالناصر وسط الجماهير، وأثناء سيره، جاء إليه من يقول، بعدما غادر أعضاء مجلس قيادة الثورة الجنازة: «تفضل يا سيادة الرئيس من الجنازة، لأننا لن نستطيع السيطرة عليها»، فإذا به يغضب جدا، وأشاح بوجهه عنه، وواصل السير في الجنازة.

كنا عام 1969، بعد النكسة، وبعد التظاهرات عام 1968، وكانت الأجواء متوترة بما يكفي، وكانت حرب الاستنزاف في أوجها، ثم استشهد الفريق رياض، فنزل جمال عبدالناصر وسط شعبه ليس بينه وبينهم حُجَّاب، من دون شرطة أو جيش أو أية حماية، وهذه كانت أسعد لحظات جمال عبد الناصر.

شعراوي جمعة … ذكريات زمن التحوّلات عبدالناصر كما عرفته (2 – 15)

 

 

يواصل شعراوي جمعة استدعاء ذكرياته المشتركة مع الزعيم جمال عبدالناصر، فهو كان قريباً من «الريس» في لحظات فاصلة كثيرة في تاريخ الأمة. لكن جمعة ركز على مواقفه الإنسانية مع الزعيم الراحل، التي تكشف جوانب عدة أخرى في شخصية عبدالناصر وكيفية إدارته رجاله في أيام حملت مستجدات ضخمة. يحكي شعراوي جمعة عن الدروس التي تعلمها من الزعيم في لغة لا تخلو من الحب والفخر والتقدير والاحترام.

بعد قيام ثورة السودان في مايو 1969، وقعت مشاكل بين رئيس الوزراء الصادق المهدي وبين الرئيس جعفر نميري، وتحدث الأخير هاتفياً إلى الرئيس جمال عبد الناصر عن تلك المشاكل، وتمنى عليه أن تستقبله القاهرة. وجاءت معلومات أن الصادق المهدي سيرحل في طائرة من السودان. اتصل بي الرئيس عبدالناصر، وقال لي: نريد أن نضع المهدي في مكان أمين كي لا يغضب نميري، بشرط ألا يظهر فيه أنه معتقل سياسي، ويسهل عليه الحركة، حفاظاً على مشاعره.

أمرت بترتيب «فيلا» قائد كلية الشرطة لاستقبال المهدي، وهي «فيلا» سكنية مجهزة وداخل سور كلية الشرطة، ووجدتها تحقق الغرض بالشروط التي قال عليها الرئيس عبدالناصر، ورتبت الأمور على هذا، ووصلنا إلى المطار لاستقبال الصادق المهدي، وفوجئنا بوجود عبدالخالق محجوب، وهو أحد قادة الحزب الشيوعي السوداني، وعنصر وطني ممتاز جداً، هو وزميله الشفيع أحمد، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني والمناضل العمالي المعروف، فأخطرت الريس واصطحبتهمم في سيارتي وذهبنا إلى كلية الشرطة، إلى حين معرفة التصرف الذي يأمر به.

كان رأي عبد الناصر أنه لا يمكن لنا ولا يجوز أن نعامل عبدالخالق محجوب بمعاملة الصادق المهدي نفسها وإلا فقدنا ثوريتنا، وقال لي: اتصرف على هذا الأساس، ويزعل النميري أو لا يزعل إن شاء الله يطق. ثم عاد يتصل بي يسألني: عملت إيه؟

قلت له: تركت الصادق المهدي في «الفيلا» في داخل أسوار كلية الشرطة، وذهبت بالمحجوب إلى مستشفى الشرطة يبيت فيها ليلته هذه. وفي الصباح اتصلنا بأحد أصدقائه، الذي اصطحب عبد الخالق محجوب ليعيش في شقة مفروشة حراً، كذلك فعلنا مع الشفيع، وبقي الصادق المهدي في «فيلا» كلية الشرطة تحت الحراسة. هذا هو عبدالناصر السياسي اليقظ الذي لا يمكن أن يورطه أحد في عمل يناقض ثوابته ومبادئه تحت سيف الحرج.

ألاعيب البعث

موقف آخر لا أنساه حصل في أغسطس 1970 قبل وفاة الرئيس عبد الناصر بنحو شهر أو أقل. هاتفني «الريس» قائلاً: أنا رايح الإسكندرية وأنت هتعمل إيه؟ أجبته: أنا باقي في مصر. فقال لي: قسم الأسبوع بينك وبين سامي شرف، بحيث أنت تأخذ يومين، أو ثلاثة وتعالَ، وهو يأخذ يومين أو ثلاثة بالتبادل بينكم.

قلت له: والله يا ريس أنا مبسوط هنا، وأولادي موجودين في الإسكندرية، أنا عندي شغل كتير.

فقال: لا، لازم تيجي. فقلت له: حاضر.

حين وصلت إلى الإسكندرية وجدت الأخ سامي شرف عند «الريس»، كذلك الأخ كمال الدين رفعت، وفتحي الديب ومحمد حسنين هيكل وكان وزيراً للإرشاد، وانضممت إلى الاجتماع «المؤتمر»، وكان الموضوع المطروح للمناقشة أحد أكثر الموضوعات حساسية لدى عبد الناصر.

في هذه الفترة كان الموقف بيننا وبين حزب البعث الحاكم في العراق سيئاً للغاية، وكانت ثمة محاولات من بعض العراقيين في مصر لتجنيد عدد من المصريين، واستطاعت أجهزة وزارة الداخلية أن تمسك بهم، وحصلنا منهم على معلومات تفيد بأن حزب «البعث» يسعى إلى تجنيد بعض العناصر داخل القوات المسلحة.

وهذه نقطة حساسة جداً لدى عبد الناصر، فأحد أهم نجاحاته الكبيرة، أنه تمكن بعد ثورة يوليو 1952 أن يبعد الجيش عن السياسة، وأن يمنع تكرار صور الانقلابات التي كانت تحصل في دول عربية عدة، فإذا كان هو لا يسمح بوجود حزبي مصري داخل القوات المسلحة، فالمؤكد أنه سيرفض بشدة أن يسمح لأي حزب عربي آخر أن «يلعب» داخل القوات المسلحة. لذا بدا الرئيس في هذا المؤتمر غاضباً بشدة، واجتمع بي بعد الاجتماع الرسمي وفي وجود الوزير سامي شرف وتكلم بشدة قائلاً لي: أنت مسؤول عن الأمن كله في مصر.

طبعاً مسؤوليتي كوزير داخلية ليس ضمن اختصاصاتها تأمين القوات المسلحة، وثمة أمور حساسة في هذا الشأن من أيام المشير عبد الحكيم عامر، فقلت له: أنا لا دخل لي بالقوات المسلحة. فقال لي: «لا أنت مسؤول عن كل أنواع الأمن». وراح يعطينا دروساً عن العلاقة مع القوات المسلحة، والعلاقة مع الشعب، وتحدث عن مؤامرات الدول الاستعمارية، وعرَّج على الحديث عن العلاقة مع الدول العربية والاتحاد السوفياتي وحملنا مسؤوليات كبيرة.

أتذكر هذا اللقاء وتفاصيل كلام عبد الناصر فيه، وأرى أنها كانت وصية مودع، كأنما أراد أن يبصرنا، دون أن ندري، بالمسؤوليات الجسام التي يضعها على عاتقنا. ورغم إسهاب الرئيس في الحديث معنا في الأمور كافة تقريباً فإنه لم يكن في الحالة النفسية المريحة المعتادة، وحين انتهت المقابلة استأذنته في السفر في صباح اليوم التالي، فقال: لا، اقعد. فقلت له: لا أنا مسافر، وسامي سيبقى هنا.

شعر الرئيس بأنني غير مستريح، ربما من الشدة التي تبدت في كلامه، خصوصاً تحميلي مسؤولية كل ما يحدث على الصعيد الأمني في مصر، فقال لسامي: «أنا شاعر إن شعراوي زعل، على العموم أنا هكلمه بالتلفون لما أنزل مصر».

بعد مرور يومين علمت أن الريس في طريقه إلى القاهرة، وكنت أتابع موكبه بواسطة الشرطة إلى حين وصوله إلى منزله وإذا به على التلفون، قلت له: الحمد لله على السلامة. فقال لي: أزيك أنت لسه زعلان؟ فقلت له: أزعل من إيه؟ مش ممكن يكون فيه زعل، سيادتك تضع المسؤوليات، ونحن ننفذ. وراح عبد الناصر يتحدث مجدداً بالطريقة المحببة والمعتادة وبحسه الإنساني الراقي، حديث الأخ والأب والمعلم.

أخلاق الزعيم

كان عبد الناصر يثق في الرجال الذين يعملون معه، ويحاسبهم بشدة إذا اقتضى الأمر، ولكنه لم يكن ليستمع إلى أية وشاية ضدهم في الوقت نفسه. وحدث معي ما يثبت ذلك ويقدم البرهان الساطع على كلامي.

تلقى الرئيس تقريراً غاية في الغرابة، بأن شعراوي جمعة، يعد لانقلاب ضده، وكان التقرير موقعاً باسم شخص يعرفه هو شخصياً، ويقول إنه حينما أجرى الرئيس تعديلاً وزارياً، أدرج فيه سامي شرف، ومحمد حسنين هيكل، وسعد زايد، وتم ترقية مجموعة أخرى لدرجة وزير. في عام 1970، عقد شعراوي جمعة اجتماعاً مع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وقال: «إن الرئيس اتخذ إجراءات بتعيين وزراء من دون أن يأخذ برأينا في هذا الأمر، ومن دون الرجوع إلينا»، وأنني قلت إنه لا بد من أن نحتج على هذا الأسلوب من الرئيس. ولكن علي صبري طلب مني التروي، وقال إنه لا داعي لأن نهاجم عبد الناصر ونحتج عليه جميعاً، وإن عليّ أن أقابله بمفردي وأبلغه هذا الأمر.

يعني هذا التقرير أن ثمة مؤامرة ضد عبد الناصر، مؤامرة لو قيلت على هذه الصورة لأنور السادات لأعدمنا جميعاً، لكن الرئيس قرأ التقرير وأرسله إلى سامي شرف من دون أية تأشيرة عليه، ولم يهتم بما جاء فيه. إلا أنه فقد الثقة في من أرسله، وتعامل وكأن شيئاً لم يحدث. وفيما لم يفاتحني الرئيس في تقرير يتضمن مثل هذه الوشايات الخاطئة والمثيرة، كان له موقف آخر في حادثة أخرى تدل على حساسيته تجاه أي خطأ قد يحصل من أحد معاونيه.

أسوق مثالاً على ذلك، حينما عُيِّنت محافظاً للسويس، كنت أسكن في شقة صغيرة مكونة من أربع غرف، وكان أبنائي صغاراً، وغادرت إلى السويس، وأمضيت فيها أربع سنوات. كبر أبنائي، وكنا آنذاك نشتري أثاث المنزل بأنفسنا، ولا تتكفل المحافظة به، بل أمنح المنزل من دون أثاث.

قررت أن أسافر إلى دمياط لشراء الأثاث، ولم يكن معي مال يكفي لابتياع حاجاتنا، فاستلفت من بنك مصر 1200 جنيه، واشتريت صالوناً وسفرة وغرفة نوم ومكتباً، ونقلت بعض الأثاث القديم إلى السويس.

بعد أربع سنوات عُيِّنت وزيراً في مجلس الرئاسة المشترك بين مصر والعراق، وكنت أحضر اجتماعات مجلس الوزراء، ولم أكن من الوزراء اللامعين في ذلك الوقت، وكان لدي أثاث يكفي شقتين، وكان أبنائي كبروا، وأريد أن أسكن في منزل كبير. سألت عن القيمة الإيجارية للوحدات السكنية، وعلمت أن ثمة شقة بالمواصفات المطلوبة، ولكن إيجارها مئة جنيه، ما يعني أن أدفع مرتبي كله تقريباً فيها شهرياً.

واستمرت الحال على ذلك إلى أن قابلت الأخ صلاح دسوقي وهو أحد ضباط البوليس المصري القلائل الذين اقتربوا من الضباط الأحرار في البداية، إذ كانت تتجاور كليتا الحربية والبوليس، ما منح الفرصة للاختلاط والتعارف، وهو بنى صداقة مع عدد من الضباط الأحرار، وكان محافظاً للقاهرة آنذاك، وقلت له: يا صلاح أنا عايز أسكن ولا أجد شقة تناسبني.

ذكر لي أن ثمة «فيلا» قديمة في مصر الجديدة، كان يقطنها الأخ فتحي الشرقاوي الذي كان وزيراً للعدل، وأنه خرج من الوزارة الماضية، وأبلغني المحافظ أنه سيطلب منه أن يؤجر لي هذه الفيلا. وافق واستأجرتها من دون أن أراها، وكانت أربعة طوابق، وتصادف أنه أثناء الفترة التي عملت فيها وزيراً في مجلس الرئاسة المشترك، أي نحو سنة، أن زوجات الوزراء الآخرين كن يدعون زوجتي إلى بيوتهن للتعرف إليها، ولم يكن لدينا منزل في القاهرة وعندما استلمنا منزلنا الجديد قررت زوجتي أن ترد دعوة كل الذين دعوها سابقاً، وفعلاً أقامت دعوة كبيرة وانتهت الحفلة، ولكن لم ينته الأمر عند هذا الحد.

دخلت على الرئيس لتقديم بعض الأوراق، بعد نحو 10 أيام من تلك «العزومة»، وإذا به يسألني: هل أقمت حفلة وعزومة في منزلك الأسبوع الفائت؟

أجبت بالنفي، فقال: كيف؟ سيارات كثيرة كانت أمام منزلك.

فأجبته بنعم، وقلت له إنها زوجتي، وشرحت له القصة من البداية إلى النهاية. فقال إنه تلقى معلومات بعد الحفلة تقول إن شعراوي جمعة استغل مركزه وحصل على قصر من الحراسات، وتابع: قلت لنفسي أنا عينت شعراوي وزيراً لأنه رجل شريف ونزيه وكفء فكيف ينحرف عندما يحصل على المنصب؟ فكلفت علي صبري وسامي شرف كل بمفرده ليجمعا لي المعلومات والتحريات بصحة هذا الكلام الذي ذكرته لي الآن، ولكن علينا أن نأخذ درساً مما حدث، والدرس هو: «لا تدعُ كل من هب ودب إلى بيتك، لأن البعض سيخرج ويقلب الحقائق».

هذا هو عبد الناصر، كان حساساً جداً تجاه أي مظهر يدل على انحراف معاونيه، ويتابع كل من حوله ويتحرى ما إذا كانوا انحرفوا. كان يقظاً وفي الوقت نفسه إنساناً يقدر الآخرين ويخاف على سمعتهم وأخاً ووالداً ومعلماً وقائداً كبيراً.

أزمة الزمالك

ثمة ثلاث قضايا لم أتمكّن من مناقشتها مع الرئيس عبدالناصر، تعمد هو ألا يناقشني في قضيتين منها، ولم يمهله القدر كي يناقشني في الأخيرة، وكانت قبل وفاته بساعات.

الواقعة الأولى، التي لم يشأ الرئيس أن يناقشني فيها، كانت تخص اعتصاماً قام به عساكر الشرطة في الجيزة، وحدث أنني فوجئت ذات يوم بعساكر الأمن، أو الدرجة الثانية في الجيزة، تلقوا الضرب، وخرجوا في تظاهرة على طول شارع «نوال» في منطقة «الدقي»، وكان فيه مركز قوات الأمن، وتوجهوا بتظاهرتهم إلى مديرية أمن الجيزة، على بعد نحو ثلاثة كيلومترات، وكانوا يرددون هتافات ضد مدير الأمن والضباط عموماً، ثم عادوا فاعتصموا في المبنى.

هذه كارثة بالمقاييس كافة طبعاً، فلم نكد ننتهي من احتجاجات المدنيين، حتى ندخل في احتجاجات العسكريين! توجهت فوراً من الوزارة إلى مركز قوات الأمن، وكان بعض الضباط متخوفاً من أن يشاهد وزير الداخلية اعتصام العساكر. حاولوا منعي فرفضت، وحين وصلت إليهم وجدتهم يجلسون على الأرض، فطلبت مقعداً، وجلست بينهم، وسألتهم: إيه الحكاية يا أولاد؟

قالوا إنهم خرجوا إلى مباراة كرة قدم في نادي «الزمالك» منذ الصباح من دون إفطار، وإن أحد الضباط تحدث إليهم بطريقة غير لائقة، فيما كان المواطنون يشاهدونهم من النوافذ حول المعسكر، ثم ذهبوا إلى المباراة من دون غداء أيضاً، ووزِّع على كل منهم رغيف خبز وبصلة، وهم اعتبروا تعامل هذا الضابط معهم ماساً بكرامتهم. من ناحيتي، رأيت أن العساكر على حق، واتخذت فوراً إجراءات ضد الضابط وأحلته إلى التحقيق، وأصدرت أمراً بنقله، ونقل المعسكر إلى نقطة أخرى، وانتهى اعتصام العساكر على خير.

حينما عدت إلى الوزارة في المساء، كتبت خطابين للرئيس عبدالناصر، الأول شرحت فيه ما حدث، والثاني تقدمت فيه باستقالتي من موقعي كوزير للداخلية، وسلمتهما إلى سامي شرف، وطلبت منه تسليمهما للرئيس. حينما فتح الرئيس الخطاب الشخصي، وفوجئ بالاستقالة، سأل لماذا يتقدم شعراوي بالاستقالة؟ وحينما علم بالأمر فتح الخطاب الآخر، واطلع على التقرير الذي كتبته، فأعطى الخطابين لسامي شرف، ولم يفتح الموضوع معي بعدها، وكأن شيئاً لم يكن، واكتفى بأنني شرحت له الموقف، ولم يناقشني في الموضوع نهائياً.

موضوع آخر على قدر كبير من الخطورة لم يناقشني فيه الرئيس، وتفاصيله هي أن أحد الإسرائيليين يدعى «إيتان»، أنشأ محطة إذاعية تبث برامجها من شرق البحر المتوسط، وكان يؤكد فيها باستمرار أنه رجل سلام، وأنه سيزور القاهرة، ويعقد مؤتمراً صحافياً يدعو فيه إلى السلام، فطلب مني الرئيس أن أتوخى الحذر كي لا يدخل هذا الرجل إلى البلد، ما يسبب حرجا لنا. لكنني طمأنت الرئيس، وأخطرت الجوازات ورجال المباحث العامة، وأعطيتهم تعليمات حول الأمر، واتخذت الإجراءات اللازمة في هذا الشأن.

فجأة وصلتني معلومات بأن الرجل موجود في القاهرة، وفي فندق «شبرد»، ويعقد مؤتمراً صحافياً هناك. لم يكن أمامنا غير أن نلقي القبض عليه وترحيله خارج البلاد. لكن كيف دخل إلى القاهرة؟ وبالبحث والتحري، اتضح أنه يحمل الجنسية الأميركية، ودخل إلى القاهرة بجواز سفر أميركي، وجاء عن طريق الهند باسم مختلف، وعلمت أن الريس غاضب جداً، وقال لمحمد فايق وزير الإعلام وقتها: أنا زعلان جداً من شعراوي، لكن لن أتحدث إليه.

محاولة اغتيال

التقرير الذي لم يمهل القدر عبدالناصر ليناقشني فيه كان يخص محاولة اغتيال الملك حسين في القاهرة، أثناء مشاركته في مؤتمر القمة العربية عام 1970، وكان الملك وصل إلى القاهرة في 27 سبتمبر، وفي صباح 28 سبتمبر علمت أن إحدى الفتيات كان لها أخ يعمل معي في وزارة الداخلية، وهما من عائلة متوسطة الحال إنما ثورية وناصرية جداً، ارتابت من سيارة توقفت أمام المنزل، وبعد لحظات نزل منها أشخاص يبدون غير مصريين، فاتصلت بأخيها تخبره بشكوكها، فهاتفني بدوره.

وحين استطلعت الأمر أرسلت الخبراء في الدفاع المدني ورجال المباحث العامة، وفعلاً صدقت شكوك الفتاة، واتضح أن السيارة مجهزة بقنبلة معدة للانفجار على طريق موكب الملك حسين، وكانت تقف خلف هذه العملية مجموعة مضادة للملك حسين.

سأل «الريس» عن الأمر، فيما كنتُ أعد تقريراً له، لكن حالت التطورات الطارئة التي جرت بعد ذلك دون فتح الملف برمته، لأن القدر سبقنا جميعاً، إذ رحل جمال عبد الناصر في 28 ديسمبر 1970.

شعراوي جمعة… ذكريات زمن التحوّلات حكايتي مع المشير (3 – 15)

 

 

لم تكن العلاقة بين وزير الداخلية في عصر جمال عبدالناصر، شعراوي جمعة، وبين وزير الحربية القائد العام للقوات المسلحة المشير عبدالحكيم عامر، على خير ما يرام دوماً، بل تخللتها مواقف ووقائع كادت تصل إلى حد الصدام بين الرجلين، وكان عبدالناصر يتدخّل بينهما غالباً لتوضيح موقف لجمعة ربما التبس على عامر. لكن المشاعر المكبوتة بينهما سرعان ما تفجرت في أعقاب هزيمة يونيو 1967، إذ كان جمعة أحد أهم أركان الخطة التي وضعت لتصفية الحالة الانقلابية التي شكلها المشير عامر. عن تلك العلاقة الملتبسة والمتوترة تدور هذه الحلقة من ذكريات شعراوي جمعة.

أول مشكلة بيني وبين المشير عبدالحكيم عامر، انفجرت فيها المشاعر وكادت تودي بعلاقتي به. كان ذلك في مارس 1967، كنت وقتها وزيراً للداخلية، وأميناً لتنظيم «طليعة الاشتراكيين»، وأميناً للتنظيم في الاتحاد الاشتراكي. بهذه الصفة، تلقيت تقريراً من المسؤول عن أمانة التنظيم بمنظمة الشباب الاشتراكي، وفيه بعض المعلومات حول الحياة الخاصة للمشير عامر، وهذه المعلومات بصراحة كانت تقول إنه متزوج من السيدة برلنتي عبدالحميد، وإنها حامل منه.

والحقيقة أني فوجئت بهذه المعلومات التي وردت في التقرير التنظيمي، ولم أكن أعرفها، فأحلت الأمر إلى اللواء حسن طلعت مدير المباحث العامة، وكانت تأشيرتي على التقرير: «للبحث على من يشنع على المشير عبدالحكيم عامر». ولحساسية الموضوع، قمت بإخطار سامي شرف، سكرتير الرئيس للمعلومات في هذه الفترة، وقلت له: «جاءني منشور يقول كذا وكذا، وأحلته إلى المباحث العامة لمعرفة من يشنع على المشير، ونحن الآن نتحرى عن أصل هذه المعلومات».

بعد البحث والتحري وجد اللواء حسن طلعت أن من الضروري إجراء تفتيش لبعض المنازل للحصول على المعلومات الخاصة بالموضوع، وأنه يحتاج لأجل ذلك إلى إذن نيابة بالتفتيش، فوجدت أن الأمر عند هذا الحد يحتاج إلى قرار من الرئيس جمال عبدالناصر. أرسلت إلى الرئيس بالتقرير المتضمن لهذه المعلومات، وعليه تأشيرتي إلى حسن طلعت بالتحري عمن يشنع على المشير، إضافة إلى تأشيرة طلب الإذن من النيابة.

وفي أول لقاء بين الرئيس عبدالناصر والمشير عامر، عرض «الريس» هذه المعلومات عليه وسأله عن صحتها، وبدا عليه الانزعاج الشديد، وفوجئ المشير بدقة المعلومات خصوصاً أنها كانت حقيقية، وصب جام غضبه عليّ، وثار ضدي ثورة عارمة، وطلب من الرئيس إقالتي وعلي صبري، مسؤول منظمة الشباب ومسؤول الاتحاد الاشتراكي، وعبد المجيد فريد، مسؤول أمانة القاهرة في منظمة الشباب.

أسلوب الرئيس

أثناء حضوري اجتماع لجنة تصفية الإقطاع، وكان المشير رئيس اللجنة، إذا به يطلبني عبر الهاتف، نحو الساعة الرابعة، وكان ثائراً وغاضباً جداً، وقال وهو يكاد يصرخ في وجهي: أنت تتابعني أنت والمباحث بتاعتك؟!

فقلت له: لا، اسمح لي أن أجيء إليك وأشرح لك الموقف، ونتفاهم حوله.

فعلاً، ذهبت إليه في منزله والتقيته، وحاولت إقناعه أننا لا نتابعه، وإنما هذه معلومات تلقيناها، فلم يقتنع بالأمر، وصارت أزمة بيني وبينه، وهدّد بالسفر إلى إسبانيا إن لم يُحاسب كل من له علاقة بالتقرير الذي يحوي معلومات صحيحة عن حياته الشخصية، ولست أعلم، ولم أخمن حتى، لماذا اختار المشير إسبانيا، لكنه بدأ فعلاً في تجهيز جوازات السفر بأسماء أخرى استعداداً للسفر إلى مدريد، وبدا أنه مصمم على الأمر.

كلمني الرئيس عبدالناصر، وطلب مني عبر الهاتف، أن أترك له المشكلة، مؤكداً أنه سيحلها وينهيها مع المشير، والرئيس بالطبع يهمه في المقام الأول ألاَّ يحدث خلاف بيننا وبين المشير، وعدم تصعيد الأمر إلى درجة اعتقالنا، وفي الوقت نفسه يهمه أن يُبقي على المشير. فعلاً، تركنا له الأمر، وبدأ يحلّ المشكلة بنفسه، وعلى طريقته. في أحد الأيام، ومن دون مقدمات هدأت الأزمة، وتلقيت اتصالاً من الرئيس يقول لي فيه إنه أنهى الأمر مع المشير، وهو يدعوك إلى فنجان شاي، وطلب مني أن اذهب إليه، والتقيه اليوم في منزله.

ذهبت والتقيته، وإذا به تغير بشكل كامل، والصورة القاتمة التي سيطرت عليه في البداية اختفت. كان يضحك وهو يستقبلني، وبدا أنه نسي الأمر تماماً، وجلسنا نتحدث واستعرضنا كثيراً من الأمور، وكأن شيئاً لم يكن، وانتهت المشكلة على خير. كان هذا هو أسلوب عبدالناصر، يخرج من المشكلة، ثم يحاول حلها مع الأطراف كافة بأسلوب لا يقدر عليه أحد سواه.

موعد الحرب

واقعة أخرى أذكرها للتاريخ، تسجيلاً لموقف تاريخي لعبدالناصر، وتوضيحاً للكيفية التي كان يفكر بها الرئيس، والرؤية الاستراتيجية والمَلَكَة التكتيكية للقائد، وكانت هذه في الحقيقة هي ميزته الكبرى. الواقعة جرت تحديداً في 2 يونيو 1967، وأذكر أنه يوافق يوم الجمعة، اتصل بي عبدالناصر، الساعة الثامنة صباحاً، وقال لي: موشيه دايان عُين وزيراً للدفاع في الحكومة الإسرائيلية، ومعنى هذا أن ثمة نية للحرب. وزير الدفاع الإسرائيلي، ليس له الحق في تغيير الخطة العسكرية، لكن له الحق في مراجعة الخطة. موشيه دايان، يستطيع مراجعة الخطة في فترة من 48 ساعة إلى 72 ساعة، لذلك أتوقع أن تهاجمنا إسرائيل، يوم الاثنين 5 يونيو.

وكان عبدالناصر توجّه بنفسه إلى القيادة العامة للقوات المسلحة، وعقد اجتماعاً مع المسؤولين العسكريين الكبار ذكر لهم فيه ما توافر تحت يديه من معلومات، وما يراه من تحليل للموقف السياسي على أساس كل ما كانت تشير إليه دلائل الحوادث والتطورات. وقال في هذا الاجتماع إنه يتوقع أن يكون العدوان يوم الاثنين 5 يونيو، وأن الضربة الأولى ستوجه إلى قواتنا الجوية، وكان ذلك في وجود قائد القوات الجوية.

أوضح لي عبدالناصر الغرض من إبلاغي بهذه المعلومات مؤكداً: «أقول لك هذا الكلام بصفتك وزير الداخلية، والمسؤول عن الدفاع المدني، وأعطيك أسبقية لأنني أتصور أنهم سيقومون بهجمة واسعة على المطارات، والأسبقية التي أعطيك إياها هي مدن القنال الثلاث بور سعيد والإسماعيلية والسويس؛ بالإضافة إلى القاهرة والجيزة والإسكندرية، وأنا ذاهب الآن إلى مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، وسأقول لهم هذا الكلام.

للأسف، لم تهتم القيادة العامة للقوات المسلحة بكلام الرئيس، ولم تتخذ ترتيبات لمواجهة التصور الذي طرحه عليهم، وكان من المفترض أن يتعاملوا مع تصوره باحتمال أن تكون هذه المعلومات صحيحة أو خاطئة. ولكن للأسف أيضاً أنه في يوم 5 يونيو، وفي التوقيت الذي توقع فيه جمال عبدالناصر، هجوماً إسرائيلياً على مطاراتنا، كان المشير عامر ومعه بعض أركان الحرب متجهين إلى سيناء، وكان قادة القوات في انتظارهم في المطار، وبدأت الضربة في اللحظة التي لم يكن فيها القادة في مواقعهم، وجرت وقائع النكسة المعروفة.

وأقول هنا إن تفكير عبدالناصر، وتحليله الأخبار ودراسته الاستراتيجية الإسرائيلية، جعلته يتوصل إلى التحليل الدقيق للموقف ويعطي المعلومات والنتائج للقادة. لكن للأسف الشديد، لم يستغل أحد هذه المعلومات.

بكاء الجماهير

بعد 5 يونيو 1967، كنا في حالة طوارئ في وزارة الداخلية، ولم أترك مكتبي نهائياً، كنت أنام وآكل وأشرب في الوزارة، حتى الجمعة 9 يونيو، وهو اليوم الذي تنحى فيه الرئيس عبدالناصر، ولم يكن أحد يعرف عن خبر التنحي غير شخصين أو ثلاثة، لم أكن بينهم، بل فوجئت بإعلان الخبر، فما كان مني غير أني استدعيت نائب وزير الداخلية، وطلبت منه أن يستلم الوزارة لأن الرئيس تنحى ويجب عليَّ في هذه الحالة أن أستقيل، وتركت الوزارة لأول مرة منذ 5 يونيو حتى مساء 9 يونيو.

توجهت إلى مقر الاتحاد الاشتراكي، فلم أجد أحداً، فتحركت إلى قصر القبة حيث وجدت أن الرئيس عبدالناصر انتهى من إلقاء الخطاب، وذهب إلى منزله، فقررت الذهاب إليه هناك، وأثناء تحركي في السيارة، شاهدت سيلاً من المواطنين يتدافعون رجالاً ونساءً وأطفالاً إلى الشوارع، وعندما وصلت إلى منزل الرئيس، وجدتني أبكي مع الباكين.

وحين أتيح لي الدخول إلى المنزل، ونجحت في الصعود إليه في غرفة نومه، وجدت نفسي أندفع في القول: عايزين نتناقش في اللي سيادتك قلته دلوقت.

فسألني: لماذا جئت؟ اذهب إلى وزارة الداخلية، وباشر عملك.

قفلت له: لا، أنت تنحيت، وأنا مستقيل.

كانت هذه أول مرة يجد عبدالناصر من يناقشه في قراره بالتنحي رافضاً له، فقام معي وتوجهنا إلى الصالون لنناقش الأمر. كان يُصر على التنحي، ونحن نصر على الاستقالة، أو الاستمرار في مقابل عدم التنحي، وفي تلك الأثناء دق جرس الهاتف، ونحن في الصالون، وغرفة المكتب في الناحية الثانية، وقالوا للرئيس إن الملك حسين على الهاتف، فذهب للتحدث إليه، فانتهزت الفرصة وذهبت إليه، وحينما انتهى من حديثه إلى الملك، قلت له: أريد التحدث إلى سيادتك بعض الوقت.

وأعطيته سيجارة، وكان بدأ يهدأ. قلت: «من الممكن أن تتنحى كما تريد، لكن التنحي في هذه الظروف سيُفسَّر على أنه هروب من المعركة، والأمر الثاني، أن الشعب سيقول إن الأميركيين ضغطوا على جمال عبدالناصر، وجعلوه يستقيل أو يتنحى».

زاد انتباهه عند سماعه العبارة الأخيرة، وأظن أنها دفعته إلى إعادة التفكير في قراره. وقال: من فضلك خذ الموجودين هنا، وامنحوني فرصة للتفكير.

يوم الشعب

قال البعض إن قرار التنحي، ليس إلا «تمثيلية»، وقالوا: إننا رتبنا لخروج الجماهير لتمنع عبدالناصر من التنحي، وهذا الأمر غير صحيح أيضاً، وأشهد أن الجماهير خرجت عفوياً تلقائياً بمن فيها التنظيم الطليعي وقياداته من دون أي ترتيب مسبق يوم 9 يونيو، وهو يوم الحرص على جمال عبدالناصر، ويوم الخوف من المستقبل من دونه. صحيح أنه في اليوم التالي10 يونيو، تدخل التنظيم وتحرك الاتحاد الاشتراكي، ولكن تدخله كان لتنظيم العملية، ذلك أن الجماهير كانت تتوافد بأعداد ضخمة من الأقاليم كافة بهدف منع عبدالناصر من التنحي.

في مساء 10 يونيو، حينما أعلنَّا أن الرئيس عدل عن قرار التنحي، ورجونا الجماهير الانصراف، انصرف الجميع في يسر وهدوء، وفي انسياب من دون مشكلة أو تعقيد. كان 9 يونيو يوم الشعب بلا منازع، وكان 10 يونيو يوم التدخل والتنظيم من الاتحاد الاشتراكي بهدف الحفاظ على مصر وعلى استمرار الثورة.

محاولة انقلاب

ليلة أخرى كانت حزينة، وصاعقة، وثقيلة على النفس. كان ذلك في بداية شهر أغسطس 1967، حينما وصلت إلينا معلومات مؤكدة بوجود مؤامرة للاستيلاء على الحكم بواسطة رجال المشير عبدالحكيم عامر، وكانت تحركاتهم بدأت بعد 11 يونيو 1967، وهو التاريخ الذي أعيد فيه تنظيم القوات المسلحة، وتولى الفريق محمد فوزي القيادة العامة للقوات المسلحة، وأبعد المشير ورجاله من قيادة القوات المسلحة.

بدأت المعلومات تتسرب من المحيطين بالمشير، وكلها تؤكد أنه يُعد الخطة للاستيلاء على الحكم، وحدد موعداً لذلك 25 أو 27 أغسطس. كانت خطتهم أن يذهب المشير إلى أنشاص، مع رجال الصاعقة، ثم يتحرك إلى القناة، ويعلن من هناك أن الجيش يسانده، ويطلب من عبدالناصر، الخروج أو التسليم أو الاستقالة.

حاول جمال عبدالناصر بطرائق مباشرة وغير مباشرة أن يلفت نظر المشير عامر إلى خطورة ما يقوم به من أعمال غير مسؤولة وخارج نطاق الشرعية، وأنه يكفينا ما حدث في 5 يونيو، ولكنّه أدار ظهره لهذه الاتصالات كافة، وفي الوقت نفسه قام بعض ضباط حراسته بتظاهرة عسكرية بالعربات المدرعة مرت في منطقة منشية البكري وتوقفت إلى جانب منزل الرئيس وردد العناصر هتافات تنادي بعودة المشير عامر إلى القيادة.

بدأ المشير بعد ذلك عملية استدعاء بعض ضباط الصاعقة إلى لقاءات في منزله بالجيزة، حتى أنه حوّله إلى ثكنة عسكرية نقل إليها كثيراً من العناصر والمعدات، ووصل به الأمر إلى استدعاء نحو ثلاثمئة رجل من «أسطال» للمشاركة في حراسته علاوة على بعض أفراد من الشرطة العسكرية في تحدٍ سافر للسلطة الشرعية بشكل يهدد بوقوع انقسامات داخل القوات المسلحة.

وفي 21 يوليو1967 نقلت الأسلحة التي كانت موجودة في منزل المشير عامر بمنطقة حلمية الزيتون إلى منزله في الجيزة، وحدث تبادل إطلاق نيران بين من كانوا في بيته وبين بعض قوات الأمن. حينها اقتنع الرئيس عبدالناصر بأن ثمة تآمراً على الحكم وليست نوايا أو إرهاصات، فأمر بتشكيل لجنة ثلاثية تضمّ كلاً من شعراوي جمعة وأمين هويدي وسامي شرف لتجميع وتقييم المعلومات، وعرض التوصيات وتكون مسؤولة عن المتابعة.

كنا في حالة اجتماع شبه دائم، وتوصلت اللجنة إلى خطة أولية مفادها أن المشير عامر كان يتردد على منطقة مصر الجديدة (منزله في حلمية الزيتون) في المساء ويعود إلى الجيزة عن طريق صلاح سالم. كان هذا الطريق في ذلك الوقت مقفراً ليلاً، وكان المخطط أنه أثناء عودته توضع عوائق حيث يضطر إلى تهدئة السيارة، فيوقف هو ومن معه بسرعة تحول دون أي اشتباك. حتى لو تم الاشتباك يكون في أضيق نطاق ويكون الهدف الأساسي إحاطة شخص المشير، وأخذه إلى سيارة أخرى لينقل إلى مكان متفق عليه جُهِّز قبل إتمام عملية الاعتراض هذه.

تحديد إقامة

كان الموقف عصيباً ومأساوياً ومحزناً. كانت مصر خارجة لتوها من نكسة كبيرة هزت الناس، وكانت الأحوال لا تحتمل مزيداً من التردي، وكلفنا الرئيس بدراسة خطط التعامل مع الموقف المستجد بعدما تيقن من مصادر عدة بوجود المؤامرة وموعدها، ولم يكن مستريحاً لحكاية اعتقال المشير على الطريق. طلب مني الرئيس عبد الناصر أن أحدّد إقامة المشير عامر، فاعترضت قائلاً: كيف أحدّد إقامة المشير؟

واستطردت في القول بأن هذا الأمر لا بد من أن يعالج بشكل أعمق من هذا بكثير. فسألني: كيف؟

أجبته: المشير، هو النائب الأول لرئيس الجمهورية، ومعنى ذلك أنه لا يمكن تحديد إقامته ببساطة، وأرى ضرورة أن يحاكم سياسياً قبل تحديد إقامته.

سألني عن كيفية تحقيق ذلك، فأجبت: سيادتك تدعو المشير إلى المنزل، ويستدعى أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين لا يزالون في الحكم، وهم زكريا محيي الدين، وأنور السادات، وحسين الشافعي، ثم توجه إليه الاتهامات، وبذلك يكون حوكم سياسياً، وبعدها من الممكن تحديد إقامته.

فقال لي: أنت عايز تعملها «عشوة مغربية»؟!

أجبته: نعم، هذا أفضل أمر.

وافق عبدالناصر على هذا الرأي، وبنيت الخطة على هذا الأساس، وتمت تصفية أحد أخطر التهديدات قبل أن يعصف بالبلاد.

هذا واحد من أمثلة كثيرة في جعبتي، تؤكد أن جمال عبد الناصر، الرئيس والقائد والزعيم، كان يستمع ويناقش ويفتش عن الحلول البديلة، ويفاضل بينها، ليقرر ما يمكن له أن يقبله منها.

 

عامر طالب عبدالناصر بإقالتي بعد كشف علاقته بالممثلة برلنتي عبدالحميد

المشير هدّد بالسفر إلى إسبانيا إذا لم يغلق ملف زواجه السري

عبدالناصر حدّد موعد الهجوم الإسرائيلي بدقة لكن قيادة القوات المسلحة لم تهتم

الجماهير خرجت في تظاهرات رفض التنحي عفوياً من دون ترتيب سابق

شعراوي جمعة… ذكريات زمن التحوّلات الزعيم… ساعة الرحيل (4 – 15)

  • 30-05-2017

مساء الاثنين 28 سبتمبر 1970، واجهت مصر إحدى أدق لحظات تاريخها الحديث وأصعبها. من دون مقدمات معلنة، وخارج أي توقع مسبق أعلن أنور السادات عبر شاشات التلفزيون رحيل الزعيم جمال عبد الناصر، ما أصاب العرب كلهم بالذهول. في هذه الأجواء المشحونة، يستعيد شعراوي جمعة اللحظة الحزينة وكأنها جرت في الأمس القريب، ويلفت إلى أن الأيام العشرة الأخيرة من سبتمبر، شهدت حوادث جساماً على الصعيد العربي.

في سبتمبر 1970، قطع جمال عبدالناصر إجازته في مدينة مطروح الساحلية، وكانت عطلة شبه إجبارية فرضها عليه الأطباء، وعاد كي يسعى بكل ما يملك إلى حقن الدماء العربية، فدعا إلى انعقاد عاجل لمؤتمر القمة العربية، وفي خلال 24 ساعة تجمع الملوك والرؤساء العرب في القاهرة حول الرئيس المصري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

قرر الملوك والرؤساء العرب تشكيل لجنة على مستوى القمة لتقصي حقائق ما يجري في الأردن، وتشكلت من رئيس السودان الرئيس جعفر نميري، ومعه حسين الشافعي من مصر، والباهي الأدغم رئيس وزراء تونس، والفريق محمد أحمد صادق رئيس الأركان المصري، وهم الذين استطاعوا إنقاذ ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وأحضروه من الأردن حيث كان محاصراً إلى القاهرة ليتمكن من حضور جلسات القمة ممثلاً فلسطين.

وما زلت أذكر أن الرئيس عبدالناصر ظلّ يردّد خلال أزمة «أيلول الأسود» طوال يومي 27 و28 سبتمبر: «إننا في سباق مع الموت»، ولعله لم يكن يدرك حجم الحقيقة المرة في هذا التعبير الذي قاله قبيل رحيله المفاجئ، فلم يكن السباق مع الموت بين الفلسطينيين وبين الأردنيين فقط، وإنما كان بين عبدالناصر شخصياً وبين الموت، كأنه كان يسابق ساعاته الأخيرة كي لا تفلت منه قبل أن يتمكن من أن ينهي آخر مهمة قدمها خدمةً لأمته العربية قبل أن يختطفه الموت ويرحل.

وظهرت جريدة «الأهرام» في صباح ذلك اليوم الحزين، وعلى صدر صفحتها الأولى العناوين الرئيسة التالية: «التوصل إلى اتفاق، بعد يوم من العمل المركز توصل الرؤساء إلى اتفاق بين الأردن والمقاومة، الرؤساء وقعوا الاتفاق مساء أمس واشترك معهم الملك حسين وياسر عرفات»، وانفردت «الأهرام» بنشر آخر توقيع للرئيس عبدالناصر مع توقيعات الملوك والرؤساء.

كانت هذه العناوين الرئيسة التي تصدرت صفحة «الأهرام» الأولى هي نتائج جهد جبار بذله الرئيس عبدا لناصر بالمقاييس كافة فوق طاقة البشر، رغم تحذيرات الأطباء بل ورغم فزعهم من مواصلة مثل هذا الجهد طوال أسبوع كامل، بدأ في 12 سبتمبر 1970، حيث انعقد مؤتمر القمة العربية الأخيرة في ظل وجود عبدالناصر في فندق هيلتون بالقاهرة، وانتهى يوم 28 نفسه بتوديعه أمير الكويت في مطار القاهرة.

وكان عبدالناصر نجح في تحقيق أهدافه في هذا المؤتمر، وكان الهدف الأول بالطبع وقف سفك الدماء في الأردن، والهدف الثاني يتمثل في الحفاظ على قوة منظمة التحرير الفلسطينية وضمان استمرار عملها تجسيداً لنضال الشعب الفلسطيني، والهدف الثالث الخروج من هذا الوضع الخطير الذي تفجر مع حوادث سبتمبر 1970، وسمي عن حق «أيلول الأسود»، بتجميع القوى العربية للعمل معاً على تحرير الأراضي العربية المحتلة ومواجهة إسرائيل في ظل وفاق وتضامن عربيين يتيحان الظروف المناسبة لكسب معركة التحرير.

وكان الملك حسين وصل إلى القاهرة بعدما هيأ الرئيس عبدالناصر الأجواء داخل المؤتمر لتقبل حضوره، حيث كانت غالبية الحاضرين في حالة ثورة شديدة على تصرفات السلطات الأردنية وفعلاً وصل الملك صباح يوم 27 واستقبله عبدالناصر في المطار، وصحبه إلى فندق هيلتون، وبعدها توصل المؤتمر إلى الاتفاق، وانشغل عبدالناصر من صباح 28 سبتمبر في توديع الرؤساء والملوك العرب، واحداً بعد الآخر.

وعلى أرض المطار، وبينما كان الرئيس ينتظر تحرك طائرة أمير دولة الكويت، شعر بألم في صدره، وراح العرق يتصبب منه بغزارة، فطلب سيارته إلى حيث كان يقف لأنه لا يستطيع أن يسير بنفسه إليها كما كان يفعل عادة.

ومع اقتراب عقارب ساعة يوم 28 سبتمبر 1970 من الخامسة والنصف مساء اتصل بي الأخ سامي شرف وزير شؤون الرئاسة هاتفياً، وقال باقتضاب شديد:

ـ سأقلك معي في السيارة لأننا سنذهب إلى «الريس».

اللحظات الأخيرة

جاء سامي واستقللت معه سيارته التي كان يقودها بنفسه، ولست أعرف ما الذي جعلنا لا نتحدث عن أسباب الزيارة غير المتوقعة وكنت، طوال الطريق، أعد نفسي لأي سؤال أو طلبات ربما يريد «الريس» الإجابة عنها أو الاستفسار بخصوصها، لا سيما أن أغسطس كان شهد مناقشات وتعليمات منه في لقاءات مهمة وحاسمة معه في الإسكندرية. وصلنا إلى منزل الريس في منشية البكري، وهناك فوجئت بالأخ فؤاد عبد الحي أحد أفراد السكرتارية الخاصة، وهو في حالة شديدة من اليأس والانهيار لم أشهدهما عليه سابقاً، ومن كلماته البسيطة عرفنا أن: «الريس تعبان جداً».

ركضنا مباشرة باتجاه السلم الداخلي وصعدنا إلى الطابق العلوي قفزاً فوق السلم لندخل إلى حجرة نوم الرئيس. كنت أول من وصل مع سامي شرف إلى حيث وجدنا الرئيس مستلقياً فوق سريره وحوله مجموعة من الأطباء، وفي الحجرة أجهزة كهربائية، وبين الأمل والرجاء والخوف من المجهول جلسنا نراقب الموقف والأطباء يحاولون بذل كل مجهود وكانوا يتدافعون حوله بالإسعافات السريعة، وراح أحدهم يدلك قلبه بينما استخدم طبيب آخر الصدمة الكهربائية.

في هذه الأثناء وصل كل من حسين الشافعي، وعلى صبري، ومحمد حسنين هيكل، وكنت اتصلت بمنزل كل من الفريق أول محمد فوزي والأخ أمين هويدي اللذين وصلا فوراً، وانقسم الحضور بين من يدعو ومن يصلي ومن يتطلع إلى السماء راجياً، وحدث أن اهتز الجسد الكريم بسبب إحدى الصدمات الكهربائية فاستبشرنا خيراً، ولكن للأسف كان عبارة عن رد فعل الصدمة الكهربائية، ثم حان الوقت الذي ليس للبشر فيه أية قدرة على التدخل.

وكانت حكمة الله سبحانه وتعالى أن تصعد روح عبدالناصر القائد والمعلم إلى بارئها نحو الساعة السادسة والربع من مساء 28 سبتمبر 1970.

ما العمل؟

وصل أنور السادات بعدما أسلم جمال عبدالناصر الروح، وعرفنا منه أنه كان خارج منزله في زيارة أسرية عندما استدعي على عجل إلى منشية البكري، ولم يكن يعلم ما حدث، وكانت زوجته برفقته مرتدية فستاناً أخضر اللون، ولم يكن ذلك مناسباً بالطبع، ولكنها لم تكن تدري بدورها ماذا جرى.

وبعدما وصل أنور السادات إلى غرفة نوم الرئيس عبدالناصر كشف الغطاء من على وجه الزعيم، وسأل سؤالاً لست أدرى حتى الآن ماذا كان يقصد به؟ وهل له معنى؟ أو لم يقصد منه أي أمر، ولست أخمن دلالته. فوجئنا به يوجه سؤاله إلى لا أحد ويقول:

ـ هل قام الأطباء بواجبهم؟

كانت الإجابة طبعاً أن الأطباء بذلوا الجهد الممكن، وبعد ذلك تقرّر أن ننزل إلى الصالون في الطابق الأول كي نجتمع ونقرر الإجابة عن سؤال كبير: ما العمل بعد عبدالناصر؟

كان اللقاء الأول الذي يتم بين هذه المجموعة في صالون منزل الرئيس عبدالناصر من دون الرجل، وكان الحاضرون خليطاً من أعضاء اللجنة التنفيذية العليا وبعض الوزراء، وهم:

أنور السادات كان يشغل آنذاك منصب نائب رئيس الجمهورية وعضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وحسين الشافعي كان عضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وعلي صبري عضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وشعراوي جمعة كان وزيراً للداخلية وأمين تنظيم الاتحاد الاشتراكي وأمين تنظيم «طليعة الاشتراكيين»، وأمين هويدي كان وزير دولة برئاسة الجمهورية، والفريق أول محمد فوزي كان القائد العام للقوات المسلحة وزير الحربية والإنتاج الحربي، وسامي شرف كان وزير شؤون رئاسة الجمهورية ومدير مكتب الرئيس للمعلومات، ومحمد حسنين هيكل كان وزيراً للإعلام ورئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير جريدة «الأهرام».

كانت أمامنا قرارات عدة مطلوبة وعاجلة وواجبة، كان علينا أولاً أن ننقل الجثمان إلى غرفة العيادة المكيفة في قصر القبة إلى حين إتمام إجراءات الجنازة، حيث يجب أن نعطي فسحة من الوقت ليتمكن زعماء العالم من المشاركة في الجنازة. وكان علينا ثانياً أن ندعو إلى اجتماع مشترك بين «اللجنة التنفيذية العليا» للاتحاد الاشتراكي وبين «مجلس الوزراء» لتقرير الخطوات التالية.

استقبال الجثمان

مساء يوم الرحيل، كانت ليلة الإسراء والمعراج، وكانت رئاسة الجمهورية تحتفل بهذه المناسبة في قصر القبة، وحين دخلنا إليه وجدنا على المنصة حسن التهامي، وزير الدولة برئاسة الجمهورية، وإلى جانبه الشيخ أحمد حسن الباقوري، وزير الأوقاف السابق، والدكتور صبري الخولي الذي عمل لفترة طويلة ممثلاً شخصياً للرئيس عبدالناصر، فضلاً عن عدد كبير من موظفي الرئاسة. وتشاء الظروف أن يدخل جثمان عبدالناصر إلى القصر وسط تصفيق الجماهير التي كانت حاضرة الاحتفال، وكانت تصفق لسبب أو لآخر، ولكنها بدت للداخلين بجثمانه وكأنها تحية غير مقصودة للعظيم صاحب هذا الجثمان.

أدخل الجثمان إلى غرفة العيادة، وفي طريق عودتنا عرف المجتمعون بوفاة عبدالناصر، فانفض الاحتفال فوراً.

كانت التعليمات صدرت بإبلاغ القيادات بضرورة الحضور إلى اجتماع مهم، وأوقفت الإذاعات والتلفزيون عن نشر البرامج العادية، وبدأت جميعها في إذاعة القرآن الكريم، وبدأ توافد الوزراء إلى قصر القبة، وكان من بينهم من جاء بملابس الميدان، وعند الساعة التاسعة والنصف تقريباً انعقد الاجتماع المشترك بين اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء في القاعة نفسها التي شهدت اجتماعات مجلس الوزراء تحت رئاسة عبدالناصر.

عندما دخل السادات إلى القاعة توجه فوراً إلى المقعد الذي كان يجلس عليه، وهو نائب رئيس الجمهورية، وترك مقعد عبدالناصر شاغراً، وبدأ الاجتماع التاريخي، وكان السؤال الملح على أذهان الجميع:

ـ كيف سنواجه الموقف بعد غياب عبدالناصر؟

كان مطلوبا من الاجتماع أن يتّخذ قرارات عدة في قضايا متنوعة، تمثّلت الأولى منها والأهم والأخطر في الوضع الدستوري، وتشكلت لجنة ضمت كلاً من الدكتور لبيب شقير رئيس مجلس الشعب، وضياء الدين داود عضو اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي والمحامي، وحافظ بدوي عضو مجلس الشعب والقانوني البارز. كانت مهمة اللجنة دراسة الخطوات الدستورية لانتقال السلطة بعد غياب عبدالناصر.

اختيار السادات

قررت اللجنة أن المادة (110) من الدستور التي تنص على أنه في حالة استقالة الرئيس أو عجزه الدائم عن العمل أو وفاته يتولى مؤقتاً الرئاسة النائب الأول لرئيس الجمهورية، ثم يقرر مجلس الأمة خلو منصب رئيس الجمهورية، ويجري الاستفتاء على من يرشحه المجلس للمنصب.

حاز إعمال أحكام الدستور الإجماع، وقصدنا أن نضرب المثل للأمة العربية، وأن نقدم صورة مصر للعالم في أفضل ما يمكن. كنا نريد أن نثبت أن عبدالناصر ترك رجالاً، وأن مصر ستباشر أمورها وفق شرعية دستورية، وأنها ستقطع خط الرجعة أمام أية احتمالات تآمرية أو أفكار انقلابية قد يحلو للبعض ممارستها، والبعض هنا كان مجهولاً، وكنا آنذاك في ساعات المجهول بعينه، وكان قرارنا يتلخص في إسناد رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة إلى نائب رئيس الجمهورية أنور السادات إلى أن يصير الاستفتاء على منصب رئيس الجمهورية خلال ستين يوماً كما ينص الدستور.

أثناء اجتماع اللجنة التي شكلت لدراسة الترتيبات الدستورية ظلّ الاجتماع المشترك بين اللجنة التنفيذية العليا وبين مجلس الوزراء منعقداً، وطرح أنور السادات أن يتولى الرئاسة إلى حين إزالة آثار العدوان، أو إلى حين انتهاء مدة رئاسة الرئيس عبدالناصر، وكان يتبقى منها نحو سنتين، واعترض معظم الحاضرين على الفكرة، لأنها تتنافى مع الاتجاه العام الذي ساد مناقشات الاجتماع من ضرورة إعمال أحكام الشرعية الدستورية وتفادي أية أوضاع مؤقتة.

وكانت النقطة الثانية على جدول أعمال الاجتماع المشترك كيفية إعلان الوفاة، واتفق على أن يتولى محمد حسنين هيكل كتابة بيان يلقيه أنور السادات عبر الإذاعة والتلفزيون، يعلن فيه الخبر للناس، وإلى جانب البيان طرح البعض اقتراحاً بإذاعة بيان للأمة يحدّد سياسة المرحلة المقبلة وأهدافها. وللأسف الشديد، حدثت حول هذا الاقتراح خلافات وتباينات كثيرة، فلم ير البيان النور، وكان من المقرر أن يصدر عن الاجتماع المشترك، بين اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء، ونظراً إلى هذه الخلافات والتباينات صدر عن اللجنة التنفيذية العليا منفردة.

كان الموضوع الثاني المطروح على الاجتماع المشترك يختصّ بإجراءات وترتيبات ومواعيد الجنازة، وأذكر أن الأخ حمدي عاشور، وكان وقتها وزيراً للإدارة المحلية، اقترح أن تبدأ مراسم الجنازة من الجامع الأزهر، وقلت إنه مع تقديري واحترامي للأزهر الشريف بما يحمله من مغزى ومعنى وقيمة تاريخية، إلا أنني اقترح أن تبدأ الجنازة من أمام مقر مجلس قيادة الثورة. كنت أرى أن لانطلاق جنازة جمال عبدالناصر من هذا المكان دلالته الواضحة، ويقدم رسالة للعالم كله، وهو بمنزلة إعلان استمرار الثورة واستمرار المسيرة بعد عبدالناصر.

بالإضافة إلى أن مقر مجلس قيادة الثورة قريب إلى منطقة «وسط البلد»، والطرق هناك متسعة، ويمكن أن يسير موكب الجنازة من دون توقف، ومن ناحية أمنية فإن إمكان السيطرة الأمنية على الموكب في هذه المنطقة أكبر من غيره في أي مكان آخر، خصوصاً منطقة الأزهر التي تعاني دائماً ازدحاماً شديداً، فضلاً عن أنها تضم بيوتاً متداعية عدة، ما قد يسبب اضطراباً في خط سير الجنازة.

وحدث في هذه النقطة نقاش طويل، وتوصلنا إلى إجراء معاينة على الطبيعة للأماكن المقترحة، وكنا اتفقنا على أن يذيع أنور السادات نبأ الوفاة، وأن يذهب بنفسه إلى مبنى التلفزيون، وكلِّف الفريق أول محمد فوزي ولجنة مكونة من شعراوي جمعة، وسامي شرف، وأمين هويدي، والليثي ناصف، وحسن طلعت، ومحمد أحمد، ويشارك معهم حمدي عاشور، ووجيه أباظة، تكون مهمتها الإعداد لترتيبات الجنازة وعملية الدفن، على أن تعتبر هذه اللجنة في حالة انعقاد دائم إلى حين إتمام مهمتها والانتهاء منها على خير وجه.

وأذكر أنه كان ثمة تفكير بأن يتحوّل مقر القيادة العامة مستقبلاً إلى متحف للثورة، وبذلك يصبح المثوى الأخير لجمال عبدالناصر إلى جانب متحف الثورة، وكانت ثمة جمعية دينية تقوم على إنشاء مسجد ومستشفى ودار للرعاية، وكان «الريس» رحمه الله شديد العناية بهذه الجمعية، يساعدها من ماله الخاص، ومن المال العام، وهو المسجد المدفون إلى جانبه جثمان عبدالناصر.

خروج الشعب

تقرّر أن تكون الجنازة أول أكتوبر لإعطاء فرصة أكبر لرؤساء العالم وزعمائه للمشاركة، وبدأت أيام الحزن من يوم الوفاة المصادف الاثنين 28 سبتمبر إلى الخميس أول أكتوبر عام 1970 يوم الجنازة، وكان الشعب كله خرج إلى الشوارع والميادين والساحات الشعبية، من نساء وبنات، ورجال وشباب، جاء العمال وجاء الفلاحون، يردّدون أهازيج حزن ابتكروها تلقائياً في رثاء الراحل العظيم، كانوا يرددون معاً والحزن يعتصر القلوب: «ابكي وابكي يا عروبة، على اللي بناكِ طوبة طوبة»… «يا جمال يا نور العين… سايب مصر ورايح فين».

لم يقتصر مشهد الحزن الكبير على «القاهرة»، ولا على أقاليم مصر كلها، ومدنها وقراها، بل كان المشهد نفسه يكاد يتكرّر في «حلب» و«دمشق» و«حماه»، وفي «بغداد» و«البصرة»، وفي «الكويت» وفي لبنان وفي اليمن شماله وجنوبه، كسا الحزن القلوب كافة في الأقطار العربية التي خرجت مدنها تبكي وتنتحب في أكبر وأضخم وداع شهده العالم حتى وقتها، وكان الحزن في تلك الأيام سيد الموقف من دون منازع.

شعراوي جمعة… ذكريات زمن التحوّلات جنازة الزعيم… مشاهد ومواقف (5 – 15)

  • 31-05-2017
  • شعراوي جمعة مع سامي شرف
    شعراوي جمعة مع سامي شرف
  • ناصر
    ناصر
  • السادات
    السادات
  • محمد حسنين هيكل
    محمد حسنين هيكل
  • مع رحيل الزعيم جمال عبدالناصر، شعر جميع من حوله بالفراغ الهائل الذي تركه، وبدأت أسئلة تُطرح حول خليفته المنتظر، لذلك بدأ شعراوي جمعة بالتشاور مع كل من سامي شرف، وأمين هويدي، ومحمد حسنين هيكل، حول خطوتهم المقبلة. كانت لديهم رغبة في تقديم استقالة جماعية، لكن الانشغال بتجهيزات الجنازة الرسمية للراحل العظيم أجل اموراً عدة، فيما جعل الضغط الشعبي الجارف الجنازة الرسمية تذوب في الطوفان البشري الذي اكتسح مشهد القاهرة في ذلك اليوم الكئيب. جمعة يتذكّر بعض مشاهد جنازة الزعيم العربي ومواقفها التي جرت في العلن وفي الكواليس.

    كان علينا وسط مشاهد الحزن ومشاعره الفياضة أن نعمل على ترتيبات الجنازة، وفي هذه الأثناء ظهرت لنا مشكلة جديدة. كانت وصلتنا معلومات تفيد بأن المنتسبين إلى «الطرق الصوفية» في مصر سيتكالبون على الجثمان ليخطفوه ويسعون به حول جميع مساجد العاصمة، ويطوفون به على أضرحة أولياء الله الصالحين، في «السيدة زينب»، و«الحسين»، و«السيدة نفيسة». وبعيداً عن هذه المعلومات كان مطلوباً أن نؤمن حماية كافية للجثمان، تكفل بها الجيش بالتعاون مع الشرطة، ووضعت خطة محكمة لحماية وتأمين الجثمان أثناء نقله من القبة إلى الجزيرة، وأثناء سير الجنازة.

    كانت أمامنا نقطة مهمة تختص بكيفية نقل الجثمان من قصر القبة إلى مقر مجلس قيادة الثورة، وسط الحشود المنتحبة على رحيل زعيمها، وتقرّر أن تنجز عملية النقل بواسطة إحدى الطائرات «الهيلوكوبتر» على أن ترسو في نادي الجزيرة القريب من المنطقة. وبعد الاطمئنان على آخر ترتيبات الجنازة، وعلى تأمين فندق «الهيلتون»، حيث من المقرر أن يقيم الزعماء والرؤساء المشاركون في تقديم العزاء وفي تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير، قررتُ مع مجموعة من الوزراء أن نبيت معاً ليلة الجنازة في مبنى «هيئة قناة السويس».

    بات معي في تلك الليلة كل من أمين هويدي، وسامي شرف، وحلمي السعيد وزير الكهرباء والسد العالي، وسعد زايد، بالإضافة إلى أحمد مشهور، رئيس هيئة قناة السويس، وكانت حالتنا جميعاً يرثى لها، كانت عاطفتنا تجاه جمال عبدالناصر تماثل عاطفة ملايين البشر في مصر، وفي الوطن العربي تجاهه، وأخشى أن أقول إنها ربما كانت تتخطاها. كنا نحن الذين عملوا إلى جواره، نعمل معه كمناضلين وليس كموظفين، نعمل بحب له، وبحب للبلد، نعمل معه بإخلاص وبصداقة وأخوة لأجل مصر، والعمل مع عبدالناصر لا يمكن قياسه بالعمل مع أي أحد آخر، وهذه أحد الأسباب الرئيسة في خلافنا بعد ذلك مع أنور السادات.

    اختلفت نظرتنا إلى أسلوب العمل مع الرجلين. كان الفارق بين الشخصيتين كبيراً، وكان أنور السادات نفسه يشعر بذلك بشكل واضح. كنا نحب العمل مع عبدالناصر الإنسان والبطل، مع القائد الذي يحميك، مع المعلم الذي يعلمك، والأخ الذي يساعدك، والأب الذي يربت على كتفك وقت الشدائد، لذلك لا يمكن أن تعطي هذا الحب كله الذي تكنه لهذا الوطني العظيم لأي أحد آخر.

    ولست أعرف لماذا يستنكر الناس علينا مثل هذه العاطفة تجاه عبدالناصر، ويسأل بعضهم ما علاقة السياسة بالعاطفة؟ هذه الجذوة من النار العاطفية التي كانت موجودة في داخلنا نحوه هي التي دفعتنا إلى أن نفكر ليلة الجنازة في الاستقالة من المواقع التي عملنا فيها معه، وأقولها الآن متجرداً، وبمنتهي الصدق مع النفس، كان تفكيرنا في تلك الليلة منصباً على الاستقالة بعد خروج الجنازة، وانتهاء مراسم الدفن، كنا نقول لأنفسنا بصوت مسموع: كيف نتعامل مع أحد غير عبدالناصر؟

    رواية هيكل

    قصة التفكير في الاستقالة ذكرها البعض بطريقته، ورد عليها أمين هويدي بطريقته أيضاً، ذكر محمد حسنين هيكل أني طلبت منه أن نذهب إلى مكان نجلس فيه ونتحدث «أنت وأنا وسامي وأمين هويدي»، وقال: استقللنا نحن الأربعة السيارة الرسمية لوزارة الداخلية، وكان شعراوي وسامي شرف وأمين هويدي اتفقوا على أن يمضوا الليل في مبنى هيئة قناة السويس في غاردن سيتي، ومن هناك يستطيعون بسهولة أن يصلوا إلى مبنى مجلس الثورة في الجزيرة، حيث يبدأ تشييع الجنازة. أما أنا فكنت سأمضي الليل في منزلي على النيل مباشرة، وهكذا فإننا كلنا كنا متجهين الوجهة نفسها.

    وعندما اقتربنا من كلية البوليس أوقف السيارة، والتفت ناحيتنا، وقال:

    ـ أولئك الثلاثة، أنور السادات، وحسين الشافعي، وعلي صبري، ينزلون في قصر القبة، ويتصرفون كأنهم حكومة ثلاثية، مثلهم في ذلك مثل كويسغين، وبودجورني، وبريجنيف، بينما نحن الناصريين الحقيقيين، وأقرب الناس إلى عبدالناصر، لم نفعل أي أمر للتنسيق في ما بيننا، أو الاتفاق على أسلوب مشترك للعمل، ما يجعلني أرى ضرورة البحث في الموقف بعضنا مع بعض.

    قلت له: «لنكن واضحين بشأن موقف كل منا. ثمة نقطة نظام أضعها ونصيحة صغيرة أقدمها، أما نقطة النظام فهي أنكم إذا كنتم تريدون التنسيق في ما بينكم بصفتكم وزراء فلا تفعلوا ذلك بحضوري لأني ربما استقر برأيي على الخروج وترك الوزارة».

    أثار قولي غضباً شديداً لدى سامي شرف وقال: «لا، إما أن نخرج كلنا، أو نبقى كلنا»، فقلت: «إني لم أكن أبداً جزءاً من السلطة»، فاعترض بأني إذا فعلت ذلك فسأبدو كأني غير مستعد للعمل تحت رئاسة أي شخص آخر غير عبدالناصر، في حين أنهم سيظهرون في مظهر المستعد لخدمة أي شخص.

    وقلت لسامي: إنه يبالغ، وأني اتخذت قراري بالخروج من الوزارة، وسأتمسك به، لذا فإني لا أوافق على أي تنسيق بين الوزراء في حضوري. تلك كانت نقطة النظام، إما نصيحتي الصغيرة فهي أنه من الخطأ بالنسبة إليهم أن يحاولوا العمل معاً كناصريين، إن فعلتم ذلك، فإنكم، ولا شك، ستثيرون ردود فعل تؤدي في النهاية إلى صراع على السلطة.

    وذكرت رواية هيكل أن سامي زاد انفعالاً وراح يصيح: «عبدالناصر لم يمت»، وبدأ يبكي، ويصرخ بأننا إما أن نبقى كلنا أو نخرج كلنا، وعندئذ فقدت أعصابي، ونزلت من السيارة، واتجهت إلى سيارتي، وكانت تقف وراء سيارة شعراوي مباشرة، وعدت إلى القاهرة.

    هذه رواية «هيكل» عن هذا اللقاء.

    رواية هويدي

    الحقيقة أن أمين هويدي فند هذه الرواية وقال: «لم يمسني هيكل في حديثه من قريب أو بعيد، ولم يمسني الرجل في أحاديثه التلفزيونية التي أجراها عقب أحداث مايو 1971، ولا مسني في مقالاته التي نشرها في «الأهرام» وهو رئيس تحرير لها، وكان من الحكمة، والحالة هكذا، أن أقفز فوق ما قيل وأعبره، كما يفعل كثيرون، ولكني بذلك أكون كاتماً للشهادة، الأمر الذي نهانا عنه الله تعالى في كتابه العزيز، ثم لا أظنني أضير أحداً، حتى هيكل، بقولي ما حدث من دون تحريف.

    ثم يبدأ في التعليق، فيسجل أن اللقاء لم يتم، كما قال هيكل، أمام كلية الشرطة، وبعد انتهاء الاجتماع في مكتب وزير الحربية في كوبري القبة. بل كانت بداية اللقاءات في قصر القبة، قائلا: ذهبت أنا وشعراوي وسامي إلى القصر، لنرى سير الأمور في زيارة خاطفة، وتركنا سامي في الشرفة الخارجية لفترة طويلة، عاد بعدها فجأة ومعه هيكل، ولم أكن أعلم بوجوده في القصر، ولم أكن أعلم أن اتفاقاً تمّ بين ثلاثتهم على اللقاء، بذلك كنت الوحيد الذي يجهل أن اللقاء سيتمّ.

    لم يتم الاجتماع بطريقة مفاجئة، كما يقول هيكل، بل باتفاق مسبق، فإنه من الجائز أن يكون اندفع بغريزته الصحافية إلى مثل هذا اللقاء كي يتحسس الأوضاع بنفسه، ربما لنفسه، وربما لغيره، وربما للغرضين معاً، وليس في هذا عيب، فمن الحكمة أن يعرف كل فرد أين يضع قدمه. وعلى ما أذكر، فإن الاجتماع تم في مدخل مدينة نصر، وليس أمام كلية الشرطة، رغم أن هذا الأمر لا يغير قليلاً أو كثيراً في الموضوع.

    لم يلق هيكل أبداً بهذه النصيحة عن الناصرية، والسلطة، والصراع، ولم يتحدث شعراوي جمعة أبداً عن السادة: السادات، والشافعي، وعلي صبري، كما لم يتحدث عن «الترويكا» الروسية، ولم يصرخ سامي، ولا هو أنكر وفاة عبدالناصر أبداً، لم يحدث أي أمر من هذا كما صوره هيكل في أسلوب غلبت عليه الإثارة الصحافية التي تبعث على التشويق. ولكن كل ما ذكره شعراوي لهيكل هو أننا قررنا التخلي عن مناصبنا عقب تشييع الجنازة، وبعد انتقال السلطة بالطريقة الدستورية، وسأله عن رأيه في ذلك.

    رحب هيكل أيما ترحيب بالفكرة، وذكر أيضاً أنه سيترك المنصب الوزاري ليتفرغ لرئاسة تحرير «الأهرام»، حيث كان الرجل يجمع بين المنصبين، مضيفاً أنه لكل زمن رجاله، وعلى الجميع أن يعيدوا النظر في أفكارهم، وستتعدد اللقاءات في الأيام المقبلة، وسلم الرجل وذهب إلى عربته، من دون أن يفقد أعصابه، أو يغضب، واتجه إلى منزله، ونحن إلى مكتب سامي شرف.

    أسئلة جمعة

    كما نرى، فإن الموضوع بسيط للغاية، ولكنه قدم بطريقة تلقي الظلال على النوايا، ولا شك في أن هذه الظلال كانت بالضرورة تترك آثاراً في النفوس، تتعمق بمرور الأيام. وكي لا ننسى، كانت جثة عبدالناصر ما زالت في قصر القبة، لم تشيّع بعد إلى مثواها الأخير، ومن ناحيتي أقرّر أن السؤال الذي كان يقلقنا هو: «هل من المناسب لنا نحن رجال عبدالناصر أن نعمل مع رئيس غيره، كائناً من كان؟ عند تحليل هذا الكلام من الناحية السياسية ربما لا يكون مستساغاً عند كثيرين، بعض الناس قد يقول: هؤلاء أغبياء، يتركون حكم البلد لأجل العاطفة؟

    والآن أعترف بأن من يتعامل مع رجل مثل جمال عبدالناصر يصعب عليه كثيراً، إن لم يكن من المستحيل، أن يتمكن من العمل مع أحد غيره. كانت العاطفة تجاه القائد تشدنا إلى مثل هذا التفكير، وأدت دوراً كبيراً في رؤيتنا في ذلك الوقت، ولا أنكر أن عوامل أخرى من دون شك كانت تدفعنا إلى أن نفكر بمثل هذه الطريقة.

    ونحن على هذه الحالة نبيت ليلتنا الأولى من دون عبدالناصر، في مبنى «هيئة قناة السويس»، فوجئنا عند الساعة الثالثة صباحاً باللواء حسن طلعت، مدير المباحث، العامة يتصل بي ليقول: «يبدو أن الجنازة لن تتم كما خططنا لها».

    مسار الجنازة

    كان من المفروض، بحسب الخطة، أن تبدأ الجنازة الرسمية من أمام مقر مجلس قيادة الثورة حتى نهاية كوبري قصر النيل باتجاه ميدان التحرير، ومن أمام فندق «الهيلتون» ينسحب الرؤساء والزعماء المشاركون فيها إلى الفندق، وبعد ذلك تلتحم الجنازة الرسمية مع ممثلي النقابات المهنية والعمالية والفلاحين وقيادات الاتحاد الاشتراكي وتمضي في مسيرها حتى المقبرة.

    ولكن ما جرى كان مختلفا تماماً، فالاحتياطات والإجراءات التي تتعلق بالجنازة الرسمية لم تستطع أن تصمد طويلاً أمام تدافع الجماهير في حديقة الحرية وخلفها، وانضمت لحظة بدء الجنازة الرسمية من الخلف، فلم تستطع أن تسير أكثر من 10 أمتار ذابت بعدها، على حد وصف جريدة «الأهرام»، في طوفان البشر الذي استطاع الوصول رغم الجهود كافة التي حرصت على غلق المنطقة، في حضور شعبي فريد فاق كل خيال أو تصور.

    إزاء ذلك، اضطررنا إلى إنهاء الجانب الرسمي الخاص بالرؤساء وزعماء العالم الذين شاركوا معنا في تشييع القائد عند تمثال سعد زغلول بعد أقل من 500 متر من بدايتها، واستمرت الجنازة شعبية من اللحظة الأولى، ومضت في سيرها الطبيعي وسط أمواج من البشر، عند اقترابنا من فندق «الهيلتون» شعر كل من السادات وعلي صبري بالتعب وعدم القدرة على مواصلة السير في الجنازة، فنقلا إلى «الهيلتون»، ومن هناك إلى مقر مجلس قيادة الثورة.

    وبانفعالات أقوى من أية محاولة للسيطرة عليها كان انفجار الشعور الشعبي لحظة أن لمحت الجماهير بطلها جثماناً داخل نعش من الخشب الزان ملفوفاً في علم الوطن ومحمولاً على عربة مدفع تجرها ستة خيول سوداء، وأصبحت العربة بخيولها نقطة في بحر من البشر، بدت محاولاتهم لاختطاف النعش من موضعه، كما لو أن كلاً منهم يريد دفن الرئيس داخل قلبه. وعندما تمسك الحرس الجمهوري المحيط بالنعش، وبجثمان بطله، كان عليَّ، ومعي الفريق أول فوزي، أن نتخذ قراراً وسط تلك الموجات من الانفعالات.

    كان قرارنا أن نفصل بين الجنازة وبين العربة التي تحمل الجثمان، فتسير الجنازة على يمين الطريق وتمضي العربة في طريقها على يساره، واستقللت مع الفريق أول محمد فوزي سيارة مدرعة خلف عربة الجثمان، وطلب أن يسير موكب الجثمان على هذه الصورة بأقصى سرعة ممكنة، وبذلك استطعنا أن نحقق هدفين: أن نحافظ على الجثمان وننقله سليماً تماماً إلى المقبرة، وفي الوقت نفسه أن تمضي الجنازة الشعبية والرسمية بما يليق بجمال عبدالناصر في طريقها المرسوم سلفاً من التحرير إلى مسجد القبة. وأخيراً، وصلنا مع الجثمان إلى داخل المسجد، وأدى شيخ الأزهر الصلاة عليه.

    لحظة نزول الجثمان إلى المقبرة، وهي لحظة لن أنساها على الإطلاق، كنت واقفاً وإلى جانبي أمين هويدي، وإذا بسيدة ترتدي ملابس سوداء، تبدو من فلاحات مصر، لا أعرف كيف وصلت إلى حيث نقف، تزيحني وهويدي بقوة، وتقف في مواجهة الجثمان، وتقول والحزن يعتصر قلبها وقلوب الموجودين: سايبني لمين يا ريس؟ إلى اليوم ما زلت أذكر تفاصيل تلك الحادثة، وقد بدا لي أن مصر جاءت في صورة تلك السيدة البسيطة لتسأل عبدالناصر هذا السؤال لحظة وري التراب.

    اتفاق العرب

    سار في الجنازة 100 ممثل لمئة دولة في العالم، من بينهم 30 رئيساً و20 رئيس وزراء، ولم تر مصر، ولم يشهد التاريخ، وأظنه لن يشهد، حشداً جماهيرياً وشعبياً مثلما حدث في جنازة عبد الناصر. كانت الطائرة الهيلوكوبتر تتحرك بجثمانه في خط سيرها المقرر، وكنت أتابعها بنظري وأنا أردد بيني وبين نفسي هذا الجزء من بيت الشعر: «علو في الحياة… وعلو في الممات».

    عاش عبد الناصر في قلوب محبيه، وظل عالياً في نظر جميع الناس، وراجعوا الشعر والنثر، وكل الكلام الذي قيل أو كتب فيه، لن تجدوه قيل في أي أحد غيره، من عام 1970 إلى اليوم لم نر ولم نقرأ مثل هذا الكلام في زعيم أو رئيس دولة، ولم نشاهد مثل هذا الحشد الذي اجتمع على طول الرقعة العربية من الخليج إلى المحيط لتوديع عبد الناصر.

    وفي سابقة هي الأولى والأخيرة من نوعها، اجتمع قادة الأمة العربية وممثلوهم الذين حضروا إلى القاهرة، تلبية لاقتراح من الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، وأصدروا بياناً أكدوا فيها تمسكهم بنهج رائد القومية العربية، وقال البيان: «نحن قادة الأمة العربية وممثلو قادتها من ملوك ورؤساء، مجتمعون في القاهرة يوم وري جثمان عزيزنا الراحل، وفقيدنا الكبير، المقاتل المستبسل، والبطل الجسور، المغفور له الرئيس جمال عبد الناصر، وقد كنا نحمل أحزان أمتنا الكبيرة عليه، وفجيعتنا فيه وأمتنا أشد ما تكون حاجة إلى حكمته، وإلى حزمه وعزمه، وإلى صدق جلده وجهاده، ونبل معدنه ومراده».

    كان هذا رثاء الملوك والرؤساء العرب لعبد الناصر عام 1970، ولست أعلم أن رثاء مثل هذا حدث لغيره من العرب جميعاً، والتاريخ شاهد، ولا يزال يشهد، على أن هذا لم يتكرر، وأعتقد أنه لن يتكرر.

    عن admin

    شاهد أيضاً

    ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول إذاعة ونشر رد «عبدالناصر» على خطاب الرئيس العراقى أحمد حسن البكر

    سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول …

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *