الرئيسية / حوارات ناصرية / نجاح عبدالناصر وفشلنا

نجاح عبدالناصر وفشلنا

 

 

 

– فتحي بالحاج

لاشك أن النظرة الموضوعية على الواقع العربي، تظهر لنا البون الشاسع بين ماعاشه العرب في عهد عبدالناصر: عزة وتفاؤل وكرامة وبين ما تعيشه الأمة الآن من استكانة ومذلة ومهانة. هذا يعني بالنسبة لنا أن ما تعيشه الأمة الآن وبعد أربعة عقود من الحكم والتحكم القطري، هو “ثمار” الوعود التي أطلقتها الذين خذلوا البديل القومي العربي التقدمي الذي حمله عبدالناصر باسم الحداثة وباسم الدين تارة وباسم الوطنية وباسم القطرية أولا. إن القوى القطرية وتوابعها تحاول التهرب من نتيجة ما اقترفت أيديها، بتحميل ما يجري إلى عهد عبد الناصر، ونكسة 1967. إنها محاولة هروب جبانة من تحمل المسؤولية. أربعة عقود كافية للاقلاع تحت
شعارات التنمية الشاملة، والسلام، والانفتاح، إن مثل هذه الحقبة كانت كافية للعديد من الأمم والشعوب الأخرى للاقلاع والخروج من واقع الهزيمة: اليابان ألمانيا… لكن الخيار الاقليمي، أدى إلى ما نحن فيه، إن القوى الاقليمية هي المسؤولة عن الانهيارات المتتالية لهذه الأمة. هذه الحقيقة لا يجب أن تحجب علينا مسؤوليتنا نحن القوميين العرب فيما تتعرض له الأمة العربية من مخاطر. لقد قام عبدالناصر بدوره وحافظ على الأمانة. في ذكرى ثورة يوليو علينا الاعتراف أنه بقدر ما نجح عبدالناصر في فرض المضامين القومية فشلت الحركة القومية في استكمال مسيرة المشروع القومي الذي أعطاه عبد الناصر بعدا جديدا ـ بناء الدولة ـ الأمة، الأمة العربية، دولة ديمقراطية تحررية تحقق العدل والكرامة الانسانية ـ وفشلت أيضا في الحفاظ على المكاسب والمواقع التي تحققت في عهد عبدالناصر. صحيح أنه تمت إزاحة المشروع بقوة الحديد والنار على جماهير عبدالناصر بالمداورة والخديعة، وبأساليب الارهاب الفكري والنفسي والجسدي، لكن على الأخوة الاعتراف بالواقع ذلك أن الاعتراف بالواقع كما هو مقدمة لتغييره. لذلك أستغرب حالة التوتر التي تصيب بعض الأخوة من مجرد أن يُكتب أن حركة التحرر العربي فشلت في تحقيق أهدافها.لا نريد أن نملئ المواقع الالكترونية كلمات وردية وأحلام واشعار والواقع القومي العربي أكثر مأساوية. وهذه دعوة للمواجهة لادعوة لتثبيط العزائم.

تتناول الاقليمية والدينية والطائفية تجربة ثورة يوليو الرائدة من منطق الحقد وتصفية الحسابات، وتعمل على ترسيخ روح الهزيمة حتى تتمكن من ضرب الروح القومية العربية. لقد تعددت وتناقضت الخلفيات الايديولوجية التي ينطلق منها بعض المثقفين الطفوليين لكن جمعهم العداء لفكرة الوحدة العربية، يدفعهم الحقد القبلي والطائفي لتصفية الحسابات مع الثورة التي أرعبتهم ولا زالت ترعبهم، وترتعش أياديهم كلما ذكرت أو ذكر اسم قائدها.. يحكمون على ثورة يوليو انطلاقا من الدفاع عن المصالح القطرية و الاقليمية و استجابة لرغبة دوائر خارجية و استعمارية. أما نحن القوميون العرب المؤمنون بحق أمتهم في الحياة فيقدمون تفسيرا مخالفا و مغايرا دون ستر او تستر عن الأخطاء التي صاحبت التجربة هدفهم التصدي لبناء المستقبل.

وفي هذه الذكرى العزيزة نقول أن أبرز نجاحات ثورة يوليو وقائدها هو تمكنها من فرض مضامين جديدة داخل الحقل السياسي العربي، هذه المضامين ماكان لها أن تدخل الى بيوت العرب بحكم سيطرة الفكري التقليدي السلفي لولا تلك المقدرة الفذة لعبد الناصر في النفاذ الى قلوب الجماهير العربية. فقد تمكن عبد الناصر من تفعيل الواقع العربي. إن امتلاك عبدالناصر للحس الثوري مكنه من أن يخرج من اطار الاقليمية المصرية، وحدود الدولة القطرية ملتحما بالقضايا القومية غير آبه بالمخاطر التي واجهته، واضعا الدولة المصرية في خدمة القضايا القومية لا العكس أي توظيف القضايا القومية في خدمة الدولة المصرية.. لقد اكتشف عبدالناصر أن أمن مصر وتقدمها هو في أمن الأمة العربية، و سلامة مصر هو في سلامة الأمة العربية. موظفا دور مصر المركزي حضاريا ديمغرافيا و استراتيجيا فقد كان عبد الناصر واعيا للدور الريادي لمصر داخل الوطن العربي و هو في كل المعارك التي خاضها ودعا إليها كان في حالة الدفاع أي في مواجهة قوى معتد ية من الخارج. لقد اكتسب هذا الدور التاريخي، قيادة حركة التحرر العربية، وتحول من خلال خوض المعارك إلى زعيم يعبر عن هموم جماهير الأمة عن آلامها وآمالها. لم يتحرك عبدالناصر بدافع النزعة الذاتية، بل كان يستجيب لمطالب الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج كان التعبير الحي عن حالة النهوض التي عمت الوطن العربي. لقد كان يتحرك من موقع قيادة الجماهير العربية من المحيط الى الخليج، فالجماهير العربية كانت تعتبر جمال عبد الناصر قائدها ـ و هو لم يكن قائدها بحكم وظيفته كرئيس لأحدى الدول العربية بل كان قائدها بحكم تصديه للدفاع عنها في معاركها التحررية. تمكن من خلق علاقة مباشرة مع الجماهير العربية على اساس الانتصار الحقيقي لا الكلامي للقضايا القومية وبالرغم من هذا الثقل الحضاري لمصر والشخصي لعبد الناصر فقد عجزت “الدولة المصرية” في تحقيق النصر المطلوب و ذلك يعود أيضا لأسباب أخرى نطرحها في مجال آخر للحديث. لكن عبدالناصر نجح في أن يفرض المضامين القومية على الدولة المصرية، والدويلات العربية الأخرى ولم تكن الدويلات القطرية الأحرى بقادرة على المجاهرة، بعدائها للقضايا القومية. و انتقل عبد الناصر الى جوار ربه و هو بدون منازع زعيم للأمة العربية. إن الذين يتحدثون عن الانجازات في عهد عبدالناصر بدون الانتباه إلى ماشكلته الدولة القطرية من عائق، يعيشون على وهم أن القطرية قادرة بتحمل مسؤولية القضايا القومية، التي نعتقد أن حلها لا يمكن أن يكون إلا بامكانيات قومية. لقد كان عبدالناصر في مسيرته بين قوتي جذب مصالح الدولة المصرية بما تمثلها من صراعات داخلية و مستحقات دولية و مصالح الأمة وما تتطلبه من تضحيات. وكان عبدالناصر في كل مرة بمقدرته الثورية يرجح كفة الخيار القومي، كفة المصالح القومية مستجيبا لنداءات الجماهير العربية التي تطالبه بالالتحام اكثر بقضايا الامة العربية و اعلان القطيعة النهائية مع الأنظمة العربية الرجعية. كانت هزيمة 1967 هزيمة للقطرية ولم تكن هزيمة للخيارات القومية. قرار مواصلة المقاومة والمواجهة كان قرارا ناصريا قوميا أما مصلحة الدولة المصرية فقد عبرت عنه القوى الاقليمية بخيارات أخرى. قرار الوقوف مع ثورة اليمن كان قرارا قوميا أما مصلحة الدولة المصرية فقد عبرت عنه قوى الانعزال والتقومن القطري بلغة أخرى. لقد تمكن عبد الناصر أيضا من تفعيل الجامعة العربية واعطاءها نفس تقدمي ومن فرض محاور للنضال العربي. لقد كان الصراع داخل النظام الاقليمي العربي بين القوى الرجعية و القوى التقدمية لكن عبدالناصر وضع للكل كانت خطوطا حمراء لايمكن تخطيها: الاعتراف بشرعية اغتصاب فلسطين. لقد تمكن عبد الناصر بحسه الثوري أن يفرض شعارات ثورية ووحدوية و استطاع ان يرعب الخونة و يحسبوا له الف حساب. لقد كان عبد الناصر واعيا في نفس الوقت بحجم العوائق القانونية التي تشل حركته و تعيقه في المساهمة المباشرة للعمل الثوري. وهو يعرف من موقع قيادة حركة التحرر العربية أنه عاجز عن الايفاء بهذه المهمة القومية أي بناء التنظيم السياسي القومي العربي لأن العوائق الدولية و المحلية الكثيرة تمنعه من أداء هذا الدور بالرغم من العلاقة الخاصة التي كانت بينه و بين الجماهير العربية. ونعتقد أن احساسا منه بجسامة هذه العوائق فانه اطلق نداء الفزع في خريف 1963 دعا القوميين العرب الى ضرورة بناء الحركة العربية الواحدة بعيدا عن الحكام. دعاهم الى العودة الى القاعدة الجماهيرية العربية لتنظيم صفوفهم وقد كان هذا النداء نداء الفزع و الخوف من الفراغ السياسي و التنظيمي الدي تعيشه القوى الوحدوية أنذاك. بتأكيده على ضرورة البناء الداخلي داخل الأقطار كان عبد الناصر يذكر الوحدويين العرب أن المسؤولية مسؤوليتهم و لكنه يريد التأكيد في نفس الوقت ذاته أنه يوجه النداء من موقع رئاسة الجمهورية المتحدة. بما تعنيه من التزامات دولية. أعلن أنه ليس مسؤولا عنها و انها مسؤولية الجماهير العربية. فلقد كان واعيا ضرورة أن تظل الدولة تحت قيادته متحررة من المسؤولية عن نشاط لا يتفق مع طبيعتها و أن تنشا الحركة العربية الواحدة متحررة من قيود تبعيتها للدولة.

لقد كان عبد الناصر في قمة المعاناة و التمزق وبعض الخطوات التي يفسرها بعض المحللين بالتناقض ليست الا تعبيرا على ذلك الصراع بين الثورة في بعدها القومي العربي و بين الدولة المصرية و مصالحها الاقليمية. ــ كانت الثورة تدفع بعبد الناصر باتجاه الجماهير العربية باتجاه تنظيمها و تأطيرها و اطلاق حركتها العربية الواحدة و السلطة كانت تشد عبد الناصر بعيدا عن هذه الجماهير و عن فكرة العمل المنظم و عن فكرة العمل القومي ذاته. لقد نجح عبدالناصر في تجاوز العديد من المعوقات، وتمكن بحسه الثوري أن يفرض مضامين نضال حقيقية على كل القوى السياسية العربية، وتمكن من تجميع الجماهير العربية وأغلب تياراتها، حول المشروع القومي العربي، ونجح في قيادتها في الاتجاه الصحيح، وفي تحقيق نهضة عربية ثانية. لقد نجح عبدالناصر في استقطاب الجماهير العربية، وتجميعها.وبعد أربعة عقود، لنعترف أننا فشلنا في الحفاظ على مكاسب التي حققها عبدالناصر. لذلك نرى لزاما علينا تنبيه الصادقين من المؤمنين بمشروع عبدالناصر الوحدوي الكف عن الجدل البيزنطي العقيم الذي أعاقنا، ندعوهم إلى الخروج من حلقة المداحين والمهللين، ندعوهم إلى الخروج من الأبراج العاجية، والاستفادة من تجربة يوليو الثورية والاستفادة من منهجها، ومن طريقتها في استقطاب جماهير الأمة. ندعوهم إلى العودة إلى الجماهير العربية. ندعوهم إلى الالتحام بها، وإنه لمن خلال الممارسة الفعلية مع الجماهير، تتم عملية الاختبار، ويصدق الاختيار.

عن admin

شاهد أيضاً

ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول إذاعة ونشر رد «عبدالناصر» على خطاب الرئيس العراقى أحمد حسن البكر

سعيد الشحات يكتب: ذات يوم 5 أغسطس 1970.. القاهرة ترفض الرد على احتجاج بغداد حول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *